22-مارس-2023
 قيس سعيّد ووزير الخارجية التونسي

الرئيس التونسي رفقة وزير الخارجية المعيّن حديثًا نبيل عمّار

 

عند صعود قيس سعيّد لرئاسة الجمهورية في تونس شتاء 2019، مثّل السؤال عن كيفية إدارته للملف الديبلوماسي وماهية خياراته، سؤالًا رئيسيًا بحكم حالة الضبابية حول مواقفه باعتباره قادمًا من خارج النخبة الحزبية الكلاسيكية من جهة ولانعدام تجربته في المجال الدبلوماسي من جهة أخرى. وقد تكثّف السؤال بالنظر لاختصاصه الحصري، طبق دستور 2014 وقتها، في إدارة الشأن الدبلوماسي بما يعني تحرّره، عن إكراهات التوازنات البرلمانية.

تبيّن وعلى مدى 3 سنوات ونصف، الارتباك في أداء الدبلوماسية خاصة بمناسبة تناول ملفّات تهم دولًا في المجال الحيوي التونسي ومثال ذلك قضية الصحراء والمغرب

تبيّن تباعًا للملاحظين، وعلى مدى ثلاث سنوات ونصف، الارتباك في أداء الدبلوماسية خاصة بمناسبة تناول ملفّات تهم دولًا في المجال الحيوي التونسي، ليمثّل الموقف من قضية الصحراء، بالخصوص ولوحده، وبما أنتجه من أزمة دبلوماسية مع المغرب، مؤشرًا دلاليًا عن قطيعة مقارنة بالموقف التاريخي منذ الاستقلال والذي يوصف في اللغة الدبلوماسية التونسية بالحياد الإيجابي.

العلاقات الثنائية مع فرنسا، وليبيا، والجزائر، وتركيا، وأيضًا دول أخرى، شابتها، طيلة عهدة قيس سعيّد، فروقات في الخطاب الرسمي، بدت أيضًا لافتة وأحيانًا متمايزة مقارنة بالإرث الدبلوماسي وحتى العلاقات مع المنظمات الإقليمية لم تخرج بدورها عن دائرة التوتر: تحديدًا الاتحاد الإفريقي بمناسبة أزمة خطاب العنصرية ضد أفارقة جنوب الصحراء.

 

 

  • أزمات مع المغرب وليبيا والاتحاد الإفريقي.. وتآمر مع سفراء أوروبيين؟

لم تعرف الدبلوماسية التونسية تواتر أزمات مع دول ومنظمات إقليمية، في مدى زمني قصير، كما شهدته مع قيس سعيّد. في ملف قضية الصحراء الغربية، ذي الحساسية العالية وهو الملف الذي أعاق بناء المشروع المغاربي، حافظت تونس، منذ زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على موقف محايد بين الجارتين الجزائر والمغرب قوامه عدم الانحياز لأي موقف والسعي لأداء دور الوسيط، وهو ما حافظت عليه الرئاسة التونسية بعد الثورة، زمنيْ المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي.

لم تعرف الدبلوماسية التونسية تواتر أزمات مع دول ومنظمات إقليمية، في مدى زمني قصير، كما شهدته مع قيس سعيّد

تزامن صعود سعيّد عام 2019 مع تولّي تونس عضوية مجلس الأمن سنتيْ 2020-2021، ما يفترض إعلان مواقف من القضايا الجارية، الإقليمية منها والدولية الموضوعة على طاولة المجلس الأممي، ومنها ملفّ الصحراء عبر بوّابة التصويت على القرار الأممي النصف السنوي حول تجديد بعثة "مينرسو" (بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية).

 

 

في أكتوبر/تشرين الأول 2021،ن وقبيل شهرين من انتهاء مدة عضويتها، فاجأت البعثة التونسية في نيويورك، المتابعين، بامتناعها عن التصويت لفائدة القرار الأممي صحبة روسيا، مقابل تأييد بقية الأعضاء الـ13 لفائدة القرار، بما يعني الخروج عن الموقف التقليدي في التصويت.

مثّل الامتناع عن التصويت انحيازًا واضحًا للموقف الجزائري الرافض للقرار الأممي وبالتماثل تصديًا بينًا للموقف المغربي، بما يعني خروجًا عن الحياد الإيجابي، وهو موقف لا يمكن فهمه إلا كمكافأة تونسية لموقف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الداعم لـ"صديقه" الرئيس التونسي بعد انقلاب 25 جويلية 2021.

تبيّن بوضوح خروج سعيّد عن الإرث الدبلوماسي التقليدي التونسي بعد استقباله الشخصي لرئيس جبهة البوليساريو الذي تمت دعوته للقمة الإفريقية اليابانية "تيكاد" في تونس

تبيّن لاحقًا بوضوح خروج سعيّد عن الإرث الدبلوماسي التقليدي بما ظهر كموقف "عدائي" مع المغرب في أوت/أغسطس 2022 وذلك بمناسبة استقباله الشخصي لرئيس جبهة البوليساريو الذي تمت دعوته للقمة الإفريقية اليابانية "تيكاد".

أدى هذا الحدث لأزمة دبلوماسية بين تونس والمغرب في تبادل بيانات حادة اللهجة بين وزارتي الخارجية في البلدين، ودعوة المغرب لسفيرها بتونس للتشاور. مثّلت هذه الأزمة المستمرّة في صمت عنوانًا رئيسيًا عن خروج سعيّد عن الجادّة وفقدان تونس لقدرتها على أداء دور الوسيط في الملف المغاربي.

جار مغاربي آخر تكرّرت معه "الحوادث" الدبلوماسية منذ صعود سعيّد، وهو ليبيا. البداية انطلقت بإصرار الرئيس التونسي على دفع الليبيين لصياغة دستورهم عبر زعماء القبائل أسوة بالمثال الأفغاني حسب طرحه، وهو ما لاقى انتقادًا واسعًا في الصفوف الرسمية الليبية، وما اُعتبر جهلًا بالتوازنات السياسية والمجتمعية في الوضع الداخلي بالبلد المجاور شرقًا.

جار مغاربي آخر تكرّرت معه "الحوادث" الدبلوماسية منذ صعود سعيّد، وهو ليبيا والبداية كانت بإصرار الرئيس التونسي على دفع الليبيين لصياغة دستورهم عبر زعماء القبائل أسوة بالمثال الأفغاني وهو ما لاقى انتقادًا واسعًا

في جوان/يونيو 2020، صرّح سعيّد، أيضًا، من باريس أن شرعية حكومة الوفاق الوطني الليبية "مؤقتة" فيما مثل انحيازًا ضمنيًا للموقف الفرنسي الذي يراهن أيضًا على دور للحكومة المدعومة من اللواء المتقاعد خليفة حفتر شرق البلاد، وقد أثار حينها التصريح جدلًا داخل ليبيا أيضًا.

مؤخرًا في مارس/آذار 2023، أثار سعيّد النزاع القانوني بين تونس وليبيا حول حقل البوري النفطي الذي حسمته محكمة العدل الدولية لفائدة الجار الشرقي قبل نحو أربعة عقود. لاقى التصريح، الذي لم يُفهم الغاية من التذكير به وخاصة الحديث عن حصول تونس عن "الفتات" من الحقل، ردة فعل رسمية في ليبيا مع تأكيد رئيس لجنة الطاقة بالبرلمان الليبي عن تدارس رد رسمي على التصريح الرئاسي.

 

 

في سياق متصل، شهدت العلاقة مع تركيا أزمة على خلفية إدانة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقرار حل البرلمان إثر انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021، إذ استدعت الخارجية التونسية سفيرها في أنقرة ودعت السفير التركي لمقر الوزارة للاحتجاج الرسمي.

سلسلة موجة الأزمات لم تقتصر على الدول بل شملت أيضًا منظمة الاتحاد الإفريقي التي أدانت التصريحات "العنصرية" و"الصادمة" الصادرة عن رئيس الدولة قيس سعيّد تجاه "جحافل" أفارقة جنوب الساحل والصحراء، بعد أن اعتبر هجرتهم إلى تونس تأتي ضمن مخطط "استيطاني"، وقد ألغى الاتحاد تنظيم مؤتمر الاتحاد الأفريقي لمكافحة التدفقات المالية غير المشروعة الذي كان مبرمجًا تنظيمه بتونس في شهر مارس/آذار 2023. وحول تداعيات نفس التصريحات، علّق البنك الدولي مراجعة برنامج شراكته الاستراتيجية مع تونس حتى إشعار آخر.

الأزمات الدبلوماسية التي أثارها سعيّد، واللحظات الحرجة التي واجهتها الآلة الدبلوماسية التونسية، تبيّن حالة من عدم النضج والتشويش

تبيّن الأزمات الدبلوماسية التي أثارها سعيّد، واللحظات الحرجة التي واجهتها الآلة الدبلوماسية التونسية تارة لتوضيح موقف وتارة لتفنيد موقف آخر، حالة من عدم النضج والتشويش.

لا تتعلّق الصورة فقط بنقص خبرة سعيّد أو انعدام تجربته في المجال الدبلوماسي وبما يقتضيه من التزام بخطاب واضح ومقتضب بعيدًا عن الإسهال اللغوي والثرثرة التي تتعارض مع مقومات الخطاب الدبلوماسي.

توجد أيضًا مشكلة إدارة غير مستقرة منه للملف برمّته: بداية من استقالة مستشاره للشؤون الدبلوماسية عبد الرؤوف بالطبيّب في فيفري/شباط 2020، ثم إقالته لوزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال نور الدين الري في جويلية/يوليو 2021، ومؤخرًا إقالة وزير الخارجية في حكومتي المشيشي وبودن، عثمان الجرندي في فيفري/شباط 2023.

 

 

  • فرنسا وإيطاليا والجزائر.. انحياز مبالغ فيه؟

على خلاف الأزمات الدبلوماسية مع دول، بدا سعيّد، في المقابل، متبنيًا لخطاب مرن بل موال أحيانًا، بشكل ظهر مبالغًَا فيه، مع دول أخرى.

عام 2020، عملت كتل برلمانية على تمرير لائحة لمطالبة فرنسا بتقديم اعتذار لتونس بسبب جرائمها زمن الاستعمار، بيد أن الرئاسة التونسية لم تكتف فقط بموقف محايد داخليًا، بل ذهبت نحو مهاجمة هذه اللائحة برمّتها. دافع الرئيس قيس سعيّد من باريس، وفي قناة فرنسية، عن رفضه لمطالبة فرنسا بالاعتذار مصرحًا أن "من يعتذر فهو يتهم نفسه".

اعتبر مؤرخون أن هذا الموقف يمثل تذللّا لفرنسا الاستعمارية، وتسليمًا بحق مشروع في الاعتذار بل والمطالبة بتعويضات اُسوة بالحالة الجزائرية، خاصة وأن هيئة الحقيقة والكرامة، التي عملت على ملف العدالة الانتقالية بتونس بعد الثورة، قدمت توصيات رسمية للدولة لتبنّي مطالبة فرنسا بالاعتذار الرسمي عن جرائم الاستعمار وإرجاع الأرشيف التونسي الموجود بالأراضي الفرنسية لليوم.

 

 

في جانب متصل، بدا موقف سعيّد من الاحتجاج الإيطالي على ارتفاع تدفقات الهجرة غير النظامية من الأراضي التونسي، مثيرًا للانتباه. إذ توجّه سعيّد شخصيًا، صيف 2020، إلى مدينتيْ المهدية وصفاقس لمتابعة مراقبة الأجهزة الأمنية للمناطق الساحلية.

الموقف التونسي المرن مع إيطاليا في موضوع الهجرة قابلته مرونة أخرى من الأخيرة التي تمثل اليوم أحد أهم حلفاء سعيّد في الفضاء الأوروبي، وقد دعت صندوق النقد لمساعدة تونس لتجنّب عدم الاستقرار

في نفس السياق، وافقت تونس على استقبال أعداد هامة من المهاجرين غير النظاميين ممن يتم ترحيلهم قسريًا من الأراضي الإيطالية. التعامل التونسي المرن مع روما في ملف الهجرة جعلها تظهر في صورة "شرطي سواحل أوروبا" بحسب متابعين لملف الهجرة، وبالخصوص المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي انتقد المستوى العالي من التنسيق الأمني بين تونس وحكومات أوروبية في مجال الهجرة، على حساب معالجة الأسباب الحقيقية لها.

ويبدو أن الموقف التونسي المرن قابلته مرونة أخرى من إيطاليا التي تمثل اليوم أحد أهم حلفاء سعيّد في الفضاء الأوروبي، وقد دعت صندوق النقد الدولي لاعتماد المرونة مع تونس ومساعدتها لتجنّب عدم الاستقرار، وهو الموقف الذي رحّبت به الخارجية التونسية.

 

 

في الحديث عن المواقف المرنة لسعيّد، لا يمكن تجاوز الجزائر، إذ أن الأزمة الدبلوماسية مع المغرب، سواء الامتناع عن التصويت على القرار الأممي حول "مينورسو" أو استقبال زعيم البوليساريو المدعوم جزائريًا، لم يكن إلا نتيجة لانحياز تونسي لافت للطرح الجزائري في ملف الصحراء الغربية.

يخشى ملاحظون أن تضحية سعيّد بالموقف التاريخي لتونس من قضية الصحراء يأتي على حساب دور الوساطة التونسية لتقريب وجهات النظر بين الجزائر والمغرب، لتكون تضحية سعيّد بذلك خسارة استراتيجية في الفضاء المغاربي يصعب تداركها

أزمة الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي المطلوبة قضائيًا في الجزائر والتي تم تهريبها جوًا من تونس إلى فرنسا، أثارت سحابة صيف صامتة في المقابل بين البلدين، ودفع ثمنها، بحسب مصادر متابعة، وزير الخارجية عثمان الجرندي الذي أقاله سعيّد. في الأثناء، يخشى ملاحظون أن تضحية سعيّد بالموقف التاريخي لتونس من قضية الصحراء لتصليب تحالفه مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، يأتي على حساب دور الوساطة التونسية لتقريب وجهات النظر بين الجزائر والمغرب، لتكون تضحية سعيّد بذلك خسارة استراتيجية في الفضاء المغاربي، يصعب تداركها على الأقل في المستقبل القريب.

 

 

هل كان سعيّد راضخًا أيضًا للأمريكيين؟ سبب طرح هذا السؤال هو ما ذكرته مذكرات جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أكد أن إقالة سعيّد لرئيس البعثة التونسية في نيويورك المنصف البعتي عام 2020، جاءت استجابة لضغط أمريكي، وذلك على خلفية دور رئيس البعثة في إعداد مشروع قرار أممي لإدانة صفقة القرن، مبينًا أن "هذه الإقالة كانت مهمّة للتصدي لجهود إفشال هذه الصفقة"، وفقه. اعتراف كوشنر كشف، بحسب متابعين، حقيقة الخطاب السيادوي لقيس سعيّد.

يتفق المتابعون أن أداء الدبلوماسية التونسية منذ صعود سعيّد يتّسم بالارتباك والالتباس وضعف الاحترافية بسبب غياب خبرة سعيّد في المجال الدبلوماسي من جهة وفشله في تكوين فريق دبلوماسي احترافي ومستقرّ من جهة أخرى

بالنهاية، يتفق المتابعون والمهتمون بالشأن الدبلوماسي أن أداء الدبلوماسية التونسية منذ صعود سعيّد يتّسم بالارتباك والالتباس وضعف الاحترافية بسبب غياب خبرة سعيّد في المجال الدبلوماسي من جهة وفشله في تكوين فريق دبلوماسي احترافي ومستقرّ من جهة أخرى.

أدى هذا الوضع لتبنّي مواقف تعدّ مخالفة للإرث الدبلوماسي التقليدي، ولضعف تطوّر العلاقات الدبلوماسية على غرار ما تبيّنه قلة عدد الزيارات الرسمية الثنائية التي أداها سعيّد، دونًا عن عدم توسّع مجال النشاط الدبلوماسي في فضاءات جديدة.

كما مثّلت الشغورات التي تجاوزت 30 موقعًا بين سفير وقنصل في عديد المواقع الدبلوماسية بالخارج، على غرار الصين وإيطاليا وتركيا وقطر وغيرها، بسبب عدم إجراء الحركة الدبلوماسية، دليلًا عن غياب الوعي بأهمية الانتشار الدبلوماسي، خاصة في مناخ إقليمي ودولي مضطرب من جهة، ويشهد تنافسية متصاعدة من جهة أخرى.