31-مايو-2024
 انتخابات تونس

لا خلاف في أنّ مرجعية انتخابات 2024 الرئاسية هي دستور 2014 (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي 

 

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية 2024 في تونس، تشتدّ درجة التوتر السياسي، في مشهد لم يعرف له وجهة منذ 25 جويلية/يوليو 2021، رغم انتهاء الانقلاب من تنزيل مؤسساته البديلة عن مؤسسات عشرية الديمقراطية. وهي بدورها مؤسسات وسيطة وليست على علاقة مباشرة بين "القيادة الملهمة" و"الشعب الخيّر" بعيدًا عن "النخبة الخائنة" مثلما يصرّ "الخطاب الشعبوي". 

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في تونس، تشتدّ درجة التوتر السياسي، في مشهد لم يعرف له وجهة منذ 25 جويلية 2021، رغم انتهاء الانقلاب من تنزيل مؤسساته البديلة

ورغم ما عرفه المشهد من تحولات، ورغم شتات المكونات السياسية المعارضة وضعفها فإنّ العنوان السياسي الأكثر حضورًا في الصراع ظلّ "استعادة الديمقراطية" وانحسار ملاحظ لعنوان "تصحيح المسار" أمام الفشل في مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية الموروثة في ظل استهداف متوسّع للحريات والحقوق. فلأي عنوان من العنوانيْن ستؤول الكلمة؟! 

  • منزلة العنوان السياسي 

"العنوان السياسي" مهمّ لأنه يكثّف المضمون والهدف والغاية من كلّ فعل سياسي اجتماعي. فتحرص الجماعات ومنها الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية على دقّة صياغته. وتكون الجمل السياسية تفصيلًا له وتعديلًا وتوجيهًا حسب الظروف والأطوار. 

أحدث اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية 2024 في تونس، وظهوره على سطح الإعلام عاملًا إضافيًا في تسريع الانضواء الموضوعي تباعًا تحت سقف "استعادة الديمقراطية"

وعندما يتحوّل العنوان السياسي الصادر عن جهة بعينها إلى حقيقة موضوعية متبناة من أوسع الطيف السياسي الاجتماعي يكون ذلك دليل نجاحها وشهادة لها بحسن قراءة المتغيرات ودقة التقدير وسلامة التموقع. 

وفي تاريخ الأدبيات التقليدية في التغيير السياسي الاجتماعي، يكون هذا النجاح شهادة "ثورية" (كلمة فقدت معناها) لصاحب العنوان لِمَا رافقه من قدرة على جرّ المشهد وفاعليه الأساسيين إلى أرضية عنوانه والقبول، طوعًا أو كرهًا، بالوقوف تحت سقفه. وقد ترفع بعض الجهات التي تقف على هذه الأرضية شعارات سياسية وإيديولوجية مناهضة للعنوان وأصحابه الأصليين، ولكن ذلك لا يخرجها عن تلك الأرضية ولا يخلصها من تبعيتها السياسية له (شعارات الجمعة الطفولية مثالًا)، إلاّ إذا اختارت/اضطرّت تحت إملاء من طبيعتها أو من الجهات التي تدعمها إلى الوقوف على الأرضية المقابلة. وهذا هو معنى أن يصبح عنوانٌ سياسيٌّ ما مُعطى موضوعيًا. 

يبدو أنّ ما لحق اتحاد الشغل من استهداف مثل كل الأجسام الوسيطة، زحزح موقفه تدريجيًا، ويلخص بيان الهيئة الإدارية المنعقدة يوم 29 ماي 2024 مأزق الاتحاد

في مشهدنا الحالي صار عنوان "استعادة الديمقراطية" معطى موضوعيًا وسقفًا سياسيًا يقف تحته، طوعًا أو كرهًا مرة أخرى، كلّ من وقف في الجهة المقابلة للانقلاب. سواء كان منه هذا الموقف مع ساعاته الأولى أو التحق بمناهضته في منعرج من منعرجاته. ولا عبرة بسبب الالتحاق. فالأمر فيه كثير من التركيب، إذ تتداخل فيه عوامل داخلية وخارجية يصعب حصرها فضلًا عن تصنيفها وترتيبها. رغم الحاجة الملحة إلى التصنيف والترتيب لمن كان الفعل السياسي عنده مسؤولية يتظافر فيها الشخصي والسياسي والأخلاقي. 

  • تحوّل في المواقف 

كانت انطلاقة عنوان "استعادة الديمقراطية" الفعلية يوم 18 سبتمبر/أيلول 2021 من شارع الثورة مع "مواطنون ضد الانقلاب". وصار العنوان المميِّز للشارع الديمقراطي وشرطه السياسي (جبهة الخلاص الوطني). وتحت هذا العنوان انضوت كل نقاط الاشتباك مع الوضع الجديد (المرجعية الدستورية، الحريات، استقلال القضاء، الأزمة المالية الاقتصادية، العروض السياسية للخروج من الأزمة.. إلخ). 

ارتفاع نبرة بيان اتحاد الشغل كان في موضوع الحريات، وهو يلخّص مطالب الحركة الديمقراطية ويقترب من سقفها دون أن يعلن عن مغادرته سقف 25 جويلية

لم يكن هناك إجماع على هذا العنوان في أول ظهوره، واعتبر من قبل طيف واسع من النخبة "عنوانًا فئويًا" بل هو "استعارة حزبيّة" لاستعادة الحكم والعودة إلى 24 جويلية/يوليو (حراك لا يخدم إلا حركة النهضة). ومن الطبيعي أن يكون كان هذا موقف الشعبوية المنقلبة، وموقف الفاشية والوظيفية، بل وموقف شخصيات عرفت بانتصارها للديمقراطية ومسارها. 

ومع جريان مياه غزيرة في نهر مشهدنا السياسي (سلطةً ومعارضةً) لم يكن مجراها بعيدًا عن السياقات الإقليمية والدولية، انطلقت هجرةٌ متدرّجة من مساندة الانقلاب نحو "استعادة الديمقراطية" عنوان الشارع الديمقراطي، لدواع تختلف باختلاف علاقة مكونات المشهد السياسي بالثقافة الديمقراطية. وكان استهداف الحريات المتوسّع من العوامل المهمة في تفعيل هذه الهجرة والانضواء الموضوعي تباعًا تحت سقف "استعادة الديمقراطية". 

وضع الحركة الديمقراطية وانحسار شرطها الميداني وضعف عرضها السياسي الذي كان بدأ بالتشكل، لم يُلغِ عنوان "استعادة الديمقراطية" ولم يُفسح المجال لعنوان سياسي جديد

من جهة أخرى، أحدث اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية 2024 في تونس، وظهوره على سطح الإعلام عاملًا إضافيًا في تسريع الهجرة المذكورة من ذلك أن كل من عبّر عن نيته في الترشح للانتخابات (منهم من كان محسوبًا على النظام القديم)، لم يكن بوسعه في خروجه الإعلامي ألاّ يتماسّ مع نقاط الاشتباك السياسي بين الانقلاب والحركة الديمقراطية ومن ضمنها استقلال القضاء ووضع الحريات وسجناء المعارضة الديمقراطية.. كي ينتهي في صريح خطابه إلى المطلب الديمقراطي وتحت سقف "استعادة الديمقراطية".

وتحت هذا السقف يندرج جلّ الحراك السياسي في الأسابيع الماضية، ومنها أحداث دار المحامي. وفي هذا السياق تُفهم المواقف ومنها التردد في موقف عمادة المحاماة، ومحاولة بعض المجاميع الإيديولوجية شق حراك المحاماة بالتعبير عن توجسّها من "توظيف المحاماة في صراعات السياسة ورهاناتها وجرها خارج مهمتها".

اتحاد الشغل لم يكن بعيدًا عن مؤثرات حركة الهجرة هذه، رغم تذكير قيادات مكتبه التنفيذي بأنهم مازالوا تحت سقف 25 جويلية/يوليو. ولكن يبدو أنّ ما لحقه من استهداف مثل كل الأجسام الوسيطة زحزح موقفه تدريجيًا. فهو لم يعد النظير الاجتماعي للحكومة التي عرفت تغييرات متتالية في رئاستها وأعضائها من الوزراء. فالمفاوضات الاجتماعية متوقفة وهي أساس دور المنظمة، وقد مكّنها الانتقال الديمقراطي من أن تكون أكبر شريك في الحكم في كل الحكومات المتعاقبة في عشرية الديمقراطية. ولكنها اختارت إجهاض المسار والمصادقة على غلق قوسه.

 تخبرنا تجارب الانتقال بأنّ الشد بين المعارضة والسلطة والضغط المتبادل لا يمتد إلى ما لا نهاية له فتكون مقدمة الانفراج بانقسام في إحدى الجهتين، وغالبًا ما يكون الانقسام داخل السلطة حين يتفاقم عجزها

ويلخص بيان الهيئة الإدارية المنعقدة يوم 29 ماي/أيار 2024 مأزق الاتحاد، فقد ذكّر فيه بالحق النقابي المستهدف، وجدد تمسكه بما أسماه "حق التفاوض الاجتماعي"، ولكن ارتفاع نبرة البيان كان في موضوع الحريات والحقوق فشدد على ضرورة "سحب المرسوم 54، ووقف المحاكمات الكيدية، وإطلاق سراح مساجين الرأي، والكفّ عن الانتهاكات وعن تصفية الخصوم السياسيين، رفع اليد عن القضاء والدفاع عن استقلاليته وضمان المحاكمات العادلة". وبها هو يلخّص مطالب الحركة الديمقراطية ويقترب من سقفها دون أن يعلن عن مغادرته سقف 25 جويلية/يوليو.

  • معضلة النخبة  

وضع الحركة الديمقراطية وانحسار شرطها الميداني وضعف عرضها السياسي الذي كان بدأ بالتشكل، لم يُلغِ عنوان "استعادة الديمقراطية" ولم يُفسح المجال لعنوان سياسي جديد. وهذا ما يفسّر "فوضى الغموض" وتوسع "منطقة الفراغ السياسي" رغم موجات التوتر المتلاحقة. وهو ما يجعل من شرط التجاوز المحلّي للأزمة ضعيفًا أمام الشروط الإقليمية والدولية الضاغطة. 

في الأزمات الحادّة يكون للنخب في السلطة والمعارضة دور حاسم. ومنها تكون المبادرات ومحاولة فتح ثغرات في طريق الأزمة المسدود. وتخبرنا تجارب الانتقال بأنّ الشد بين المعارضة والسلطة والضغط المتبادل لا يمتد إلى ما لا نهاية له فتكون مقدمة الانفراج بانقسام في إحدى الجهتين، وغالبًا ما يكون الانقسام داخل السلطة حين يتفاقم عجزها، فيكون الالتقاء الوطني على "أرضية إنقاذ" بأفق الحرية وبناء الديمقراطية. وهذا ما حصل في بلادنا يوم 14 جانفي/يناير 2011 تحت ضغط الحراك المواطني في الهامش. ولكن الذي حصل، وفي كلمة، هو أن التوافق لم يكن حول "المبدأ الديمقراطي" بقدر ما هو "توافق ديمقراطي". 

وفي مشهدنا، وفي الخطاب السياسي الكسيح، لا يرد التوافق إلا في مقام الذمّ. ويختزل في نتيجته المتمثلة في المحاصصة السياسية. وهي بدورها عبارة مشيطنة رغم أنّها مآل كل عملية اختيار حر. والحصص السياسية قد تكون من نصيب فائز بالأغلبية وقد تكون موزعة بين شريكين في الأغلبية. والمحاصصة حقيقة السياسة والحكم، بما في ذلك الحكم الاستبدادي. ولكن السياق الديمقراطي والثقافة الديمقراطية يهذّبانها باتجاه التطور المتدرّج نحو أولوية الكفاءة وفكرة الدولة والمصلحة الوطنية، دون إلغاء أحقية الفائز في الانتخابات في تربي المسؤولية. 

لا خلاف في أنّ مرجعية انتخابات 2024 الرئاسية هي دستور 2014. وبذلك يكون "مبدأ المشاركة" حاصلًا عند تيار استعادة الديمقراطية، غير أنّ "المشاركة الفعلية" مشروطة بالقدرة على فرض شروط انتخابات شفافة وديمقراطية بمرجعيّة دستور الثورة

وفي سياقنا الهش مازالت التهمة المتبادلة إلى الحزب الأقوى، إن لم يكن الحزب الواحد فعليًا، بأنه لا غاية له إلا الحكم. وكأنه توجد غاية أخرى للأحزاب السياسية غير الحكم والمشاركة فيه. يتم ذلك دون انتباه، من خصومه ومن أنصاره، إلى ما يعرفه من تحولات هي المسافة الفاصلة بين "النهضة المتخيلة" و"النهضة المتحوّلة". وقد تفاجأ من مضمون حديث خصومه وأنصاره عنه أنهما يتحدثان عن "نهضة لم تعد موجودة". 

لا خلاف في أنّ مرجعية انتخابات 2024 الرئاسية هي دستور 2014. وبذلك يكون "مبدأ المشاركة" حاصلًا عند تيار استعادة الديمقراطية، غير أنّ "المشاركة الفعلية" مشروطة بالقدرة على فرض شروط انتخابات شفافة وديمقراطية بمرجعيّة دستور الثورة. 

لا يُتوقع مشاركة من الحركة الديمقراطية في انتخابات خارج مرجعية دستور الثورة حتى وإن كانت متحققة من الفوز بها

وفي المقابل، لا يتوقع مشاركة من الحركة الديمقراطية في انتخابات خارج مرجعية دستور الثورة حتى وإن كانت متحققة من الفوز بها. والأصل أن يكون موقفها منها مطابقًا لموقفها من انتخابات نظام 25 جويلية/يوليو الفاقدة للمصداقية شروطًا وسياقًا، من وجهة نظرها. لذلك هي تجعل من مناسبة الانتخابات مدخلًا إلى استعادة الديمقراطية.

دستور الثورة ليس نصًّا مقدّسًا، وهناك شبه إجماع على الحاجة إلى تنقيح فصول منه وتعديلها على ضوء تجربة تنزيله. ويمثل التمسك بمرجعيته جوهر المعركة السياسية الدائرة وأساس رهانها. وقد كان الناطق الرسمي باسم هيئة الانتخابات المنصّبة في آخر ظهور إعلامي له أفاد بأنّ القرار الترتيبي الخاص بشروط الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، أصبح جاهزًا.

ولعل أهمّ ما يسترعي الانتباه ما جاء في تصريحه من "ازدواجية في المرجعية الدستورية" فأشار فيه إلى أنّ الشروط المتعلقة بالانتخابات الرئاسية "معلومة في القانون الانتخابي لسنة 2014" غير أنّه نبّه على "ثلاثة شروط جديدة وهي شرط السن والجنسية والحقوق المدنية والسياسية التي تم إضافتها طبقًا لدستور 2022". وهو ما سيجعل من هذه الإضافة من ناحية مضمونها ومرجعيتها مرفوضة من قبل المعارضة المجمعة، رغم تشتتها وضعفها، على مطلب تنقية المناخ السياسي وتوفر شروط انتخابات شفافة حرة وديمقراطية وفي مقدمتها هيئة مستقلة للانتخابات مثلما تقررت في دستور 2014. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"