طيلة عقود الاستقلال بمختلف أطوارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وطيلة سنوات الثورة، لم تتخل تونس، ضمن خططها ومناهجها وسياساتها الثقافية عن استراتيجيات مركزة الفعل الثقافي في العاصمة والمدن الكبرى، والاكتفاء ببعض الفتات الثقافي ينثر هنا وهناك ضمن محاولات غير صادقة فيما يعرف باللاّمركزية الثقافية ومواصلة التمشي نفسه في وضع التصورات وتحريك ماكينة الدعم العمومي للأنشطة الثقافية والفنية، حتى إنّ هناك دعوات مدنية عديدة في تونس يتصاعد صوتها بين الفينة والأخرى لها رأي آخر متجدد للعمل الثقافي.
تعتبر تظاهرة "سيني ريف Cinéryf" (مهرجان سينما الريف) من بين أبرز منجزات جمعية "فن في المكناسي" التي أسّسها مجموعة من شباب الجهة التابعة لولاية سيدي بوزيد سنة 2015
هذه الدعوات تنظر من منظار التغيير الهيكلي الذي يمنحها زوايا أخرى تتسم بالثورية الكلية، كأن يتم مثلًا تحرير الثقافة من ربقة السلطة السياسية القائمة، والذهاب مباشرة إلى حل وزارة الشؤون الثقافية وإدخالها التاريخ عنوة، والتفريط في المسألة الثقافية لصالح المثقفين أنفسهم، وخلق آليات أخرى للإنتاج الثقافي تكون متشبعة بالحرية والعدالة الثقافية بين كل الفئات والجهات على حدّ السّواء، وذلك على قاعدة قوانين ديمقراطية تراعي الذاتي الموضوعي والمكانة والدور.. وتتيح الثقافة للمجتمع بكل انسيابية على اعتبار أن الثقافة هي أكسجين الروح، ليطيب العيش على الأرض.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "في بلاد العم سالم".. وجهة نظر سياسية واجتماعية بجماليات "هايكاوية"
ومن ضمن السلوكات الثقافية التي نحت المنحى المجدّد الذي ذكرنا آنفًا، وذهبت إلى تصور جديد وغير مألوف للعمل الثقافي، نجد مبادرات جمعية "فن في المكناسي" التي أسّسها مجموعة من شباب مدينة المكناسي من ولاية سيدي بوزيد سنة 2015. وحسب فاصلة هامة من البيان التأسيسي والتعريفي، فإن "أصحاب مشروع فن في المكناسي هم مجموعة من الشباب الحالم بمستقبل أفضل لمدينة محرومة... هم مجموعة من الشباب المؤمن بضرورة ثورة ثقافية شاملة..".
وتعتبر تظاهرة "سيني ريف Cinéryf" (مهرجان سينما الريف) من بين أبرز منجزات جمعية "فن في المكناسي"، بل هي التظاهرة المركزية التي تجلّى فيها حلم شباب المكناسي وشباب تونس بشكل عام بتصور بديل للممارسة الثقافية في تونس، والتي تخلصت من التصور "الرّسمي" وبيروقراطيته القاتلة لكل حلم بالتغيير.. "سيني ريف" لم تكن تظاهرة نمطية تأتي بعد تدبّر إداري لتذروها رياح النسيان بعد انتهائها، بل كانت مهرجانًا بلا نهاية، كسمفونية تردد صداها شامخات الجبال، وعميقة المعاني كتعويذة درويش، وضاربة في الأيام كمسمار في خشبة قاسية، إذ كانت فعلًا موسميًا دائم الاخضرار.
بهاء قمودي (كاتب عام جمعية "فن في المكناسي"): الهدف الرمزي من بعث تظاهرة "سيني ريف" هو محاربة المركزية الثقافية العاصمية والجهوية وحتى المحلية.. وتجاوز هشاشة البنية التحتية الثقافية
وحسب حوار أجراه "الترا تونس" مع الطالب بالمدرسة الوطنية للهندسة والتعمير بتونس وأصيل المكناسي وكاتب عام جمعية "فن في المكناسي"، وأحد الشباب الفاعلين المركزيين في تظاهرة "سيني ريف"، بهاء قمودي، فإن الفكرة الأساسية لكل الأنشطة الثقافية التي نفذتها الجمعية منذ نشأتها إلى اليوم كانت نابعة من أبناء المكناسي وتصورهم الخاص للتنمية الثقافية وخصوصًا الشباب، وبدعم مادي ومعنوي منهم.. وأضاف القمودي أن "سيني ريف أطّرها في البداية الفنان الموسيقي وابن الجهة الأستاذ عماد عليبي، واجتمع حولها شباب المكناسي وآمن بها أيضًا لفيف من المجتمع المدني والعديد من المثقفين الأحرار..".
تظاهرة "سيني ريف" هي مشروع ثقافي مختلف عن السائد، هو يعتمد السينما كفن عضوي من أجل طرح القضايا المجتمعية الحارقة التي تهم المحلي بالمكناسي وقراها القريبة. وقد انطلق في محاولة تجريبية، تأسيسية، تأصيلية سنتي 2017 و2018 وكانت تلك المحاولة بمثابة تلمّس الشباب لأسس المشروع، ثم تعطل المشروع جرّاء جائحة كورونا، لكن سنة 2021 تعتبر هي الانطلاقة الفعلية لـ"سيني ريف". وحسب بهاء قمودي فإن "الهدف الرمزي من بعث هذه التظاهرة هو محاربة المركزية الثقافية العاصمية والجهوية وحتى المحلية.. وتجاوز هشاشة البنية التحتية الثقافية ومنح المواطن الريفي حقه في الثقافة بأدوات بسيطة، وإعادة الأمل الذي فُقد منذ سنوات في سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية" وفق قوله.
"سيني ريف" طيلة سنة 2021 كانت مساحة وارفة لأبناء المكناسي من أجل الثقافة والفن والحلم، فقد عرضت أفلامًا وثائقية منتقاة بعناية في الهواء الطلق وبأدوات تقنية دنيا بكل من قرى: النصر والمش والمبروكة والغريس... حيث أقبل السكان ليكتشفوا ما ستقدمه الشاشة من عروض/
ويصف الكاتب العام لجمعية "فن في المكناسي" تلك السهرات الساحرة بأنها "أفلام غير هوليودية أو بولويدية" وأوضح بأنهم "قد تجنبوا تلك المواضيع التي تزيّف الحياة وتبلّد الأذهان وتخدّرها.. لقد كانت أعمالًا وثائقية قريبة من واقع سكان تلك القرى المنسيّة..".
ويضيف بهاء قمودي: "لقد تحولت فضاءات العرض المفتوحة في ساحات القرى إلى أغور للنقاش حول قضايا الجهة التي تهم الفلاحة والبنية التحتية والبطالة والحرقة.. إنها أفلام متينة، تدغدغ الثابت وتزيح التكدّر والكآبة واليأس الذي استبد بالناس طيلة السنوات الأخيرة، إنها سينما في علاقة وثيقة بكرامة المواطن والعدالة الاجتماعية والحريات.." حسب وصفه.
وإلى جانب العروض السينمائية المفتوحة والمدعومة من المجتمع المدني المحلي والوطني وبعض الجهات الأجنبية الداعمة، تم بعث مجموعة من نوادي "سيني ريف" بقرى الغريس والمبروكة والمش والنصر وذلك شهر خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وكانت مهمة هذه النوادي هي تحويل قضايا الجهة ومشاغلها وأحلامها وطموحاتها إلى أعمال سينمائية وثائقية، وبهذا الخصوص قامت جمعية فنّ في المكناسي بدورات تدريبية خاصة بآليات تنشيط نوادي السينما وأخرى في التصوير الفوتوغرافي والسينمائي.
بهاء قمودي (كاتب عام جمعية "فن في المكناسي"): تجنّبنا المواضيع التي تزيّف الحياة وتبلّد الأذهان وتخدّرها.. لقد كانت الأعمال المقدمة وثائقية تطرح القضايا المجتمعية الحارقة التي تهم المحلي بالمكناسي وقراها القريبة
وقد أثمر هذا التدريب الذي أشرف عليه مختصون وأساتذة ونقاد، إنتاج شريطين وثائقيين قصيرين، الأول عنوانه "قرية الذكور" وأنجزه كل من: أريج ربعاوي وفادي قاسمي ونادين عبدولي وأسامة ساكري وريان عليبي. والثاني كان عنوانه "البحث عني" وأنجزه كل من أحمد قاسمي وعبد الغفار المشي ومعاذ قمودي. وقامت الجمعية بالمشاركة بهذين العملين في "مهرجان سينيمانا" ضمن دورته الأولى والمنعقد بالمركب الثقافي والشبابي بالمنزه السادس بتونس خلال الفترة الممتدة من 23 إلى 25 سبتمبر/ أيلول 2021.
كما عرف مشروع "سيني ريف" طيلة سنة 2021، إقامة عدة ورشات تنشيطية موجهة أساسًا للأطفال، احتضنتها المدارس الابتدائية بالجهة، ولنا أن نذكر هنا ورشة تحريك الأطر الثابتة بالمدرسة الابتدائية بالغريس وأخرى بمدرسة النصر.
وفكّر شباب فن في المكناسي ومشروع "سيني ريف"، في بعث أول فضاء للعروض السينمائية الريفية، فكانت البداية مع دوار أولاد عمار بقرية الغريس، وتم افتتاح الفضاء يوم 2 ديسمبر/ كانون الأول 2021، وهي بداية في انتظار بعث فضاءات أخرى بالقرى البعيدة.
اقرأ/ي أيضًا: أيام قرطاج المسرحية تفك العزلة الثقافية وتدق على الأخشاب 100 عرض مسرحي
مشروع "سيني ريف" وحسب بهاء قمودي هو "تجربة ثقافية وإنسانية عميقة كشفت هشاشة الأشياء وهشاشة كل شيء بالمكناسي وما جاورها، وهو ما دفع الناس إلى نوع من التخلي عن كل الأحلام.." وأكد محدثنا أن "الثقافة التي يدافع عنها شباب المكناسي ليست هدفًا في حد ذاتها بقدر ما هي وسيلة للكف والحث وطرح القضايا اللصيقة بالناس".
إن هذا المشروع الثقافي المختلف والذي اشتغل طيلة سنة بأكملها، بأدوات بسيطة وبلا إسنادات مادية رسمية وبهمة عالية، يمكن اعتباره أنموذجًا ساحرًا ودرسًا لبقية الشباب بمختلف الولايات من أجل دمقرطة الثقافة وكسر العزلة الثقافية على الجهات والقرى البعيدة بالوطن تونس.
اقرأ/ي أيضًا:
رغم الجائحة والأزمة الاقتصادية والسياسية سنة 2021..الثقافة تنعش الحياة في تونس