17-نوفمبر-2024
أسوار مدينة سوسة.. صراع البقاء والفناء عبر العهود

أسوار سوسة صنفت ضمن التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو سنة 1988 (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

قال الرحالة التيجاني عن سور سوسة: "عظيم منيع من الصخر ينتهي إليه البحر ويضرب في جدرانه". وقال عنه البكري "صخر منيع، حصين متين البناء يضرب فيه البحر".

ونقول عن أسوار سوسة اليوم: صخور صامدة ثابتة عارية تصفعها الأنواء بان عظمها وبلت كسوتها وتحتاج إلى مجدّد عصر يحفظها قبل أن تعصف بها ريح أو زلزال أو يأكلها البحر الذي يسري تحت جدرانه.

تشهد أسوار سوسة، تنوعًا في الخصائص الهندسية، وهي لا تزال قِبلة الزوار من أنحاء العالم، ويعدّ  هذا السور من أعظم الأسوار بالبلاد التونسية

إنه نداء استغاثة لسور كان على مرمى التاريخ يشيّد ويهدم بأمر الحكّام، فإن تيسّر أمر البلاد اشتدّ وإن تعسّر أمرها تهاوى وارتدّت الحجارة صخورًا متهاوية.

"أسوار" سوسة كما أرادها أن تكون بالجمع الباحث أحمد الباهي وليس بالمفردة "سور" تعكس الاختلاف في التشييد بين الجهة البحرية والأخرى الشمالية والقبلية، وتشهد تنوعًا في الخصائص الهندسية.

 

أسوار الباب القبلي سوسة
أسوار الباب القبلي سوسة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

أسوار سوسة التي صنفت ضمن التراث العالمي لدى منظمة اليونسكو سنة 1988 لا تزال قِبلة الزوار من أنحاء العالم وحظيت لفترة ما بالصيانة من هيئة الإشراف في وزارة الثقافة والوكالة الوطنية للمحافظة على التراث والمعهد الوطني للتراث، لكن قلّة ذات اليد ومحدودية التمويل وارتفاع كلفة الدراسات والأشغال قد حدّ من التدخلات ونزل بها إلى المستوى الأدنى خلال العقدين الأخيرين.

الباحث أحمد الباهي لـ"الترا تونس": كان هناك قرار فرنسي بهدم كامل السور وردم الجهة الشرقية بالحجر غير أنّ جمعية الأوقاف تدخلت بقوة فتقرر الهدم فقط على برج باب البحر والسور المحاذي له

يُعرف عن سور سوسة، أنه كان يحيط بالمدينة العتيقة من كل جوانبها، لكن بتطور الزمان وتكاثر البنيان، حافظ السور على هيئته الأولى دون أن يمس البناءات الجديدة، لكن رغم ذلك، فإنه يعد من أعظم الأسوار بالبلاد ويرجح أن زيادة الله هو الذي أنشأه ما بين سنتي 201 و 202 هجرية، وقد يكون تم ذلك في التاريخ نفسه، إنشاء قصر الرباط.

كانت تعلو جدرانه شرفات مستديرة القمة، متتابعة الواحدة تلو الأخرى من البناية إلى البداية، وفي أركان هذا السور عدة أبراج مربعة مخصصة لإيواء العسس، ورسم بداخله من الأعلى، طريق تسايره على كامل امتداده محصورة بستارة خفيفة من الناحية الداخلية المشرفة على دور البلد. وهذه الطريق كما أكد على ذلك العلامة حسن حسني عبد الوهاب، أعدت لعساكر الحراسة المكلفين بمراقبة الزاحفين على المدينة والخارجين منها وتعرف بدائرة العسّة. ومن العادات الحميدة لهؤلاء المكلفين بالمراقبة رفعهم لأصواتهم وقت الطواف ليلًا بالتكبير والتهليل للأعداء بأن العيون الساهرة ترصد هجماتهم.

وقد وصفت الباحثة جميلة بينوس ضمن مقال لها حول الأسوار فقالت "يبلغ محيط سور مدينة سوسة 2250 م ويسيّج مساحة تصل إلى 32 هكتارًا. بني السور بالحجارة المنجورة، ويعلوه حاجز بشرافات مستديرة وممر للجند مبني فوق عُقيدات عميقة نصف أسطوانية ومغطّاة، تتجه فتحات أقواسها نحو داخل المدينة وعندما يتّكئ السور على الجدار الصخري للموقع في أجزائه المرتفعة، نلاحظ تواجد طابقين متعاقبين من العُقيدات.

صورة جوية للمدينة العتيقة بسوسة
يبلغ محيط سور مدينة سوسة 2250 م ويسيّج مساحة تصل إلى 32 هكتارًا (صورة جوية للمدينة العتيقة بسوسة)

تدعم أبراج مستطيلة السور من الخارج، يتجاوز ارتفاعها أحياناً ارتفاع الجدران الساترة بأربعة أمتار. كانت الأسوار منفتحة بواسطة ثلاثة أبواب، هي باب البحر والباب القبلي والباب الغربي. أما القصبة، فتتواجد في أعلى نقطة من الموقع، عند الزاوية الجنوبيّة الغربيّة للسور ("أسوار وقصبة سوسة" ضمن اكتشف الفن الإسلامي. متحف بلا حدود، 2024. 2024).

ويذكر في الموسوعة التونسية المفتوحة ضمن نشاط المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة أن "المعروف من القديم أنّ سور سوسة محدق بها من سائر نواحيها، وهو، بلا ريب، من عمل زيادة اللّه الأوّل، وقد ذكر به ثمانية أبواب في القرن الخامس هجري، غير أنّ هذا العدد تراجع، حتى أصبح ثلاثة في العهد الحفصي: باب البحر وباب الغربي وباب القصبة. وفي القرن الرابع عشر، اقتصرت المصادر على ذكر بابين: باب البحر وباب الجبلي. وقد تحوّل برج خلف الذي وقع إنشاؤه سنة 245هـ/859م إلى قصبة في العهد الموحدي. وأنشأ الأغالبة أيضًا، المرسى الذي يرجّح أن يكون مرسى داخليًا منحوتًا في الصخر".

الباحث أحمد الباهي لـ"الترا تونس": أسوار مدينة سوسة بنيت على مراحل متعددة ويمكن القول إنه بني منذ العهد البيزنطي ويحوم حول هذا الطرح إجماع من الباحثين

وأقاموا دار الصناعة في حوض ثان مرتبط بالميناء، على أنّه بدأت تترسّب فيه الرّمال منذ القرن التّاسع هجرية، حتّى أضحت السّفن ترسو في جون غير محميّ من الرّياح. وحسب شهادة "بيري رايس"، أهمل هذا المرسى في بداية العهد العثماني وأضحى غير مستعمل. أمّا دار الصّناعة، فقد كان لها تأثير بالغ في حركة الملاحة في العهد الأغلبي، ومنها انطلقت الحملة لغزو صقليّة سنة 212هـ/827م. على أنّ دورها تراجع، منذ إنشاء مدينة المهدية ولئن ظلّت مستعملة في عهد الزّيريين، فإنّ دورها قد تضاءل كثيرًا زمن الحفصيين. وقد استعمل ميناؤها لتصدير الصّوف والجلد والنّحاس والزّيت في العهد الحفصي.

واشتهرت مدينة سوسة بالغزل والنسيج، وبصناعة ثياب الكتّان، وخصوصًا بالعمائم السوسيّة والثّياب الرّفيعة البيضاء وتخصّصت فيها أسواق الرّبع السّلطانيّة. ويؤكدّ ذلك ما قاله البكري: "وكان زيادة اللهّْ بنى سورها. ولمّا تولّى الإمارة أحمد بن الأغلب أقبل على تعمير البلاد بالمحارس والحصون. ومن جملة أعماله أنّه جدّد سور سوسة وألحقها بالمدن وذلك في سنة 245هـ/859م لا كما قال التجاني في سنة 249هـ/863م".

 

سوسة
يرجح أن زيادة الله هو الذي أنشأ سور سوسة ما بين سنتي 201 و 202 هجرية (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

يحيط بمدينة سوسة سور به ستّة عشر برجًا وبه عدةّ مدافع. يقول الرحاّلة بليسيي: "إنّ القصبة لم تكن محصّنة تمامًا، وقصر البحر يمكن أن يقاوم: فهو مسلّح بأربعة عشر مدفعًا. لكنّ التّسليح (في منتصف القرن التّاسع عشر) في حالة يرثى لها لأنّ معظم القطع غير صالحة للاستعمال". أمّا المؤرّخ توفيق بشروش فيذكر بالتفصيل عدد الأبراج (16 برجًا) وعدد المدافع بها (158 مدفعًا) موزّعة كالتّالي: 115 مدفعًا من حديد و43 من برونز. ولمدينة سوسة ثمانية أبواب: باب البحر، شرقيّ دار الصّناعة. ولها بابان غربيّان يقابلان الملعب، والخروج منها إلى القيروان يكون من الباب القبلي المعروف بباب القيروان.

ولمزيد من التدقيق والتحري في تاريخية أسوار سوسة، رافقنا في "الترا تونس" الدكتور والباحث أحمد الباهي في جولة حول أسوار سوسة ضمن تظاهرة "شهيّر مدينة" بسوسة وقد كشف الباهي في حديثنا معه أنه "للأسف ليست لدينا دراسة شاملة تأليفية حول الأسوار ولا نستغرب ذلك وكذلك الشأن بالنسبة لجامع القيروان، المهم أن أسوار مدينة سوسة قد بنيت على مراحل متعددة ويمكن القول إنه بني منذ العهد البيزنطي ويحوم حول هذا الطرح إجماع من الباحثين. فأسس هذا السور تعود إلى تلك الحقبة، ثم أعطى الأغالبة هذا الشكل ولكن بتطور الأحداث التاريخية، تقوم كل دولة بهدم القديم وبناء الجديد إلى حد أنّ الجزء المبني من جهة باب الجبلي إلى برج سيدي المجدوب لا يضم أي بناء يعود إلى العهد الأغلبي أو العصر الوسيط بل كلّه بني في الفترة العثمانية والأدلّة التاريخية ثابتة وموجودة"، وفق قوله.

الباحث أحمد الباهي لـ"الترا تونس": أبراج سور سوسة لها شكل غير منتظم.. كل برج له شكله الخاص لأنه تأسس في فترة مختلفة عن أخرى وكان لكل برج وظيفة معينة

ويضيف الباحث أحمد الباهي أن "الواجهة الشرقية للسور قبالة البحر، وعادة ما تكون المدفعية أو عمليات الإنزال من الجهة البحرية وكل هذه الوجه الراقية من القرن الثامن عشر والتاسع عشر وبنيت لتصمد أمام المدفعية لذلك نلاحظ سمك هذا السور مقارنة بالواجهة الشمالية، فالبحر كان يلامس السور وكانت توجد مراسي صغيرة من جهة (جبانة الغربة) إلى (باب بحر) وقد ردمته فرنسا سنة 1881 في إطار مشروع تهيئة الميناء، وكانت توجد مخازن ومرافق تابعة لهذا الميناء".

ويكشف أحمد الباهي لـ"الترا تونس" أنه كان هناك قرار فرنسي بهدم كامل السور وردم الجهة الشرقية بالحجر غير أنّ جمعية الأوقاف تدخلت بقوة -ولدينا مراسلات في ذلك- فتقرر الهدم فقط على برج باب البحر والسور المحاذي له".

 

برج الرشيد باب جديد سوسة
قال الرحالة التيجاني عن سور سوسة: "عظيم منيع من الصخر ينتهي إليه البحر ويضرب في جدرانه" (برج الرشيد باب جديد سوسة)

 

وعن هندسة الأبراج يقول الباحث أحمد الباهي: "الأبراج لها شكل غير منتظم.. كل برج له شكله الخاص لأنه تأسس في فترة مختلفة عن أخرى وكان لكل برج وظيفة معينة".

ويذكر الباهي أنه انطلاقًا من الستينات بدأت عملية ترميم الأسوار وإزالة العمل بمادة "الجير" غير أنه من وجهة نظر علماء الآثار اعتُبر ذلك جريمة تعرض لها السور فقد كانت الأسوار محمية من الندى والرطوبة لكن بفعل الإزالة تآكلت الحجارة التي جلبت من مقاطع هرقلة وخنيس، ونلاحظ كذلك اهتراء الحجارة بالعين المجردة مما يرجح عدم صمود الأسوار على مدى 30 سنة أخرى ويبقى الحل الوحيد هو إعادة الطلاء بالجير أو ما يطلق عليه عندنا بالتجيير.

الباحث أحمد الباهي لـ"الترا تونس": نلاحظ اهتراء الحجارة بالعين المجردة مما يرجح عدم صمود الأسوار على مدى 30 سنة أخرى ويبقى الحل الوحيد هو إعادة الطلاء بالجير

إلى أي مدى يمكن أن تصمد أسوار سوسة؟ تساؤل يحير كافة المتدخلين في الشأن التراثي والحضاري للمدينة وكانت قد أطلقت بلدية سوسة مشروع "مخبر المدينة" لصيانة المعالم التراثية وتنمية المدينة العتيقة وهو عبارة عن هيئة استشارية لدعم العمل البلدي من أجل تنمية المدينة العتيقة.

 

أسوار سوسة
يحيط بمدينة سوسة سور به ستّة عشر برجًا وبه عدةّ مدافع (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

وهذه الهيئة هي ذات صيغة محلية تشرك الخبراء والمهنيين والمبدعين والمجتمع المدني تتمتع بصلاحيات لوضع استراتيجيات وتصورات للعمل داخل هذا الفضاء التاريخي وإمكانية تطبيق بعض العمليات النموذجية لصيانة المدينة. ويضم هذا المخبر المزمع بعثه من طرف لجنة التراث والسياحة ببلدية سوسة، اللجان البلدية المتداخلة والمجتمع المدني والإدارات الحكومية والمتخصصين في التاريخ، وينتظر منه تحسين مظهر المدينة والمحافظة على خصوصياتها التاريخية. 

ومن بين ما يضطلع به المخبر، دراسة التراث اللامادي وتثمينه من خلال التظاهرات الثقافية المدروسة والتي تراعي خصوصياتها وكذلك بعث مسالك سياحية جديدة في أسوار المدينة، غير أن هذا المشروع الذي بعثه رئيس لجنة التراث مراد البحري قد ذهب أدراج الريح بعد حل المجالس البلدية وفقدان رؤية متكاملة ومتوازنة تراعي مسار التنمية الثقافية بالبلاد.