مقال رأي
لم يعد مستغربًا أن تواصل الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف بتونس إحالة المحامين النائبين في المحاكمات السياسية على التحقيق، وآخرهم المحاميتان دليلة مصدق وإسلام حمزة على خلفية إعلانهما أن هيئة الدفاع في قضية "التآمر على أمن الدولة" تقدمت بطلب لسماع الدبلوماسيين الأجانب الذين تم إقحامهم، بأسمائهم وصفاتهم، في القضية.
لم يعد مستغربًا أن تتواصل إحالة المحامين النائبين في المحاكمات السياسية على التحقيق وآخرهم المحاميتان دليلة مصدق وإسلام حمزة إثر إعلانهما عن تقدم هيئة الدفاع بطلب لسماع الدبلوماسيين الذين تم إقحامهم في القضية
برّأت النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، في بلاغ لها في شهر أفريل/نيسان 2023، هؤلاء الدبلوماسيين من ارتكاب جريمة التخابر والتآمر على أمن الدولة والحال أن المعتقلين السياسيين يواجهون هذه التهم لمجرد عقد عدد منهم لقاءات معهم، وهو الأمر وإن كان غير مجرّم ومن طبيعة النشاط السياسي العام، فهو المؤسس لتوجيه تهم خطيرة تصل عقوبتها للإعدام.
ملف قضية التآمر على أمن الدولة ليس إلا ملفًا مفبركًا أعدته السلطة السياسية للتآمر على المعارضة التي كان يعمل عدد من قادتها على عقد حوارات بغاية توحيد الصف لاستعادة النظام الديمقراطي. أقحمت السلطة الدبلوماسيين في القضية بغاية توريط المعتقلين، ولكن لم تتورّط إلا السلطة ما دفعها لإصدار بيان أفريل/نيسان السابق ذكره. وزاد تورطها أنه منذ الإيقافات في شهر أفريل/نيسان لم يتوصل التحقيق إلا بما يؤكد الحقيقة المعلومة: لا توجد جريمة.
ملف قضية التآمر على أمن الدولة ليس إلا ملفًا مفبركًا أعدته السلطة للتآمر على المعارضة وأقحمت الدبلوماسيين في القضية بغاية توريط المعتقلين ولكن لم تتورّط إلا السلطة وزاد تورطها عدم توصل التحقيق إلا لما يؤكد عدم وجود جريمة
طلب سماع الدبلوماسيين هو عمل إجرائي تقدمت به هيئة الدفاع، وإعلانه للرأي العام حق، لكن السلطة علمت أن مأزقها قد زاد وورطتها تفاقمت باعتبار أن مآل فبركة الملف لا يقف إلا على إيداع سياسيين ديمقراطيين في السجن، ولكن يمتدّ لآثار دبلوماسية. التلاعب بالحقيقة وتزييفها مكلف بنهاية المطاف. ولكن من تورط في الفبركة لا يريد إظهار الحقيقة بل بالعكس يعمل على إعدامها وفرض الحصار على وسائلها ومن ذلك استهداف المحامين.
إحالة المحاميتين مصدق وحمزة هي الإحالة الرابعة لمحامين أعضاء في هيئة الدفاع في قضية تآمر السلطة على المعارضة كما يستوجب تسميتها. انطلق مسلسل استهداف الهيئة بإحالة المحامي العياشي الهمامي في القضية لأنه كان حاضرًا في اجتماع للمعارضة، ببساطة. تواصل الاستهداف بإحالة المحامية إسلام حمزة إثر تصريح إذاعي حول "سيارة التعذيب" التي لا تراعي الشروط الإنسانية لنقل المعتقلين الذين باتوا بنظر السلطة "إرهابيين". كما اُحيل المحامي عبد العزيز الصيد على التحقيق لإعلانه في ندوة صحفية تقديم شكاية ضد وزيرة العدل إثر معاينة تدليس مادي في الورقة التي انطلقت بها القضية، والتي للتذكير بدأت إجرائيًا بطلب من وزيرة العدل وليس بتعهد مباشر من النيابة العمومية، بما يكشف العنصر السياسي البحت لهذه القضية.
استهداف المحامين مغزاه إسكات صوت الحقيقة التي تكشف حجم الخروقات الخطيرة فيما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة" ومدى خواء الملف
استهداف المحامين مغزاه إسكات صوت الحقيقة التي تكشف حجم الخروقات الخطيرة في هذه القضية ومدى خواء الملف. لماذا أصدر قاضي التحقيق قرارًا بمنع التداول الإعلامي في القضية في جوان/يونيو المنقضي؟ الغاية هي كتم الحقيقة في مخالفة لحريات التعبير والنشر والصحافة وحق الدفاع والحق في المعلومة.
سرية التحقيق ليست غاية في حد ذاتها بل هي تتكامل مع ضمانات المحاكمة العادلة الأخرى، وإن غابت الضمانات الجوهرية كاستقلال القضاء وعدم تدخل السلطة السياسية في أعمال البحث، لا يصبح التعلل بها إلا وسيلة لقبر الحقيقة. وتقييد الحريات أصلًا لا يتم إلا وفق ضوابط دستورية تتوافق مع المعايير الدولية وقوامها احترام شروط الشرعية والضرورة والتناسب، وهي جميعها تم خرقها في قرار منع التداول، الذي لم يصدر إلا بعد فشل السلطة السياسية وأداتها القضائية في الإيهام بوجود جريمة أمام صلابة القناعة بالحقيقة التي تؤكدها هيئة الدفاع: هذه محاكمة سياسية للمعارضة ولا توجد قرائن لارتكاب أي فعل أو قول يجرّمه القانون.
الخطير في الهجمة الأخيرة على هيئة الدفاع في قضية "التآمر" هو إمعان السلطة في ضرب ضمانات ممارسة حق الدفاع وبالخصوص حصانة المحامي من التتبع على خلفية الأعمال التي يمارسها أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها
الخطير في الهجمة الأخيرة على هيئة الدفاع هو إمعان السلطة في ضرب ضمانات ممارسة حق الدفاع وبالخصوص حصانة المحامي من التتبع على خلفية الأعمال التي يمارسها أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها. وهو إمعان يزيد من تهديم ضمانات المحاكمة العادلة بالتحويل الممنهج للمحامين في قضايا السياسيين إلى متهمين بدورهم. إعلام الرأي العام بتقديم مطلب سماع لقاضي التحقيق بات موجبًا للتتبع بنظر السلطة، في محاولة للهرسلة تتعدى إلى ما هو أخطر وهو تقييد الدفاع.
في الختام، كلما بزغت الحقيقة ارتبكت السلطة السياسية التي أطلقت التتبعات في القضية وأشرفت على إدارتها. تحوّلت قضية التآمر، بالنهاية، إلى نموذج للمحاكمات السياسية الجارية في تونس أمام المجتمع الحقوقي المحلي والدولي على حدٍّ سواء.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"