31-مايو-2024
قيس سعيّد ووزيرة العدل حرية التعبير وحرية التفكير

قيس سعيّد لوزيرة العدل: "هناك أشخاص ليست لهم حرية التفكير فكيف يمكن أن تكون لديهم حرية التعبير؟"

مقال رأي 

 

منذ فترة ليست بالقليلة يكرر الرئيس قيس سعيّد مقولة أساسية: أهلية حرية التعبير مشروطة بأهلية حرية التفكير. مساءلة الرئيس مبدأ الأهلية في حرية التفكير مرتبط أساسًا بقدرة من يعتبرهم خصومه في استقلالية تفكيرهم عن التأثيرات الخارجية. ومن ثمة يسائل أحقية كل من هو معني بذلك في حرية التعبير. بالإضافة إلى أنّ هذه المساءلة تقوم بفصل لا يمكن القبول به بين حرية التفكير وحرية التعبير، حيث أنّه لا يمكن عمليًا التفكير دون التعبير، وعلاوة على أنه يصادر حق التفكير الحر بناءً على غربلة قائمة على تموقع محدد في التفكير السياسي، يسمح لنفسه بحرية التقييم والمصادرة ولا يسمح به لغيره، فإنه أيضًا لا يبدو منسجمًا مع الوقائع، حيث أنّ الحكومة وسياسات الدولة الراهنة لا تخلو من تأثيرات خارجية. 

 يصادر الرئيس حق التفكير الحر بناءً على غربلة قائمة على تموقع محدد في التفكير السياسي وهو لا يبدو منسجمًا في ذلك مع الوقائع حيث أنّ سياسات الدولة الراهنة لا تخلو من تأثيرات خارجية

لا تعود المصادرة التي يعتمدها الرئيس إلى ما بعد 25 جويلية/يوليو 2021 بل إلى ما قبلها. من بين أولى المؤشرات على ذلك تعود إلى 22 مارس/آذار 2021 عند استقباله رئيس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري "الهايكا" حيث عبر "عن إيمانه الشديد بأن حرّية التفكير هي مقدّمة لحرية التعبير".

لكن أوضح مؤشر كان عندما علّق رئيس الجمهورية قيس سعيّد بشكل غير مباشر، على هامش لقائه بمباركة عواينية، زوجة الشهيد محمد البراهمي، في 29 جوان/يونيو 2021، على القضية التي رفعتها رئاسة الجمهورية ضد امرأة على خلفية ما نشرته على صفحتها على فيسبوك، حيث قال حينها: "حرية التعبير ما تنجم تكون حرية حقيقية إلا بحرية التفكير.. هوما فاقدين لحرية التفكير ويتبجحون بحرية التعبير''. وأضاف قائلًا ''ما نتبعش صحف، فيسبوك ما نعترفش بيه.. عندي مصادر أخرى''. وتابع القول ''ثم يتحدّث عن حرية التعبير.. تعبير فيه سب وثلب؟ وتنسب أعمال ما نعرفهاش ونسمع بيها سمع..''. 

إثر 25 جويلية 2021 وتغيّر موازين القوى، أصبح الرئيس مصدر كل السلطات ومن ثمة قادرًا على إعادة صياغة الجهاز التشريعي، أصدر المرسوم الذي سيكون حجر الزاوية في تفعيل تصوره لحرية التعبير، أي المرسوم 54 

إثر 25 جويلية/يوليو 2021 وتغير موازين القوى ليصبح الرئيس مصدر كل السلطات ومن ثمة قادرًا على إعادة صياغة الجهاز التشريعي، أصدر المرسوم الذي سيكون حجر الزاوية في تفعيل تصوره لحرية التعبير، أي المرسوم 54

على هامش القمة الفرنكوفونية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 وفي ردّه على سؤال لإذاعة "موزاييك" حول القمة قال الرئيس: "أنتم في موزاييك تتحدثون كما تشاؤون ومع ذلك تتحدثون عن الدكتاتورية.. تتكلمون كما تريدون ومع ذلك لم يتدخل فيكم أي أحد.. فعن أي دكتاتورية تتحدثون؟ يجب أن تكون هناك حرية تفكير، لا تستطيع التحدث عن حرية التعبير إذا لم يكن هناك تفكير، عندما يكون هناك فكر حر عندها ستكون هناك حرية تعبير. ولكن عندما يتحول الأمر إلى حملات إعلامية، فإن ذلك لا يعكس حرية التعبير. لا تطاول على الدولة ولا تطاول على رموز الدولة". 

ثم يضيف الرئيس: "حرية الصحافة وحرية التعبير لا رجوع فيهما ولا يمكن أن نعود إلى الوراء، المحطات الإعلامية تتحدث كما تشاء أما أن يتم الشتم والثلب والحديث عن أشياء تمس بالأخلاق فهل هذا هو المعقول؟ الأهم حرية التفكير، فليفكروا جيدًا ولينظروا إلى الواقع كما هو، دون تحامل ودون المس من مؤسسات الدولة". 

في نفس هذا التصريح، أجاب الرئيس، الصحفي في خصوص سؤال حول إحالة الصحفيين على معنى المرسوم 54 كما يلي: "هناك قضاء يحسم وأهم شيء هو القضاء العادل.. وفي هذا المرسوم هناك شروط وهناك قانون والمهم أن تكون هناك محاكمات عادلة.. والأهم لا تطاول على الدولة ولا على رموزها. وحرية الصحافة والتعبير لا رجوع فيهما. متى ضربت حرية الصحافة، منذ قليل كنت أستمع إلى إحدى المحطات الإذاعية وكانوا يتحدثون كما يشاؤون".

أصبحت مقولة ربط أهلية حرية التعبير بحرية التفكير حاضرة عند الرئيس تقريبًا كلما تم طرح موضوع حرية التعبير وتهديدها خاصة في سياق الجدل حول المرسوم 54 والقضايا العديدة التي تمت إثارتها على أساس تدوينات أو تصريحات

ثم أصبحت المقولة حاضرة تقريبًا كلما تم طرح موضوع حرية التعبير وتهديدها خاصة في سياق الجدل حول المرسوم 54 والقضايا العديدة التي تمت إثارتها والتي انتهت إلى تتبع مواطنين أو ناشطين على أساس تدوينات أو تصريحات قاموا بها. مثلًا في 26 فيفري/شباط 2023 قال الرئيس: "من يتباكى على حرية التعبير رغم أنه ليست له حرية التفكير هو مأجور من قوى عاملة في الظلام". 

وكان الأمر كذلك خلال لقائه وزيرة العدل في 25 ماي/أيار  2024 حيث قال: "يتحدثون كل يوم عن المرسوم 54 وعن الفصل 24 منه، أريد أن أوضّح لكل التونسيين أننا نرفض المساس بأيٍّ كان من أجل فكره، هو حر في اختياره وفي التعبير، ولكن هناك أشخاص ليست لهم حرية التفكير فكيف يمكن أن تكون لديهم حرية التعبير؟ هم امتداد لهذه الدوائر الاستعمارية".

الرئيس كان من بين المستفيدين من حرية التعبير بعد الثورة وقام بتصريحات يمكن اعتبارها راديكالية مثل "الدستور الذي أكله الحمار" و"ليرحلوا جميعًا" و"يا إما الإرهاب من الدولة أو أنه أقوى من الدولة" ولم يتم اعتبار ذلك تشكيكًا في مؤسسات الدولة أو "إثارةً للفوضى" أو "تهديدًا للأمن العام"

يجب التنويه قبل كل شيء أنّ الرئيس كان من بين المستفيدين من حرية التعبير بعد الثورة وقام بتصريحات يمكن اعتبارها راديكالية شكلًا ومضمونًا مثل تصريح "الدستور الذي أكله الحمار"، و"ليرحلوا جميعًا"، و"يا إما الإرهاب من الدولة أو أنه أقوى من الدولة". ولم يتم اعتبار ذلك ثلبًا أو تشكيكًا في مؤسسات الدولة، وخاصة "إثارةً للفوضى" و"تهديدًا للأمن العام". 

وبعد وصوله للرئاسة، من المعلوم أنّ الرئيس قام بتصريح في قناة أجنبية يسائل فيها جدوى الاستثمار في وضع ما قبل 25 جويلية/يوليو 2021 فلا أحد كان يملك الحق آنذاك أو الآن في أن يسائله على ما يمكن اعتباره رأيًا أو تقديرًا سياسيًا في نهاية الأمر لا يتحمل المساءلة القضائية. 

ورغم أنّ البعض، خاصة من قبل البعض من أشدّ داعميه الآن، شككوا في وطنيته بالادعاء أنّه يستلهم أفكاره من النظام السياسي الإيراني أو أنّ وصوله للرئاسة كان بخوارزميات أجنبية تدخلت في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنّ ذلك بطبيعة الحال هراء، لكن يعكس سهولة وخطورة الانجرار في اتهامات متبادلة تشكك في وطنية أيٍّ كان وتخوّنه. 

المتمعن مثلًا في سياسات الدولة الراهنة يمكن أن يلاحظ أنّ بعضها خاصة في ميادين حساسة مثل الاستثمار في الطاقة واقع تحت تأثير أجنبي، وهو الأمر الأخطر بكثير من مجرد تصريحات تلفزية أو تدوينات فيسبوكية

كما أنّ المتمعن مثلًا في سياسات الدولة الراهنة يمكن أن يلاحظ أنّ بعضها خاصة في ميادين حساسة مثل الاستثمار في الطاقة واقع تحت تأثير أجنبي، وهو الأمر الأخطر بكثير من مجرد تصريحات تلفزية أو تدوينات فيسبوكية. من ذلك الخطة الاستراتيجية لوزارة الطاقة التي تمت بالتعاون مع المؤسسة الألمانية GIZ والخاصة بالهيدروجين الأخضر (صدرت سنة 2023) والتي على أساسها تم مؤخرًا إمضاء اتفاقيات ضخمة خاصة مع شركة طوطال الفرنسية، والتي يقول باحثون مختصون من "المعهد العابر للقوميات" إنها تخضع لاستراتيجيا أوروبية تركز على تحويلنا إلى مصدر يصدر الطاقة المتجددة بمعزل عن هدف سد العجز الطاقي المحلي أو تطوير صناعة طاقية وطنية أو التأثيرات السلبية لتحلية المياه على الشريط الساحلي عوض توجيه التحلية للحاجة الشديدة للمياه العذبة. 

أليْس من أهمّ مواقع التفكير المتحرر من التدخل الأجنبي هو التفكير الاستراتيجي الذي يستجيب إلى حاجات وطنية والتمنع عن أيّ تأثيرات لمصادر قرار أجنبية مثلما هو الحال مع استراتيجيات يتم تمويلها من الخارج؟ أليس هذا الأمر الخطير الذي يستوجب تقويمًا وتصحيحًا وليس النقاش في الفضاء العام حول السياسات خاصة أننا إزاء مرحلة تستوجب تقييم الحصيلة على ضوء الانتخابات الرئاسية القادمة؟

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"