مقال رأي
لم يكن مفاجئًا، بصفة أوليّة، تعيين أمين عام جديد لاتحاد المغرب العربي وهو الدبلوماسي التونسي طارق بن سالم بدلًا من الطيب البكوش الذي تولّى الأمانة العامّة طيلة ثماني سنوات. وكان قد بدأ عهدته عام 2016 زمن الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، وتجدّد تكليفه لعهدة ثلاثية موالية انتهت صيف 2022، وكان يُفترض تعيين أمين عام جديد عبر اقتراح تونسي رسمي يلقى موافقة بقية الدول الأربع المكوّنة للاتحاد.
المثير للانتباه، فعلًا، هو التأخّر في استبدال الطيب البكوش ليس فقط لاعتبار نهاية العهدة فقط، بل لجفاء علاقته مع رئاسة الجمهورية التونسية، ولكن أيضًا، وبالخصوص، لتصاعد الرفض الجزائري له بل لتشكيكها في شرعيته بعد انتهاء العهدة، وهي التي تعتبره منحازًا للمغرب، بلد مقرّ الأمانة العامة.
تعدّدت طيلة السنوات الماضية مؤشرات جفاء العلاقة بل انعدامها بين سعيّد والبكوش الذي يُنظر إليه باعتباره من تعيينات "العشرية" خاصة وأن البكوش كان قياديًا في حزب نداء تونس فلم يستقبله إلا مرّة وحيدة في بداية عهدته الرئاسية
وكانت قد تعدّدت طيلة السنوات الماضية مؤشرات جفاء العلاقة بل انعدامها بين رئيس الدولة قيس سعيّد وأمين عام الاتحاد المغاربي الطيب البكوش الذي يُنظر إليه باعتباره من تعيينات "العشرية" خاصة وأن البكوش كان قياديًا في حزب نداء تونس. فلم يستقبله الرئيس سعيّد إلا مرّة وحيدة وذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019 في سلسلة اللقاءات المجراة في بداية العهدة الرئاسية.
لكن قد يكون سبب جفاء العلاقة هو التحدّي العلني الذي رفعه البكوش، بداية عام 2020 في خضمّ تواتر الحديث حينها عن رغبة سعيّد في إبعاده، بأن الرئيس إن حاول إقالته فإنه سيضرّ بنفسه وبصورة البلاد باعتبار ذلك يتطلّب موافقة الدول الأعضاء.
قد يكون سبب جفاء العلاقة هو التحدّي العلني الذي رفعه البكوش، بداية عام 2020 في خضمّ تواتر الحديث حينها عن رغبة سعيّد في إبعاده، بأن الرئيس إن حاول إقالته فإنه سيضرّ بنفسه وبصورة البلاد باعتبار ذلك يتطلّب موافقة الدول الأعضاء
البكوش وقتها أكد في تصريح إذاعي نيّته مغادرة الأمانة العامة بنهاية العهدة في فترتها الثانية، على نحو أظهر نفسه ليس كتعيين أمر واقع لا يمكن للرئيس المساس به، بل أيضًا أظهر عدم تودّده له بل تباينه عنه. فالطيب البكوش لم يتردّد، وقتها، في نقد طريقة إقالة مندوب تونس لدى مجلس الأمن وقتها المنصف البعتي معتبرًا ذلك "أمرًا كارثيًا".
تباعًا كان المنتظر أن يسعى سعيّد للتخلّص من البكوش فور نهاية عهدته جوان/يونيو 2022. ولذلك ظهر لافتًا تأخّر ذلك لنحو عامين كاملين، وهو الأمر الذي لا يعود لعدم قدرة الجهاز الدبلوماسي التونسي على تقديم مرشّح يلقى بالخصوص توافقًا مزدوجًا من الجزائر والمغرب على نحو الإجماع الذي تفرضه لوائح الاتحاد، بقدر ما يعود لعاملين اثنين.
كان المنتظر أن يسعى سعيّد للتخلّص من البكوش فور نهاية عهدته في جوان 2022 لكن يبدو أنّ عدم القيام بذلك يعود لعاملين أحدهما يتعلق ببطء حيوية الجهاز الدبلوماسي التونسي والثاني بتصاعد الأزمة السياسية بين بلدان المغرب العربي
العامل الأول هو بطء حيوية الجهاز الدبلوماسي التونسي في السنوات الأخيرة خاصة فيما يتعلّق بالتعيينات على نحو أدى لشغورات عديدة وغير مسبوقة في عديد السفارات والقنصليات لم يتمّ سدّها إلا بعد طول انتظار. ويرتبط هذا العامل بغياب حماسة سعيّد في الدفع بالمشروع المغاربي على الأقل من بوّابة الاتحاد، وهو ما توازى مع تعزيز التحالف مع تبون غير المتحمّس بدوره لإنعاش دور الاتحاد.
والعامل الثاني يتمثّل في تصاعد الأزمة السياسية بين بلدان المغرب ليس بين الجزائر والمغرب فقط، بل امتدّت لتشمل تونس مع الرباط التي بلغت مستوى سحب السفير المغربي بعد دعوة السلطات التونسية لرئيس جبهة "البوليساريو" في قمة "تيكاد" صيف 2022، وقبلها، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، امتنعت تونس عن التمديد لبعثة "مينورسو" في الصحراء، على نحو أظهر انحيازًا تونسيًا للموقف الجزائري. وهو ما جعل قنوات الاتصال الدبلوماسي بين تونس والمغرب ليست يسيرة على خلاف المعتاد.
ظلّت الجزائر تنظر بريبة إلى البكوش وسرعان ما تحوّلت الريبة إلى قطيعة في التعامل معه، كان أحد عناوينها عدم توجيه الرئيس تبّون دعوة إليه، بصفته أمين عام الاتحاد المغاربي، للمشاركة في أعمال القمة العربية بالجزائر عام 2022
في الأثناء، ظلّت الجزائر تنظر بريبة إلى البكوش الذي كان بدوره، وهو للتذكير أمين عام سابق لاتحاد الشغل وزير الخارجية السابق المنتمي للمدرسة البورقيبية، يعاين ما ظهر ارتماءً تونسيًا تحت المظلة الجزائرية، بما شمل تجاوز ثوابت لطالما ظهر أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أرساها في مقدّمتها النأي بالنفس عن الصراع الجزائري المغربي في قضية الصحراء. وهو الخيار الذي جعل تونس تظهر صديقًا مقبولًا بين الطرفين بما جعلها تحتكر منذ تأسيس الاتحاد منصب الأمانة العامة، وإن كانت تعمل الجزائر والرباط، دائمًا، على محاولة اقتناص أي موقف رسمي تونسي لحساب كل منها.
الريبة الجزائرية من الطيب البكوش، وخاصة بعد مؤشرات رفع الرئاسة التونسية يدها عنه، سرعان ما تحوّلت إلى قطيعة في التعامل معه، كان أحد عناوينها عدم توجيه الرئيس تبّون دعوة إليه، بصفته أمين عام الاتحاد المغاربي، للمشاركة في أعمال القمة العربية بالجزائر عام 2022. الدبلوماسي التونسي لم يتردّد بدوره في نشر بلاغ رسمي بذلك، على نحو يبيّن رغبته في إحراج الجزائريين. الأمر الذي تبيّن بإعلانه، في ماي/أيار 2023، أن الجزائر لم تدفع مساهماتها المالية في الاتحاد المغاربي، وهو ما اعتبرته الجزائر "افتراءً" بحقّها.
ظهرت أشبه بحملة جزائرية قادتها وسائل إعلام محسوبة على السلطة ضد البكوش بوصفه "بيدق المخزن" في إشارة للسلطات المغربية، بل اعتبرت وكالة الأنباء الجزائرية بأنه تحوّل إلى "دبلوماسي مغربي تابع". جريدة "الشروق" الجزائرية واسعة الانتشار لم تتردّد في توصيفه بأنه "شخص منتحل الصفة" بعد انتهاء عهدته.
وقد تصاعدت هذه الحملة بالخصوص بعد تعيين البكوش، العام المنقضي، المغربية أمينة سلمان ممثلة دائمة للاتحاد لدى الاتحاد الإفريقي، وهو ما رفضته الجزائر واعتبرته انحيازًا واضحًا للمغرب. البكوش أكد أن التعيين ليس إلا تنفيذًا لقرار سابق يعود لعام 2018 تعطّل تنفيذه بسبب جائحة "كورونا"، وانتقد التشكيك الجزائري في شرعيته مبينًا أن المراسلات الجزائرية قبل أزمة التعيين دائمًا تستعمل صفته كأمين عام.
تبقى مهمة الأمين العام الجديد للمغرب العربي طارق بن سالم عسيرة في المناخ المغاربي المتوتّر ذلك أن القدرة على إنعاش الاتحاد تبقى رهينة الإرادة السياسية لأعضائه، وتحديدًا الجزائر والمغرب
ربّما لم تشهد العلاقة بين أمين عام وأي دولة عضو في الاتحاد هذا المستوى من القطيعة وتبادل البيانات والاتهامات كما شهدته علاقة البكوش والجزائر. ولا يمكن، في الأثناء، قراءة المبادرة الجزائرية للتكتل الثلاثي مع تونس وليبيا بعيدًا عن سقف الاتحاد إلا ضمن هذا التوتّر.
الأمين العام الجديد طارق بن سالم، وهو التونسي الخامس الذي يتولى هذا المنصب، عمل سفيرًا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وآخرها روسيا، وشغل مناصب عليا بالوزارة كإدارة التعاون مع أوروبا والاتحاد الأوروبي وإدارة العلاقات الأورومتوسطية، وأيضًا، وبالخصوص، إدارة المغرب العربي، على نحو يعيد تعيينه خيار اقتراح دبلوماسيين من ذوي التجربة المهنية في الوزارة، على غرار أول أمين عام محمد عمامو والحبيب بن يحيى الذي تولّى الأمانة لعشر سنوات كاملة.
لكن تبقى مهمته عسيرة في المناخ المغاربي المتوتّر ذلك أن القدرة على إنعاش الاتحاد تبقى رهينة الإرادة السياسية لأعضائه، وتحديدًا الجزائر والمغرب، وهو ليس فقط الأمر الغائب منذ سنوات عديدة، بل تزداد مؤشرات صعوبته، وذلك في ظل توسّع الخلافات البينية بين أعضائها من جهة وتتالي مبادرات الجزائريين والمغاربة، كلّ من جهته، لبناء تحالفات مغاربية أو إقليمية بوجه عامّ تتجاوز غطاء الاتحاد الذي يشترك الجميع في وصفه بأنه في حالة موت سريري مستدام.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"