يعدّ المسرح "فضيلة تأسيسية" قديمة انبنى عليها التعايش البشري وتلمّس الإنسان من خلالها حقيقة ما كان يحدث في ماضيه وموحشات ثنايا التاريخ، إنه عدسة مكبرة جعلتنا على دراية مما كانت تعده الأمم على صهوات أيامها، فإذا بالمسرح شعرًا ملحميًا وحثًا على التفكير السياسي ومرويّات لأساطير خالدة وحملًا على الحلم ونسجًا لشالات الحب تذروها رياح الوداعات الأخيرة وتخليدًا لانكسارات حلّت ببعض الحضارات.
إنه كون يحاذي كوننا وحياة محايثة لحياتنا، وكدح يومي تفوح منه رائحة الفن الأبدية، وإذا ما تمعنّا أكثر فأكثر الرحلة العاتية لسيرورة المسرح نجد أنه يرتقي إلى رتبة مقياس للفهم والتفكير الاجتماعي والعاطفي. إنه درب العودة الوحيد المرشّق بالقناديل المؤدي إلى البدايات... نسغ الحياة الأولى.
من المسارح المنشقة والمتفرعة عن جذر "مسرح خيال الظل" والتي تحمل على التخيل والحلم وتضيء العتمات داخل أقبية الروح نجد "مسرح العرائس" أو "فنون الماريونات"
لقد كانت الشعوب القديمة تعلم أبناءها حياكة فنون المسرح انتصارًا للذات الجمعية وحفاظًا على وجودها في متاهة الوجود تمامًا كما يعلم الأب قيم الرجولة لأبنائه.
اقرأ/ي أيضًا: الفنّ المسرحي.. إيماءة توحّد البشرية
ورغم كل ما حل بالبشرية من تيه في الضغينة والكراهية والانجذاب نحو هاويات الحب ذاك التردد بين السماء والأرض فإن المسرح كان راية بيضاء عالية الخشبة ودالة على أنه فعل حياة واستمرار وتواصل. فتصفيق الجماهير بالمسارح القديمة مازال صداه يتردد إلى اليوم فتتخارج منه إيقاعات وموسيقى. وكل تلك الشخصيات الجميلة والغريبة التي ابتدعها مسرح الظل بمشارق الأرض ومغاربها مازالت تنبض إلى اليوم ومازال مسرح الشارع يتجلى بساحات المسارح وبالكرنفالات الخالدة حيث الإنسان يبحث عن بهجته وقول لوعته والتأسيس الأبدي لتغريبته.
وما قاله وكتبه القدامى اليونانيون والصينيون والرومان والهنود والتروبادور الأوربيون والأفارقة وأبناء حضارات الأزتاك والأنكا بخصوص المسرح هو يحفظ الآن عن ظهر قلب بمدارس المسرح بأكبر الجامعات وتقام حوله البحوث بالجامعات. إنها تيمات الفن الخالدة، ولولا الفن لأماتتنا الحقيقة وأفنتنا الفناء الغابر... المسرح هو ضد النسيان.
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "الخوف"... سيميولوجيا محضة حول الواقع التونسي
ومن المسارح المنشقة والمتفرعة عن جذر "مسرح خيال الظل" والتي تحمل على التخيل والحلم وتضيء العتمات داخل أقبية الروح نجد "مسرح العرائس" أو "فنون الماريونات" أو "مسرح الدمى المتحركة" أو "الأراغوز". هذا النوع من المسرح الأليف القريب من نوافذ القلب يمكن للمسرحي العرائسي أن يحمله في جيبه أو في حقيبة سفر ويقدمه أمام أي جمهور فتنتشر فاكهة الجمال في الأرجاء.
كانت بداية ممارسة فنون مسرح العرائس في تونس خلال العهد العثماني وتحديدًا في القرن 15 إذ دأب الملوك والبايات العثمانيين الذين حكموا تونس على تنظيم حفلات الترفيه في قصورهم التي كانت تحتضن عروض خيال الظل والدمى المتحركة
وعن هذا الفن يقول الباحث المسرحي المغربي سالم كويندي "هو ممارسة اللعب التمثيلي بالعرائس" لأن لغة هذا النوع من المسرح هي لغة الجسد ولغة الإيماء ولغة الألوان ولغة انعكاسات الضوء. هي لغة منابت الشعر ولغة القلب.
وفي تونس، عرفت الحركة المسرحية المليئة بالاختلاف والانفتاح والتنوع كل الصنوف المسرحية القديمة والحديثة وذلك على امتداد قرن من الفعل المسرحي، ومن بينها ممارسة فنون مسرح العرائس وكانت البداية في العهد العثماني وتحديدًا في القرن الخامس عشر إذ دأب الملوك والبايات العثمانيين الذين حكموا تونس على تنظيم حفلات الترفيه في قصورهم وبلاطاتهم التي كانت تحتضن عروض خيال الظل والدمى المتحركة المستقدمة من تركيا.
وقد بقي من تلك الحقبة شخصية فريدة هي شخصية "إسماعيل باشا" التي تحولت إلى دمية مليئة بالرمزية والتاريخ، إذ نراها معروضة إلى اليوم في الأسواق التونسية وهي تروي تاريخ قائد عسكري فذ شارك في معركة حلق الوادي سنة 1574 وانتصر على الاحتلال الإسباني لتونس الذي بدأ سنة 1535.
كما كان لشخصية "بوسعدية" القادمة من الثقافة الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى دور كبير في نشر ثقافة الدمى والعرائس.
ووضحت شمس مسرح العرائس في تونس تمامًا بعد استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي في ارتباط بما سمي بالخطاب التاريخي للمسرح الذي ألقاه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة سنة 1966 الذي كان بمثابة الرافعة السياسية لفن المسرح وعليه اتكأت الحركة المسرحية التونسية ومنه انبثقت كل القوانين والمؤسسات المسرحية الناشطة إلى اليوم.
فقد تأسس "المركز الوطني لفن العرائس" سنة 1978 من رحم نقاشات وتجارب ولقاءات وجلسات تفكير احتضنتها دار الثقافة ابن رشيق بداية سبعينات القرن الماضي وشارك فيها كتاب ومسرحيون وشعراء وسينمائيون ورسامون.
بدأت رحلة فن العرائس التونسية بنهج زرقون بالمدينة العتيقة وكان العرائسي "رشاد المناعي" هو أول من أدار المركز المسرحي ومعه فتية حالمون بهذا الفن الرائع وهم محي الدين بن عبد الله وحبيبة الجندوبي وعبد المجيد سعد وغيرهم
وبدأت رحلة فن العرائس التونسية بنهج زرقون بالمدينة العتيقة وكان العرائسي "رشاد المناعي" هو أول من أدار المركز المسرحي الجديد ومعه فتية حالمون بهذا الفن الرائع وهم محي الدين بن عبد الله وحبيبة الجندوبي وعبد المجيد سعد وحسن المؤذن وعبد الحق خمير.
وكانت أولى الإنتاجات: "خلق العالم" و"نمرود" وهي أعمال عرائسية أبهرت المتلقي في ذلك الوقت. وفي فترة الثمانينات التحقت موجة جديدة من المواهب نذكر منهم المنصف بالحاج يحيى والطاهر البكوش وتوفيق الورتاني والبشير جلاد. وأيضا أصبحت "فنون العرائس" اختصاصًا قائم الذات بالمعهد العالي للفن المسرحي وهو ما أدى إلى نشره بالمدارس ودور الثقافة فيما بعد.
الانحراف الذي حصل في علاقة بفن "مسرح العرائس" هو تكريس فكرة أنه موجه للأطفال فقط في حين أن هذا الفن المسرحي موجه لكافة شرائح المجتمع ويتناول الحقيقة المجتمعية سواء أكانت سياسية أو ثقافية أو حضارية أو تاريخية
وفي التسعينات، تأسس ما يمكن تسميته بالقطاع الخاص في مسرح العرائس فنشأت عدة فرق وشركات إنتاج مختصة. وبعد كل تلك الحقب التاريخية والإرهاصات الفكرية والثقافيّة يمكن القول إن الحركة المسرحية العرائسية التونسية قد تجاوزت التأسيس إلى الفعل الفني والثقافي المؤثر في المجتمع، لكن الانحراف الذي حصل خلال تلك الرحلة التي أنتجت موجات متعاقبة ومترابطة رمزيًا من العرائسيين التونسيين هو تكريس فكرة أن مسرح العرائس أو الماريونات هو موجه للأطفال فقط في حين أن هذا الفن المسرحي هو موجه لكافة شرائح المجتمع وينهض بنفس الأدوار الجمالية والفكرية التي ينهض بها باقي فنون المسرح ويتناول الحقيقة المجتمعية سواء أكانت سياسية أو ثقافية أو حضارية أو تاريخية.
وقد أوعز رموز هذا الفن وبُناته بتونس ذلك الانحراف إلى التضييق السياسي الذي كان سائدًا قبل ثورة الحرية في 2011 بتوجيه هذا الفن إلى الاطفال دون غيرهم مما جعله فنًا يتحرك ضمن دائرة ثقافة الطفل، وهنا يحدثنا العرائسي التونسي عبد المجيد سعد قائلًا إن "فن العرائس أو فن الماريونات كغيره من سائر الفنون المسرحية هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة الحرية، وباعتباره واحدًا من الجيل المؤسس فهو يرى أن الدور الذي لعبه العرائسيون التونسيون من أجل التشييد المعنوي كان كبيرًا وهم على وعي بدور مسرحهم لكن السياق التاريخي والسياسي خذلهم.
اقرأ/ي أيضًا: الفنان التونسي المغترب عبد المجيد بن سعد: يجوب سماءات مسرح الطفل وفي جيبه موجة
ويؤكد سعد أن الثورة أنصفت الأجيال الجديدة ومنحتهم حيزًا من الحرية التي أجادوا استثمارها، ويضيف عبد المجيد أن الكتابة لمسرح العرائس في تونس كانت تتسم بالذكاء بتوخيها أساليب المواربة والتقية في الكتابة وهو ما يجعل بعض الأعمال محمولة على التأويل بالرغم من توجهها للأطفال.
العرائسي عبد المجيد سعد لـ"الترا تونس": "فن العرائس" كغيره من سائر الفنون المسرحية هو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة الحرية.. الثورة أنصفت الأجيال الجديدة من المسرحيين العرائسيين
وفي نفس هذا السياق، يشير العرائسي التونسي المخضرم "محمد البشير جلاد" في أحد التصريحات الإعلامية إلى أن مسألة التوجه للكهول تعتبر هاجس الأجيال الجديدة وهاجس المؤسسة العمومية وهي "المركز الوطني لفن العرائس" ويتجلى ذلك من خلال: الوعي بمسألة الانحراف الذي حصل في العقود السابقة وأيضًا من خلال تمشي تظاهرة "أيام قرطاج لفنون العرائس" التي تعتمد مقاربة جديدة لنشر هذا الفن وتتمثل في إدراج برمجة خاصة للشرائح العمرية التي تفوق الطفولة.
ويضيف جلاد أن "أيام قرطاج لفنون العرائس" تعد مكسبًا مهما للمسرح التونسي والثقافة التونسية بشكل عام ولا بد من المحافظة عليها وتطويرها.
وتعيش تونس هذه الأيام (من 19 إلى 26 مارس/آذار 2022) على وقع الدورة الثالثة من "أيام قرطاج لفنون العرائس" وهو حدث فني وجمالي يأتي تحت شعار "ماريونات فن وحياة" وتشارك فيه 18 دولة عربية وأجنبية وسيتم خلال هذه الدورة استعراض التجربة العرائسية المصرية (ضيف شرف الدورة) وتكريم بعض رموزها على غرار محمد كشك ومحمد نور الدين، وأيضًا سيتم الاحتفاء بتجربة العرائسي التونسي محمد البشير جلاد و"جمعية مهرجان نيابوليس بنابل".
المسرحي العرائسي محمد البشير جلاد: "أيام قرطاج لفنون العرائس" تعد مكسبًا مهما للمسرح التونسي والثقافة التونسية بشكل عام ولا بد من المحافظة عليها وتطويرها
وسيتوفر حيز هام خلال هذه الدورة الثالثة للنقاش والتفكير من خلال الندوة الفكرية التي ستطرح موضوع "واقع وآفاق مسرح العرائس في العالم العربي" وذلك بحضور جامعيين وفاعلين مسرحيين ونقاد وطلبة مسرح العرائس.
إن فنون مسرح العرائس، رغم تأصيلها في الحركة المسرحية التونسية لما يناهز النصف قرن من الزمن، ورغم أهميتها الجمالية والثقافية وأدوارها التربوية والعلاجية الأكيدة، فإنها مازالت لم تحقق الأهداف التي يجب تحقيقها في المجتمع خاصة إذا علمنا أن مادة التربية المسرحية بالمدارس الإعدادية التونسية لا يوجد بها قسم خاص بالماريونات وفنون العرائس. وإن المسرح المدرسي والجامعي لم يتناولا فنون العرائس بالشكل الكافي كتابة وإنتاجًا. كما أن المؤلفات الأكاديمية حول هذا الفن تعد شحيحة خاصة إذا ما استثنينا كتاب "مسرح العرائس في تونس" للجامعي محمود الماجري الذي نشره سنة 2009.
اقرأ/ي أيضًا:
الدّورة الأولى لأيّام قرطاج لفنون العرائس.. انتصار آخر لأحلام الآباء المؤسّسين