مقال رأي
تاريخ نشأة الأنظمة السلطوية والقمعية أو تلك الهجينة في أقل توصيف يبيّن أنها تستهدف، في مرحلة أولى، المعارضين المزعجين للسلطة في محاكمات تفتقد لضمانات المحاكمة العادلة، ثم وبالتبعية تستهدف لسان الدفاع أي المحامين ليس فقط لأنهم يؤدون دورهم في تقويض التهم الملفقة أمام المحاكم ولكن بالخصوص لأنهم يعروّن أمام الرأي العام الانتهاكات والخروقات ويكشفون حقيقة القضايا وخلفياتها، وهو ما يحرج السلطة ويضعها في مأزق دائمًا.
تاريخ نشأة الأنظمة السلطوية والقمعية يبيّن أنها تستهدف، في مرحلة أولى، المعارضين المزعجين للسلطة في محاكمات تفتقد لضمانات المحاكمة العادلة، ثم وبالتبعية تستهدف لسان الدفاع أي المحامين
والمحامي أصلًا، طبق رسالة مهنته وقيمها ومرسومها، هو مدافع عن الحقوق والحريات، وبالتالي بنيابته في القضايا السياسية فهو يدافع عن نفسه ورسالته. لذلك لم يكن من المفاجئ أن دائرة استهداف السلطة في تونس اتّسعت مبكرًا استهدافًا للمحامين الحقوقيين آخرهم إحالة الأستاذة إسلام حمزة على التحقيق على خلفية تصريحين إعلاميين بخصوص الوضعية غير الإنسانية لتنقّل المعتقلين السياسيين المصنفين كـ"إرهابيين".
لتتبيّن الصورة: تستخدم السلطة في نقل المودعين في السجن والمحالين طبق قانون مكافحة الإرهاب عربة وصفتها هيئة الدفاع عن القادة السياسيين المعتقلين فيما يُسمى قضية "التآمر" نقلًا عنهم بأنها "سيارة التعذيب"، وهي عبارة عن شاحنة متوسّطة الحجم مُعدّة في الأصل لنقل عُتاة المجرمين وأخطر الإرهابيّين، وهي مجهزة بقفص حديديّ معدّ لاستقبال شخص واحد، وهو يتوسط الصندوق الخلفي للشاحنة، بحيث يقع وضع السجين داخله مُكبّل اليدين مطأطأ الرأس في وضعية الجلوس بما يجعله غير قادر على الحفاظ على التّوازن كلما تحرّكت العربة.
أدى استعمال هذه السيارة لمعاناة المعتقلين في ظل الغثيان والاختناق والإيذاء الجسدي عمومًا دونًا عن الإيذاء النفسي، وهو ما جعلهم يقرّرون عدم الخروج من السجن للمحكمة أو للمشفى بسببها. وإثر بيان احتجاجي من هيئة الدفاع، أوضحت الأستاذة إسلام حمزة للرأي العام حقيقة هذه العربة دفاعًا عن كرامة المعتقلين وحرمتهم الجسدية.
لا تتعلق المسألة بطلب معاملة تمييزية بل بطلب معاملة إنسانية مع قيادات ديمقراطية زُجّ بها في السجن على خلفية مواقفها السياسية المعارضة للسلطة التي اتهمتهم بالإرهاب.
الهيئة العامة للسجون والإصلاح وبدل معالجة المشكل اختارت التشكي ضد إسلام حمزة التي مارست دورها كمحامية، وهي المحامية التي نذرت مجهودها إسنادًا للمعتقلين في المحاكمات السياسية منذ انقلاب 2021. وطالبت الهيئة بتطبيق المرسوم عدد 54 سيء الذكر الذي تصل فيه عقوبة جريمة "نشر أخبار زائفة" لمدة 10 سنوات. هو انهيار تامّ لممارسة حرية التعبير وضرب ممنهج لحق الدفاع.
وإسلام حمزة ليست المحامية الأولى التي تُحال على التحقيق على خلفية ممارستها لمهنتها، فالقائمة طويلة طيلة العامين الآخيرين، إذ شملت على سبيل الذكر مهدي زقروبة الذي تعرّض لمظلمة بمحاكمته على نفس الفعل مرتين، و14 محاميًا اُحيلوا دفعة واحدة بمناسبة بحثهم عن نور الدين البحيري بعد وضعه تحت الإقامة الجبرية في بنزرت بداية عام 2022.
إسلام حمزة ليست المحامية الأولى التي تُحال على التحقيق على خلفية ممارستها لمهنتها في تونس، فالقائمة طويلة مؤخرًا ومنهم نذكر مهدي زقروبة والعياشي الهمامي وعبد العزيز الصيد وغيرهم
كما اُحيل الأستاذ عبد العزيز الصيد بسبب تصريح في ندوة صحفية في ماي/أيار 2023، مفاده تقديم شكاية جزائية ضد وزيرة العدل بعد معاينة تدليس في أوراق قضية ينوب فيها. التتبع في نفس القضية شمل العياشي الهمامي، وهو الذي اُثير تحقيق ضده بداية عام 2023 على خلفية تصريح إذاعي ندّد خلاله بصفته رئيس هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين بهذه المظلمة.
اُثيرت جملة هذه التتبعات والحال أن مرسوم المحاماة يحصّن أعمال المحامي أثناء ممارسة مهنته أو بمناسبتها من أي دعوى. والغاية من هذه القضايا معلومة هي تخويف المحامين الذين اختاروا الانحياز للحق ومواجهة الظلم، والسعي لإسكاتهم، وهي محاولات فاشلة لأن من اختار التصدي للسلطة في جبروتها فهو مستعدّ لدفع الكلفة اللازمة إيمانًا برسالته وتطبيقًا لمبادئه.
ويبيّن التاريخ السياسي والحقوقي في تونس أنه طالما تصدّر محامون لواء التصدّي للاستبداد ومنهم على سبيل الذكر راضية النصراوي الحقوقية التي تجنّدت للدفاع عن المظلومين بشجاعة حاسمة وقول لا يخشى ترهيبًا أو تهديدًا.
اُثيرت جملة من التتبعات ضد محامين في تونس مؤخرًا والحال أن مرسوم المحاماة يحصّن أعمال المحامي أثناء ممارسة مهنته من أي دعوى والغاية من هذه القضايا هي تخويف المحامين
والآن في ظلّ المحاكمات السياسية المثارة ضد السلطة من المعارضين والتي استهدفت السياسيين والصحفيين والمواطنين، يقود محامون لواء التصدي للعبث السلطوي والإصداع بالحق رغم محاولات الترهيب ومؤشرات الهرسلة من هنا وهناك.
فالسلطة دائمًا ما يزعجها لسان الدفاع لأنه يعرّيها ويفضح انتهاكاتها. ولذلك في تونس الآن، بات كل محام في محاكمة سياسية مشروع متهّم. ولكن لن تتحقق الغاية من هذه الحملة الممنهجة على المحامين الحقوقيين فكلمًا ازداد الترهيب، ازداد التمسّك بأداء الواجب إصداعًا بالحق وحماية للحقوق والحريات.
في تونس الآن، بات كل محام في محاكمة سياسية مشروع متهّم ولكن لن تتحقق الغاية من هذه الحملة الممنهجة على المحامين الحقوقيين فكلمًا ازداد الترهيب، ازداد التمسّك بأداء الواجب إصداعًا بالحق وحماية للحقوق والحريات
ولا يُستذكر ختامًا إلا البيان التاريخي للفرع الجهوي للمحامين بتونس في جوان/يونيو 2022 وجملته الحاسمة: "محامو فرع تونس باقون هنا في الصف الأول، في حصن الدفاع الأخير عن الحرية والحق والعدل والقانون ولو تساقط الكل على الطريق وبقينا وحدنا في هذه المعركة الوجودية، معركة الحقوق والحريات".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"