بعد توقف عن العروض دام سنتين عادت المهرجانات في الساحل التونسي إلى الركح من جديد واستقبلت مرتاديها من عشاق الفن والمسرح والسينما. وقد تأثرت بالوضع الوبائي الذي أخلّ بالتحضيرات الفنية وأضعف التمويل المادي وذهب منظموها من جمعيات إلى التقشف والتعويل على العروض المدعمة من وزارة الثقافة التونسية.
ولعل الاضطراب في التنظيم وتوقيت إعلان المواعيد الفنية التي تزامنت مع فترة الاستفتاء على الدستور وما رافقها من تأجيل أو تعديل قد أثر على بعض المهرجانات الدولية مثل مهرجان أوسو الدولي الذي اضطر إلى تأجيل العروض والسهرات وإطلاق الشماريخ إلى موفى شهر أوت/أغسطس وذلك لأول مرّة في تاريخه باعتبار أن فعالياته كانت وفيّة لتاريخ 25 جويلية/يوليو.
بعد توقف عن العروض دام سنتين عادت المهرجانات في الساحل التونسي إلى الركح من جديد واستقبلت مرتاديها من عشاق الفن والمسرح والسينما، لكن الظاهر أن تداعيات الوضع الوبائي ألقت بظلالها على التحضيرات الفنية والتمويل المادي لها
العروض الأولى في مهرجان سوسة الدولي ومهرجان المنستير ومهرجان السمفونية بالجم وبعض العروض في حمام سوسة وجمّال أبرزت وفاء الجمهور لأجواء المهرجانات الصيفية وحضوره بكثافة وتقييمه للأداء بشكل جيد كما ظلّ الجمهور فيصلًا في الحكم على نجاح عرض فني من فشله، و قد لاحظنا ذلك من خلال عرض لمين النهدي في مسرح سيدي الظاهر بسوسة الذي لم يكن عند المأمول تقنيًا وفنيًا مما دفع الفنان إلى تعليق ذلك الفشل على التجهيزات الصوتية والضوئية الركحية التي لم تكن راقية مما دفع هيئة مهرجان سوسة لتفنيد ما ذهب إليه النهدي.
بعيدًا عن المسارح والفضاءات الأثرية التي تحتضن الحفلات، عجّت مدارج الملاعب الرياضية بالجماهير في ملعبي حمام سوسة وجمّال والمنستير وكشفت هذه الفضاءات البلدية عن طاقة استيعاب هائلة تدرّ مداخيل إضافية، ولعل العروض الغنائية التراثية على غرار عرض "الزيارة" و"المدحة" وغيرهما بقيت وفية لجماهيرها وقادرة على استيعاب الآلاف عند كل عرض.
وفي هذا الإطار، قال الصحفي المختص في الشأن الثقافي صالح السويسي، في تصريح لـ"الترا تونس": تبدو مهرجانات هذه الصائفة باهتة على غير العادة، ويعود ذلك لعدة اعتبارات إذ أنّ الوضع المالي الذي تعيشه البلاد أرخى بظلاله على برامج أغلب المهرجانات وخاصة في جهة الساحل التونسي.
ويضيف السويسي: "أمام الوضع المالي المقلق لأغلب المهرجانات بما فيها ذات البعد الدولي انطلقت أغلب الهيئات في الإعداد لها بتأخر كبير وبعضها وضع برنامجه في وقت قياسي. وهو ما جعل البرامج تبدو باهتة وضعيفة في نظر البعض وخاصة المتابعين الأوفياء الذين تعوّدوا على برامج تراوح بين العروض التونسية والدولية ولم يكن سهلًا تجاوز مرحلة جائحة كورونا وما خلّفته من مشاكل نفسية ومالية واجتماعية في العودة بكل يُسْرٍ نحو الأنشطة الثقافية، فالأمر يتطلّب جهدًا ووقتًا للعودة لما كان عليه الوضع قبل الوباء".
صالح السويسي (صحفي مختص في الشأن الثقافي): ما بدا واضحًا هو أن بعض العروض في المهرجانات تمّت برمجتها بشكل ارتجالي وبتسرّع بسبب الضغوط المادية، ما أدّى إلى عزوف الجمهور أو عدم رضاه
كما يتطرق السويسي إلى البرمجة فيقول: "لقد اجتمعت عوامل عدّة لتقف أمام رغبة القائمين على المهرجانات في إعداد برمجة تراعي تطلعات الجمهور المتعطش لعودة العروض والتمتّع بما تقدّمه الهيئات في هذا المهرجان أو ذاك، وتأخذ بعين الاعتبار الميزانيات المحدودة والتي كادت تتسبب في إلغاء بعض المهرجانات الدولية كما حدث مع مهرجان سوسة الدولي أحد أقدم المهرجانات في تونس والذي وقع إنقاذ دورته الحالية في آخر لحظة لينتظم ببرنامج تونسي صِرف. لقد غلب على برامج المهرجانات خلال هذا الموسم عنصرا المحاولة والاجتهاد فقط كي تعود الحياة الثقافية الصيفية لسالف نشاطها. وما بدا واضحًا أيضًا أن بعض العروض تمّت برمجتها بشكل ارتجالي وبتسرّع أحيانًا اعتمادًا على اسم الفنّان وأحيانًا بسبب الضغوط المادية، ما أدّى إلى عزوف الجمهور أو عدم رضاه".
وتابع قائلًا: "كما أصبح ضروريًا اليوم التفكير وبكل حيادية وجدّية في إعادة هيكلة بعض الهيئات بما يضخّ فيها دماءً جديدة ويُضفي عليها روحًا شبابيّة بإمكانها تقديم الإضافة وتطوير المهرجانات بما يتلاءم مع ما يشهده العصر من تحوّلات رقمية مازالت أغلب المهرجانات تعيش على هامشها. وبشكل عام، يمكن تفادي المشاكل المالية في الأعوام القادمة إذا ما تمّ انتهاج طريق التقليص من عدد المهرجانات المُستنسخة والتركيز على المهرجانات ذات الخصوصية والتي تعمل على إبراز الهوية المحلية لتحقق الإضافة ولتكون رافدًا للفعل الثقافي الوطني دون استنزاف أموال الدعم العمومي"، حسب تقديره.
من جهته، يرى الناقد في الشأن الثقافي بشير حسني أن "من المفروض وبعد سنتي كورونا وانقطاع التظاهرات الثقافية الكبرى تحدث مراجعة للفعل الثقافي ككل وللمهرجانات الكبرى حتى تستعد للموسم الصيفي خاصة وأن الجماهير كانت تنتظر نقلة نوعية في البرمجة وفي الفضاءات، لكن وبمجرد الإعلان عن مختلف المواعيد إلا وكانت الخيبة على جميع الأصعدة"، حسب تقديره.
بشير حسني (ناقد ثقافي): بعد انقطاع التظاهرات الثقافية لسنتين كان من المفروض أن تحدث مراجعة للفعل الثقافي ككل وللمهرجانات الكبرى خاصة وأن الجماهير كانت تنتظر نقلة نوعية في البرمجة وفي الفضاءات
وأردف في ذات السياق: "فمثلًا في سوسة، أهملت البلدية الفضاءات الراجعة لها بالنظر وخاصة مسرح جوهرة الجديد حتى أصبح مرعى للأغنام عوض أن يرعى شيخ المهرجانات وتكون فيه برمجة تليق بشيخ المهرجانات، لكن رغم الحلول الترقيعية انطلق مهرجان سوسة ببرمجة أغلب عروضها من الطراز الفني الراقي، لكن غابت عنه الصبغة الدولية بحجة غياب الدعم وضعفه وتلكؤ البلدية في دفع مساهمتها والتي إن جمعت حسب سنوات الانقطاع بسبب كورونا تصل إلى حوالي 80 ألف دينار، وهذا لا ينفي تحمل الجمعية الراعية للمهرجان أسباب تعطل البرمجة خاصة وأنها انتهجت سياسة الانغلاق"، وفقه.
وتابع الناقد بشير حسني: "كل هذا جعل من المشهد الثقافي الصيفي باهتًا ومما زاد في تواضعه تأجيل مهرجان أوسّو لأسباب تنظيمية ومواعيد سياسية حالت دون تنظيمه في موعده التاريخي"، متسائلًا: "فهل تخلق ليالي المتحف التوازن وتنقذ المشهد الثقافي الصيفي خاصة أن أغلب العروض المبرمجة في مهرجان سوسة الدولي هي من اختصاصه؟".
وحول برمجة مهرجان سوسة الدولي، يقول بشير حسني: "برمجة فيها عروض تونسية متميزة تستحق المتابعة، أصوات تونسية فردية وضمن مجموعات موسيقية مشهود لها تونسيًا وخارجيًا. برمجة تتضمن 4 عروض موجودة بالتوازي في مهرجان قرطاج الدولي (لطفي بوشناق، زياد غرسة، بلطي ولمين النهدي)، إضافة إلى حضور الفنان منير المهدي في عرض زمرجد والذي يهتم بالغناء الصوفي برؤية عصرية وحضور الفنان محمد بن صالح في عرض الافتتاح ومحرزية الطويل ومحمد الجبالي في عرضين مختلفين، إضافة إلى عرض الفنانة روضة العبد الله. ولا ننسى عرض القبة وعرض الطباية الذي يروي جزءًا من تراث مساكن بحضور الفنان الكبير رشيد الماجري".
ومن جانبه، يقرّ الكاتب الصحفي محمد علي خليفة، في حديث مع "الترا تونس"، بأن "المهرجانات المحلية تواجه صعوبات على مستوى التمويل والتسويق، وهما أساس كل عمل ذي صبغة ثقافية جماهيرية ترفيهية كما هو شأن المهرجانات الصيفية التي تعمل على بعث روح في المحافظات والمدن الأقل حظًا من حيث الإشعاع الثقافي على امتداد السنة"، وفقه.
محمد علي خليفة (كاتب صحفي): المهرجانات الصغرى لا تحظى بسند مالي يُذكر من طرف وزارة الثقافة التي تعتمد مقاييس غير مفهومة في تقديم الدعم، فباستثناء مهرجانيْ قرطاج والحمامات يكاد يكون الدعم معدومًا لمهرجانات أكثر عراقة كمهرجان سوسة
ويقول محمد علي خليفة: "وبالنظر إلى هذا المقياس لا تحظى المهرجانات الصغرى في المناطق البعيدة عن المركز، بسند مالي يُذكر من طرف وزارة الشؤون الثقافية، التي تعتمد مقاييس غير مفهومة في تقديم الدعم للمهرجانات الصيفية، فباستثناء مهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين يكاد يكون الدعم معدومًا لمهرجانات أكثر عراقة كمهرجان سوسة مثلًا، الذي يدرك هذا العام دورته 62 لكن دعم وزارة الشؤون الثقافية لا يكاد يغطي تكلفة سهرة واحدة من سهرات المهرجان"، على حد قوله.
ويضيف: "إضافة إلى ذلك يمثل ضعف إقبال المستشهرين عاملًا إضافيًا لتراجع إشعاع المهرجانات التي تضطرّ، ضمانًا لاستمراريتها وحفظًا لماء الوجه، إلى برمجة عروض محلية لا ترتقي إلى تطلعات جمهورها ولا إلى حجم قاعدتها الجماهيرية، وهذا ما يضاعف صعوبة المهمة أمام القائمين على هذه المهرجانات، والذين تحوم أيضًا شكوك حول كفاءتهم وقدرتهم على إدارة شأن ثقافي صار بحاجة إلى إيجاد بدائل للدعم وتجديد التصورات بعيدًا عن الرؤية الكلاسيكية والتعويل حصرًا على دعم الدولة".
ما تقدّم يكشف عن أزمة هيكلية وضمنية ومادية للمهرجانات الصيفية وهذا يستدعي مراجعة جذرية لطبيعة هذه المهرجانات وأهدافها في ظلّ وضع ثقافي واقتصادي صعب عماده التمويل المادي والتنظيم المثالي والتقييم الفني الجدي حتى تعود للنشاط الثقافي رسالته الحضارية والثقافية المنشودة بعيدًا عن الارتجال وسياسة ملء الفراغات بتمويلات عمومية هي أقرب للنضوب والزوال نظرًا لما تمرّ به البلاد من شح الموارد المالية".