13-يونيو-2024
الرأي العام

ما الذي يفسر اعتراض الكثير من المختصين عن خوض العامة في مجالات اهتماماتهم؟ (Getty)

مقال رأي 

 

ما انفكت الاختصاصات العلمية تتطور نحو مستويات أكثر عمقًا وتعقيدًا وتجريدًا إنْ في الطبّ أو الهندسة أو التعليم أو الفنون أو الرياضة أو غيرها من المجالات، يتجلّى هذا في المناهج والمواضيع والمصطلحات والأدوات. ومع ذلك يتواصل تناول تلك المسائل العلمية رغم دقتها في المقاهي وفي الأسواق وعلى قارعة الطريق وخاصّة على مواقع التواصل  الاجتماعي، فتصدر الانطباعات والأحكام والاحتجاجات من أطراف شتّى، من الأمّيين والعامة وعامة العامة والبسطاء والسذج وتصدر كذلك عن المثقفين والمجازين والباحثين من اختصاصات أبعد ما تكون عن موضوع الجدال.

من الطبيعي أن يتحول عمل فني أو مباراة رياضية أو حدث سياسي أو موقف سلوكي إلى قضية رأي عام يخوض فيها القاصي والداني، لكن هل يمكن لغير المختصين الخوض في مسائل تتصل بأنواع جديدة من اللقاحات أو بقضية فلسفية أو باختبار في الأدب؟

من الطبيعي أن يتحول عمل فني أو مباراة رياضية أو حدث سياسي أو موقف سلوكي إلى قضية رأي عام يخوض فيها القاصي والداني، لكن هل يمكن لغير المختصين الخوض في مسائل تتصل بأنواع جديدة من اللقاحات أو بقضية فلسفية أو باختبار في الأدب أو بلون متفرّد من الإبداع أو بظاهرة فلكية أو فيزيائية نادرة أو حتى بالإعداد البدني والاختيار التكتيكي لهذا المدرب أو ذاك؟

ما الذي يفسر اعتراض الكثير من المختصين عن خوض العامة في مجالات اهتماماتهم؟ ماذا لو كانت نتائج هذا المجال موصولة بأحوال الناس وأرزاقهم وصحتهم ومصير أبنائهم؟

هل يصدر هذا الموقف النخبوي عن حرص على الدقة المنهجية والمعرفية أم ينطوي على لون من التعالي والاحتكار المعرفي؟

ألا يمكن للعصامي المولع بالاطلاع أن يتفوق على أهل الاختصاص في بعض المجالات؟ 

كيف نستسيغ دفاع "المختصّ" عن موقفه المترفع وقد فرّط في شروط التعهد العلمي والشحذ والتحيين، فباتت معارفة أقرب إلى معارف العامة أو أدنى؟ 

 

النزعة الموسوعية والنعرة الفيسبوكية والدوافع المصلحية

ثمة ثلاثة عوامل تساهم في جعل المسائل العلمية الدقيقة في مجالات عديدة موضوعًا يتناوله الأفراد ويتفاعلون معه ويتناظرون فيه مهما اختلفت مشاربهم وتفاوت تكوينهم وتباينت ثقافاتهم ومرجعياتهم.

العامل الأوّل متأصّل في الثقافة العربية خاصة في فترات ازدهارها وتفوقها على بقية الأمم، وهو ما يسمّى النزعة الموسوعية، فالناظر في تاريخ العلوم العربية والإسلامية واجد تصنيفًا يراعي الاختصاصات، ففي الطبّ والصيدلة برع أبو بكر الرازي وابن سينا والزهراوي، وابن النفيس..، وفي علم الحساب والجبر علا نجم الخوارزمي وعمر الخيام، وفي الجغرافيا وعلوم البحار اشتهر الشريف الإدريسي. لكنّ المتمعن في سيرة هؤلاء الأعلام وغيرهم يتفطن إلى أنّ كلًّا منهم قد جمع في مكتبته ودواوينه معارف واسعة غزيرة منفتحة على مجالات شتى، فما من عالم منهم إلا وقد ألّف في تكوينه بين علوم اللغة والفقه والفلسفة فضلًا عن العلوم الصحيحة، فكأنّ النزعة الموسوعيّة و"الأخذ من كل شيء بطرف"، بصرف النظر عن وجاهتها، خصوصيةٌ معرفية وثقافيّة ثابتة في الحضارة العربية والإسلامية قديمها وراهنها.

مواقع التواصل الاجتماعي دفعت المتلقّي إلى "الزابينغ" والتحوّل السريع من مساحة إلى أخرى ومن مجال إلى غيره ممّا أتاح له الاطلاع العرضي السريع والسطحيّ على اختصاصات عديدة وأباح له الموقعُ الآمن وراء أزرار الحاسوب أو الهاتف الجوال التعبيرَ عن رأيه

العامل الثاني يمكن اعتباره طارئًا، فمواقع التواصل الاجتماعي من تيك توك وفيسبوك وغيرهما قد دفعت المتلقّي إلى "الزابينغ" والتحوّل السريع من مساحة إلى أخرى ومن مجال إلى غيره ممّا أتاح له الاطلاع العرضي السريع والسطحيّ على اختصاصات عديدة وأباح له الموقعُ الآمن وراء أزرار الحاسوب أو الهاتف الجوال التعبيرَ عن رأيه إعجابًا ونشرًا وإضافة، وهو ما أفضى إلى انطباعات ومواقف تبدو في الغالب سطحيّة سخيفة وفي أدنى الحالات مفتقرة إلى الدقة.

العامل الثالث موضوعي يتعلق بانفتاح المسائل الدقيقة على المصالح العامة، فالمقارنة بين التلاقيح ضد فيروس كورونا مشغل علمي معقّد غير أنّه يهم الجميع، فلا يحقّ بأي منطق حظر الخوض فيه وجعله رهين المجالس العلمية الضيقة، وقِس على ذلك امتحان البكالوريا،  فكونه اختبارًا علميًا وبيداغوجيًا مُحْكمًا لن يمنع أولياء التلامذة وأحبّتهم وأقرباءهم من الخوض فيه وفي عناصره ومعطياته وتمارينه وتقييماته، فنظرًا إلى ارتباط مصير الأبناء بهذا الحدث الوطني لا عجب أن يُدلي هذا الشيخ أو ذاك الكهل الأمّي بدلوه في حضور مسألة وغياب أخرى من هذه المادّة أو تلك. 

الجمهور الرياضي لم يدرس الخطط الرياضية الدقيقة المتطوّرة ومع ذلك لا أحد يستطيع أن يصدّه عن إبداء رأيه استحسانًا ورفضًا ومطالبة بالتغيير ولن تحدّ من عفويته عبارة تهكمية إحباطية من قبيل "أصبح لدينا عشرة ملايين مدرّب!"

وينطبق الأمر بوضوح في مجال كرة القدم، فالجمهور الرياضي لم يدرس الخطط الرياضية الدقيقة المتطوّرة ومع ذلك لا أحد يستطيع أن يصدّه عن إبداء رأيه استحسانًا ورفضًا ومطالبة بالتغيير ولن تحدّ من عفويته عبارة تهكمية إحباطية من قبيل "أصبح لدينا عشرة ملايين مدرّب!". 

 

 

  • فلسفة القمع ولوثة المنع

تناول العامّة المسائل المعرفية الدقيقة دفع الكثير من أهل الاختصاص إلى ردود أفعال متباينة فيها ما يوصف بالتجاهل وعدم الاكتراث وفيها ما يستند إلى حجج منطقيّة ودينيّة تنبه إلى أنّ الخوض في المسائل الدقيقة عن جهل قد يفضي إلى أخطاء لا يمكن أن تُجبر مذكرًا في هذا المقام بالمآسي التي يتسبب فيها "المتطببون" ومستندًا إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".

تناول العامّة المسائل المعرفية الدقيقة دفع الكثير من أهل الاختصاص إلى ردود أفعال متباينة فيها ما يوصف بالتجاهل وعدم الاكتراث وفيها ما يستند إلى حجج منطقيّة ودينيّة تنبه إلى أنّ الخوض في المسائل الدقيقة عن جهل قد يفضي إلى أخطاء لا يمكن أن تُجبر

ومن ردود الأفعال الحميدة إزاء ظاهرة خوض العامّة في المسائل الدقيقة ما يصنّف ضمن باب التفهمّ ومحاولة التصويب وتقريب المعلومة والتفسير والتأصيل والتفصيل والبيان والتبيين. وهو جهد حوّل المشغل العلمي إلى خطاب ثقافي ممتع ومفيد ومُشاع وينطوي على رسالة تعليميّة وإصلاحيّة تنبئ عن أوكد سمة من سمات العلماء وهي التواضع والمكابدة من أجل إبلاغ الحقيقة ونشرها.

الفئة الرابعة أبدت لونًا من ألوان السخط والصدّ ورفعت ضمنيًّا شعار "لا يتحدّثنّ في هذه المسائل من لم يكن مهندسًا أو فيلسوفًا"، ورجمت "الدخلاء" بنعوت من قبيل المتهافتين و"الرويبضة" و"الدجالين". وقد وصل الأمر بالبعض إلى الدعوة إلى إيجاد صيغة عمليّة تمنع التداول في هذه المسائل العلميّة والبيداغوجيّة الدقيقة على منصات التواصل الاجتماعي!

وصل الأمر بالبعض من "المختصين" إلى الدعوة لإيجاد صيغة عمليّة تمنع التداول في هذه المسائل العلميّة والبيداغوجيّة الدقيقة على منصات التواصل وهو موقف تُحركه فلسفة القمع وتكشف عن جهل صاحبها بمزايا السجالات والمناظرات بصرف النظر عن مواضيعها

موقف تُحركه فلسفة القمع ولوثة المنع وتكشف عن جهل صاحبها بمزايا السجالات والمناظرات والجدالات بصرف النظر عن مواضيعها، فهي تدخل أوّلًا في باب تفضيل الكلام على الصمت أليس الكلام أقرب إلى ماهية الإنسان؟ وهي ثانيًا تدرّب المرء على الحجاج والتفسير وبصرف النظر عن غياب الدقة والترتيب والتبويب فهي في كلّ الحالات ومهما كانت عيوبها يمكن اعتبارها دربةً على التفكير أفضل من وضعيّة "الصمّ البكم"، وهي ثالثًا تتيح فرصة كي تصبح المعارف المجردة قريبة إلى الأذهان سائرة على الألسن ممّا يجعل المختصين ينزلون من أبراجهم العاجيّة ويجعل البقيّة يصعدون درجة أو أكثر نحو فضاء معرفيّ أرقى. 

ما الخطر على سبيل المثال في أن يكون أحد مواضيع الفلسفة المتصل بمسألة الخصوصية والكونية مطروحًا بين زبائن في المقهى أو في منوّعة إذاعيّة أو تلفزيّة، لا شكّ أن المسألة التعليمية فيها ما فيها من عمق منطقي ومن تجريد فلسفيّ لكنّ الموقف الحكمي يقتضي أن لا نهزأ ولا نتهكم ولا نمنع ولا نتعالى، بل علينا أن نستبشر بنزول الفلسفة والمعرفة عامّة من المدارج المدرسية والمخابر التجريبيّة إلى الفضاء العامّ والأسواق اليومية والأسبوعيّة إن لزم الأمر.

 

  • متى كانت الرغبة بشوق طبيعي لم تسكن البتة 

لا شكّ أنّ المختصّ هو الأولى بأن يفتي ويعبّر عن رأيه وتقييماته في مجاله.. لو سلمنا بصدقيّة هذه الأطروحة ورجاحتها لا بدّ أن نراجع مصطلح المختصّ فهو ليس بمعطى ثابت فالاختصاص لا يعنى الإجازة التي نالها الطالب أو الدكتوراه التي تحصّل عليها الباحث إنّما هي شهادة تقتضي في كلّ مرحلة تثبيتًا وتأكيدًا متواترًا، فإذا لم يُكلف صاحب الاختصاص نفسه بتعهد شهادته وشحذها وتحيينها بما يستجد من معارف ومناهج وآلات حقّ القول إنّ شهادته قد انقضى رصيدها فهي في حاجة إلى إعادة الشحن. 

يحقّ للمختصّ أن يدافع عن صواب المعلومة ودقّة التعبير عنها وسلامة ترتيبها وإحكام تبويبها ومهارة توظيفها، لكنّ هذا الدفاع عن الحقيقة لا يقتضي حجبها أو احتكارها أو التضييق على مجالات تداولها

وبناءً على ذلك فإنّ من ربط معارفة بشهادات علميّة رسمية ينالها من هذه المؤسسة أو تلك فهو واهم. في المقابل، يحقّ لمن كان شغفه بالعلم تلقائيًّا عفويًّا بلا حدود أن يبدي الرأي ويناظر بل إنّ رأيه يمكن أن يعتدّ به أكثر من صاحب إجازة لم تحظ بالعناية والرسكلة، وكيف لها أن تصمد وهي مجرد شهادة اختصاص آنية في ظلّ علوم سيالة متاحة للجميع وعالم معرفي متحوّل متقلب متطور لا يلتفت إلى معارف صنمية معلقة في جدران ثابتة معلنة عن نهاية المسار العلمي، إنما التخصّص العلمي الفعلي الحقيقي يرحبّ بمن ينطبق عليهم قول أبي حيان التوحيدي "متى كانت الرغبة بشوق طبيعي لم تسكن البتة"، إنها "ديمومة التعلّم" الرغبة التي لا تفنى ولا يقتلها كبرياء أو جهل مركّب.  

فصل المقال، يحقّ للمختصّ أن يدافع عن صواب المعلومة ودقّة التعبير عنها وسلامة ترتيبها وإحكام تبويبها ومهارة توظيفها، لكنّ هذا الدفاع عن الحقيقة لا يقتضي حجبها أو احتكارها أو التضييق على مجالات تداولها، إنّما الدفاع عن الحقيقة علميّة كانت أو سياسيّة أو فقهيّة أو فنيّة يكون من خلال الحديث فيها والتناظر حولها مع الجميع وفي كلّ مكان وبكل اللغات واللهجات العلمية والعامية.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"