مقال رأي
تشهد البلاد التونسية اليوم والساحة الحقوقية على وجه الخصوص حالة جزر بما هو تراجع في منسوب الحقوق والحريات وحالة مدّ بما هو ارتفاع لمنسوب الانتهاكات والتضييق على الحريات العامة والفردية والمساس من مكاسب الحقوق ما بعد الثورة.
وهذا المساس لم يتوقف عند محاكمات الشباب الناشط في المجال الحقوقي فحسب بل امتد ليطال لسان الدفاع أيضًا، فقد تم منذ الأسبوع الفارط إعلام المحامييْن أيوب الغدامسي وحياة الجزار بإحالتهما على أنظار التحقيق، وتجدر الإشارة إلى أن المحاميين المحالين هما من بين المحامين الذين ارتبطت أسماؤهم وصفاتهم بالدفاع الدائم عن حقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وممن تعالت أصواتهم في أروقة المحاكم دفاعًا عن النشطاء والناشطات بمختلف توجهاتهم وفي ساحات النضال دفاعًا عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعب التونسي.
تشهد تونس وخاصة الساحة الحقوقية اليوم حالة جزر بما هو تراجع في منسوب الحقوق والحريات وحالة مدّ بما هو ارتفاع لمنسوب الانتهاكات والتضييق على الحريات
إن التزامهما بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان هو ما جعل دعمهما متواصلًا للحراك الاجتماعي فهما بالأساس ينحدران من العائلة التقدمية؛ المحامية حياة الجزار هي مدافعة عن الحقوق والحريات وهي عضوة في الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات منذ التسعينات، وناشطة في مركز الاستماع والتوجيه للنساء ضحايا العنف الخاص بالجمعية وهو ما فتح أمامها المجال لتكون جنبًا إلى جنب مع ضحايا العنف لمساندتهم والإحاطة بهم والدفاع عنهم وتمثيلهم أمام الهياكل المختصة.
وإلى جانب النشاط النسوي للمحامية الجزار، هي عضوة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهو ما تشترك فيه مع المحامي أيوب الغدامسي الذي انطلق في مشواره الحقوقي منذ سنوات الجامعة صلب هياكل الاتحاد العام لطلبة تونس وتدرج فيها وصولًا لقيادة اتحاد الطلبة. وعلاوة على نشاطه الطلابي فقد توجه إلى النشاط الحقوقي وعزز صفوف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ناشطًا وعضوًا كما ترأس الفرع الجهوي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بمنوبة وغيرها من الأنشطة التي مارسها سواء بوصفه مدافعًا عن حقوق الإنسان أو كلسان دفاع عن المضطهدين أينما وجدوا إيمانًا منه بمبادئ المحاكمة العادلة وحق الدفاع المكفول في كافة التشريعات والقوانين الدولية.
رغم تعدد الضمانات القانونية للحق في المحاكمة العادلة من خلال ضمان الحق في الدفاع، فإن إحالة محاميين على التحقيق على خلفية مرافعتهما تبيّن العكس تمامًا
غير أنه يجد نفسه اليوم مُحالًا على أنظار التحقيق بمعية زميلته وذلك على خلفية دفاعهما ومرافعتهما بعد أن تم تكليفهما من طرف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بتمثيل ونيابة ضحية تعذيب، والمعلوم أن مرافعات المحامي وأعماله تكتسب حصانة ولا تترتب عنها دعوى جزائية، ولا تتعرض أعمال المحامي ومرافعاته والتقارير المنجزة أثناء مباشرته لوظيفته إلا للمساءلة التأديبية وهو ما يؤكده الفصل 47 من المرسوم عدد 79 لسنة 2011 المنظم لمهنة المحاماة "لا تترتب عن الأعمال والمرافعات والتقارير المنجزة من المحامي أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها أية دعوى ضده. ولا يتعرض المحامي تجاه الهيئات والسلطات والمؤسسات التي يمارس مهنته أمامها إلا للمساءلة التأديبية وفق أحكام هذا المرسوم."
رغم تعدد الضمانات القانونية لحماية حقوق المواطنين وضمان الحق في المحاكمة العادلة من خلال ضمان الحق في الدفاع، فإن هذه الإحالات تبيّن العكس تمامًا فلا حقوق تُرد في ظل لسان دفاع مقيّد في مرافعته وأعماله فالأصل في لسان الدفاع أن يكون حرًا ومحصّنًا، لذا فإن هذه الإحالة هي سابقة خطيرة من نوعها في ظل وجود مرسوم ينظم مهنة المحاماة ويحصن أعمالها.
وقد لاقت هذه الإحالات حملة تضامن واسعة من جميع مكونات المجتمع المدني الوطني والدولي كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من مكونات نسيج المجتمع المدني التي نددت بهذه الإحالة ودعت لوقف محاكمات الناشطين.
لا حقوق تُرد في ظل لسان دفاع مقيّد في مرافعته وأعماله فالأصل في لسان الدفاع أن يكون حرًا ومحصّنًا، لذا فإن إحالة محاميين على التحقيق على خلفية مرافعتهما هي سابقة خطيرة
وقد أصدرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بيانًا بعنوان "أوقفوا محاكمات الحقوقيين و نشطاء المجتمع المدني" وقد جاء فيه عرض المشهد العام في البلاد التونسية ودعوة لوقف التتبعات في حق نشطاء المجتمع المدني، كما اعتبرت الرابطة إحالة المحامين مسًّا من حق الدفاع المكفول بالدستور والتشريعات الدولية.
وجددت دعوتها لتعديل السياسة الجزائية للدولة، كما دعت إلى سنّ قانون يحمي المدافعين عن حقوق الإنسان على غرار العديد من الدول الإفريقية، وذلك التزامًا بما جاء في الإعلان العالمي للمدافعين عن حقوق الإنسان.
هذا وقد نفذ عدد من مكونات المجتمع المدني وقفة مساندة أمام قصر العدالة تزامنًا مع جلسة السماع أمام قاضي التحقيق يوم الأربعاء 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022 وسط حضور عدد كبير من المحامين تلبيةً للدعوة الصادرة عن الهياكل الرسمية للمهنة للوقوف نصرة لزملائهم وللدفاع عن حق الدفاع، وقد فاق عدد المحامين 200 محام ومحامية حسب تصريحات الأستاذ طارق الحركاتي رئيس الجمعية التونسية للمحامين الشبان لموقع le temps news، كذلك حضر ممثلان عن المجلس الوطني لعمادات المحامين بباريس وهما المحاميان مارتان برادال Martin Pradel وسيف الله المصري، للمساندة الحضورية والتعبير عن دعمهما المطلق في الدفاع عن الضمانات الدولية للمحاكمة العادلة وعلى رأسها حق الدفاع.
كرامة المواطن وحقه من كرامة محاميه، فإن لم يكن الدفاع محميًا تُنتهك حقوق الإنسان
أمّا بالنسبة لسير الجلسة فقد انعقدت بقاعة المكتبة الخاصة بالقضاة في المحكمة الابتدائية بتونس نظرًا للحضور العددي الكبير لهيئة الدفاع، وقد تم سماع المحاميين المُحالين، ومن ثمة تم الشروع في الترافع تباعًا، ووقف أعضاء هيئة الدفاع على عدد من النقاط الشكلية التي تخص الإحالة من بينها غياب محضر معاينة الجريمة المجلسية أي المرتكبة في قاعة الجلسة والتي تمت على أساسها الشكاية، فالنص القانوني في حالة وقوع جريمة مجلسية يشترط وجود عدة شروط أهمها وجود محضر مستقل يحرر ويُحال بشكل فوري وهو ما نص عليه الفصل 295 من الإجراءات الجزائية التونسية.
إذًا ومن خلال إعادة طرح مسألة حماية حق الدفاع نجد أنفسنا أمام معركة حقوقية وجب الوقوف عليها وضمانها بما لا رجعة فيه عن طريق النصوص القانونية وكذلك فعليًا وعلى أرض الواقع فكرامة المواطن وحقه من كرامة محاميه، فإن لم يكن الدفاع محميًا تُنتهك حقوق الإنسان.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"