23-مايو-2024
انتخابات

ينبّه موعد الانتخابات الرئاسية، سعيّد إلى ما تعرفه البلاد من ازدواجيّة دستوريّة مفروضة (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي 

 

عرف المشهد السياسي في الأسبوعين الفارطين درجة عالية من التوتّر بلغت ذروتها مع اقتحام مقرّ الهيئة الوطنيّة للمحامين بتونس المعروف بدار المحامي بشارع باب بنات قبالة قصر العدالة. ولئن كان للتوتر مظاهره المباشرة في سلسلة الإيقافات والإحالات على التحقيق التي طالت إعلاميين من الصعب فصله عن موعد الانتخابات الرئاسية 2024. ويمكن ملاحظة علاقة التناسب بين قرب الموعد ودرجة التوتّر. وهو الموعد الذي يعتبر عند سلطة 25 جويلية/يوليو مسألة بقاء أو فناء.

  • موعد 24 الانتخابي المزعج

مما يلاحظ أنّ المعارضة الديمقراطيّة بمختلف مستوياتها لم تُثِر موضوع مشاركتها في المناسبات السابقة التي دعت فيها سلطة 25 جويلية/يوليو الناخبين إلى التصويت في مناسبات عدة امتدّت من الاستمارة إلى انتخابات ما سمي بالغرفة الثانية. وذلك لأنّها تعتبرها جزءًا من برنامج الانقلاب وسعيه إلى ملء الفراغ الذي تركه هدمه المؤسسات الدستوريّة وفي مقدّمتها البرلمان. في حين يُعتبر موعد 2024 الانتخابي عند المعارضة وعند أنصار الديمقراطيّة امتدادًا لمسار الانتقال الديمقراطي المتوقّف ومرجعيته الدستوريّة المتمثّلة في دستور 2014. وهو من النصوص القليلة التي نجح التونسيون في كتابتها والإجماع عليها، رغم ما داخَلها من هنات كان بعضها معلومًا لحظة كتابة النص. وبعضها الآخر أبانت عنه تجربة الحكم في ظل دستور الثورة على مدى عشريّة الديمقراطيّة.

يُعتبر موعد الانتخابات الرئاسية 2024 عند المعارضة وعند أنصار الديمقراطيّة امتدادًا لمسار الانتقال الديمقراطي المتوقّف ومرجعيته الدستوريّة المتمثّلة في دستور 2014

ومن جهة أخرى فإنّ الموعد يذكّر قيس سعيّد بالسياق السياسي والأساس الدستوري اللذين حملاه إلى رئاسة الجمهوريّة. مثلما ينبّهه الموعد إلى ما تعرفه البلاد من ازدواجيّة دستوريّة مفروضة بين دستور الثورة الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي بأغلبيّة، وبين دستوره وقد كان تفرّد بكتابته وتصحيحه. وبلغت نسبة المقاطعة من الناخبين المسجلين 75%. ولا يخفى انعكاس هذا الازدواج على كلّ ما سيتعلّق بالاستحقاق الانتخابي ومنه القانون الانتخابي، وهيئة الانتخابات التي تعتبرها المعارضة الديمقراطيّة منصّبة ولا يمكن أن تكون ضامنًا لانتخابات ديمقراطيّة. هذا فضلًا عما شهده القضاء من استهداف والحريات من تضييق. ومثّل المرسوم 54 والفصل 24 منه سيفًا مسلّطًا على المعارضة. وعلى ضوئه كان اعتقال وجوه من الصف الأول من القيادات الديمقراطيّة وملاحقة النشطاء السياسيين والمدوّنين وصنّاع المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي. 

وقد طال تنفيذ المرسوم إعلاميين لم يكونوا من خصوم 25 جويلية/يوليو، وكانوا أقرب إلى تبنّي "مساره" في اتجاهه العام، ويبدو أنّ ذنبهم في أنّهم سمحوا بتعدد الأصوات في برامجهم الإخبارية والتحليلية، ولم يترددوا في التطرق إلى ما تريد السلطة تجنّبه ومنه موضوع الانتخابات، والوقوف عند كثير من المستجدات المتعلقة بقضايا وطنية حساسة مثل ملف الفساد وموضوع الهجرة غير النظامية وتطوراتها الأخيرة، وطبيعة الاتفاق المبرم بين تونس وإيطاليا الذي لم يُكشف عن فحواه.

طال تنفيذ المرسوم 54 إعلاميين لم يكونوا من خصوم 25 جويلية، وكانوا أقرب إلى تبنّي "مساره" في اتجاهه العام، ويبدو أنّ ذنبهم في أنّهم سمحوا بتعدد الأصوات في برامجهم الإخبارية والتحليلية

ومن الملاحظ أنّ موعد الانتخابات بقدر ما مثل ديناميكية نسبية في صفوف المعارضة الديمقراطية بدا مصدر انزعاج عند السلطة، وعنصر توتر في خطابها، ومناسبة لاستعادة مستوياته الشعبويّة المنمذجة ومنها شيطنة المعارضة وتخوينها وتشديدها على أنّها لن تسلّم الدولة لغير الوطنيين. ثمّ إنّها تتأخّر عن ضبط موعدها إلاّ إذا كانت تعتبر موعدها المقرّر قياسًا إلى تاريخ انتخابات 2019 أمرًا آليًّا. 

  • موقف المعارضة

المعارضة في المشهد السياسي بعد الانقلاب هي في حقيقتها معارضات. وما يميزها هو موقفها من الديمقراطية ووجهه الآخر موقفها من "سلطة 25 جويلية/يوليو". ويمكن الحديث عن مستويات ثلاثة: المعارضة وتمثلها الشخصيات التي أعلنت عن نيتها في الترشح مثل السيد منذر الزنايدي المحسوب على نظام بن علي، والمعارضة الديمقراطية ويمثلها الخماسي الذي صار رباعيًا بعد انسحاب الحزب الجمهوري بقيادة أمينه العام السجين عصام الشابي، ضمن ما سُمّي بملف "التآمر"، والحركة الديمقراطية ممثلة في جبهة الخلاص بمكوناتها المواطنية والحزبية وفي مقدمتها حركة النهضة

من الملاحظ أنّ موعد الانتخابات الرئاسية بقدر ما مثّل ديناميكية نسبية في صفوف المعارضة الديمقراطية، بدا مصدر انزعاج عند السلطة، وعنصر توتر في خطابها

وقد كانت الجبهة عبرت عن موقفها في ندوة صحفية عقدتها الأسبوع الفارط. ويتلخّص موقفها "المعلّق" في أنّها من "حيث المبدأ" معنية بالانتخابات بسبب مرجعية هذه الانتخابات المشدودة إلى دستور الثورة. واعتبار موعدها امتدادًا لمسار الانتقال الديمقراطي الذي أوقفه الانقلاب. وهي تشدّد على أن مشاركتها تأتي ضمن العنوان السياسي "استعادة الديمقراطية" الذي يؤطر كل نقاط اشتباكها مع الانقلاب ومنها الحريات وملف قياداتها المحتجزة واستقلال القضاء وتداعيات الأزمة الماليّة الاقتصاديّة.

ومن هذا المنطلق تعتبر مشاركة الجبهة مشروطة بمدى قدرتها على فرض شروط انتخابات ديمقراطيّة، وهذا بدوره محكوم بما يمكن أن يقوم من تقاطعات بين قوى المعارضة الديمقراطيّة. إلاّ أنّ واقع هذه المعارضة وما يشقها من تشرذم وافتقارها إلى تقديرات سياسيّة مؤسسة يمنع التقاء مكوناتها أو بعض مكوناتها على الأدنى الديمقراطي. وتسجّل في هذا مفارقة حقيقيّة بين تخارج مواقفها السياسيّة حول طبيعة الأزمة وسبل الخروج واتجاه خطابها الموجه إلى سلطة 25 إلى التقاطه في أولويّة "استعادة الديمقراطيّة". 

اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية بدا مناسبة لاستعادة السطلة مستوياتها الشعبويّة المنمذجة ومنها شيطنة المعارضة وتخوينها وتشديدها على أنّها لن تسلّم الدولة لغير الوطنيين

وفي تفاعل مع الاستهداف المتوسع للحريات ومنها أحداث دار المحامي، أمضت ثمانية أحزاب اجتماعية ديمقراطية من بينها الرباعي (التكتّل، التيّار، العمّال، القطب)، والحزب الجمهوري وأحزاب آفاق والمسار والاشتراكي بلاغًا مشتركًا نددت توقّفت فيه عند ما أسمته بـ"التطورات الأخيرة التي شهدها الوضع العام" ونزّلت ما ستجدّ ضمن "هجمة على الحقوق والحريّات" وخصّت منها قطاع المحامين والإعلام. وندّد البلاغ بالإيقافات التي طالت الإعلاميين والمحامين، وبعودة التعذيب.

ولم تشر الأحزاب في بلاغها إلى موضوع الانتخابات، ولا يبدو ذلك متيسّرًا حتّى بين الأحزاب التي تجمعها "الديمقراطيّة والتقدميّة" مثلما ورد في البلاغ. فإنّها مع لقائها العارض لم تكن، على ما يبدو جاهزة لبلورة موقف موحّد من موعد الانتخابات الرئاسية 2024 في تونس. والمنتظر أن تكون لها مواقف منفردة بعد أن تتضح الصورة. وفعلًا عقب هذا البيان، كان لزعيم حزب العمال موقف أكّد فيه على مقاطعة حزبه لانتخابات لا تتوفّر فيها شروط النزاهة الدنيا والشفافيّة المطلوبة. 

واقع المعارضة التونسية وما يشقها من تشرذم وافتقارها إلى تقديرات سياسيّة مؤسسة يمنع التقاء مكوناتها أو بعض مكوناتها على الأدنى الديمقراطي

  • أجَلٌ غيرُ مسمّى

يوم 19 ماي/أيار الجاري، أعلنت هيئة الانتخابات المنصبّة عن إطلاقها عمليّة تحيين السجلات الانتخابيّة في الداخل والخارج وأفاد عضو في مجلس هيئتها بأنّه "وفق الآجال الدستوريّة لا يمكن تجاوز تاريخ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024 كتاريخ أقصى لموعد الانتخابات الرئاسية". والمرجّح أن تدور الانتخابات في موعدها (23 أكتوبر 2024). فتكون هناك دعوة الناخبين إلى الانتخابات بأمر رئاسي في أجل أدناه ثلاثة أشهر قبل موعد الانتخاب، ما قد يحدث اضطرابًا.

الحركة الديمقراطية تعرف حالة ضعف لا تحسد عليها، فقد تظافرت عليها سياسة الترذيل والتعطيل من قبل الشعبوية والفاشية من داخل مؤسسات الدولة على مدى العشرية، وسياسة التنكيل من قبل سلطة الانقلاب

هذا من جهة السلطة، وأمّا من جهة المعارضة فإنّ الملاحظ هو ضعف حضور المعارضة الحزبية الميداني إلا ما كان من وقفة جبهة الخلاص الأسبوعية تضامنًا مع قيادتها السجينة، ومع بقية المساجين السياسيين. وكانت آخر مسيرة لها يوم الأحد الفارط وقد تركزت على دعوة السلطة إلى الالتزام بموعد الانتخابات الرئاسية وبمقاييس الانتخابات الديمقراطية. وكانت كلمة لزعيم الجبهة نجيب الشابي في هذا السياق. وقد أعاد فيها عرض موقف الجبهة.

ومما لا يخفى أنّ الحركة الديمقراطية تعرف حالة ضعف لا تحسد عليها، فقد تظافرت عليها سياسة الترذيل والتعطيل من قبل الشعبوية والفاشية من داخل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية على مدى العشرية، وسياسة التنكيل من قبل سلطة الانقلاب باستهداف قيادات الصف الأول منها وإشاعة أجواء الخوف بسلسلة المحاكمات التي لم تستثن المحامين والصحفيين والإعلاميين. 

بدا أن المعارضة غير قادرة على إحداث ديناميكية سياسية ونضال ميداني بغاية الدفع نحو توفير شروط انتخابات ديمقراطية تمثل المخرج الأيسر والأقل كلفة من الأزمة المالية الاقتصادية وتداعياتها السياسية الاجتماعية

وبدا أن المعارضة غير قادرة على إحداث ديناميكية سياسية ونضال ميداني بغاية الدفع نحو توفير شروط انتخابات ديمقراطية تمثل المخرج الأيسر والأقل كلفة من الأزمة المالية الاقتصادية وتداعياتها السياسية الاجتماعية. ولم يفلح خطاب السيادة الشعبوية في معالجة مشكلة المديونية وتوازنات المالية العمومية.

  • التحول يكون من النخب المتواجهة 

في الأسابيع الثلاثة الفارطة وأمام تفاقم سياسة استهداف الحريات، تتالت ردات الفعل وتأتي هذه المرة من المجتمع المدني المتهم بالمساهمة في إجهاض المسار الديمقراطي. وعند عودة المجتمع المدني في المشهد هذه الأيام وتصدره الدفاع عن الحريات والديمقراطية. يمكن التنبيه إلى ملاحظة مهمة حول مكونات المشهد السياسي في تونس. ومنها مكون المجتمع المدني ووراءه اليسار ومكون الشارع الديمقراطي ووراءه الإسلاميون، ومما يلاحظ أن الانتخابات العامة تكون من نصيب الإسلاميين ويكون نصيب اليسار "صفر فاصل". وفي المنظمات يكون الفوز من نصيب اليسار. وهذه من مفارقات المشهد السياسي والاجتماعي في تونس. ومثلما تفسرها علاقة هذه القوى مع الدولة والنظام الذي يسكنها ولاءً وعداءً، تفسرها طبيعة هذه القوة المدينية (اليسار) وطبيعة تلك القوة ذات الأصول الريفية، البدوية (الإسلاميين). 

هذا إلى جانب ما يلقاه اليسار من إسناد من قوى غربية تجد فيه شيئًا من صورتها وهويتها، وما تلقاه الجهة الأخرى من صدّ وفيتو مازال ساري المفعول. لذلك رغم ما كان للشارع الديمقراطي من زخم جماهيري إلاّ أنّه كان عاجزًا عن استعادة الديمقراطية، في حين كان لحراك المجتمع المدني (هيئة المحامين، رابطة حقوق الإنسان، نقابة الصحفيين) تأثيرًا قويًا. وهي بصدد التشكل في جبهة وطنية تدافع عن الحقوق والحريات. وكانت صورة آلاف المحامين بشارع باب بنات وهم يهتفون بسقوط قضاء التعليمات، وسياسة استهداف الحريات، قويّة جدًا. 

"المجتمع المدني" الخارج تدريجيًا من سقف 25 جويلية يبدو الأقدر على إحداث الديناميكية المطلوبة للدفع نحو انتخابات ديمقراطية ونزيهة دون أن يكون في ذلك التقاء مع "الشارع الديمقراطي"

وما يهمنا من هذا السياق هو أن "المجتمع المدني" الخارج تدريجيًا من سقف 25 جويلية/يوليو يبدو الأقدر على إحداث الديناميكية المطلوبة للدفع نحو انتخابات ديمقراطية ونزيهة دون أن يكون في ذلك التقاء مع "الشارع الديمقراطي". ولكن يبدو أن تقاطعًا موضوعيًا لا مفر منه. ويلاحظ ذلك في أنّ كل القوى سواء كانت منظمات أو جبهات سياسية أو شخصيات عبرت عن نيتها في الترشح للانتخابات القادمة تجد نفسها لزامًا عليها تحت سقف"استعادة الديمقراطية". وهو العنوان السياسي الوحيد والممكن للخروج من هذه الأزمة المركبة.

المشهد السياسي مرشح لتوترات متصاعدة في علاقة بالموعد الانتخابي. وإن عملية الضغط المتبادل بين السلطة والحركة الديمقراطية لن تبقى إلى ما لا نهاية له. وقد عرفت تجارب شبيهة في الانتقال الديمقراطي قانونًا مطّردًا يتمثل في انشقاق داخل أحدٍ طرفي الصراع. وغالبًا ما يكون الانشقاق داخل السلطة. وهو انشقاق تقوده من إما الأجهزة أو النخبة السياسية الموالية، نحو تنازل للمطلب الديمقراطي. وفي حالتنا ومشهدها لا يمكن الحديث عن نخبة السلطة بالمعنى الحقيقي للنخبة السياسية. النخبة توجد في الشق الآخر من الصراع. وهنا يكون للأجهزة دورها في إعادة الدولة إلى الشرعية التي أخرجت عنها، وعند هذه النقطة يمكن تبين المؤثرات الإقليمية والدولية.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"