يعتبر "المسرح" أهم ممارسة فنية وتعبيرية عرفها الإنسان على مرّ التاريخ، ومنها توالدت كل الفنون والإبداعات البصرية المتداولة اليوم.. ومن تفسيرات الفلسفة بخصوص خلود المسرح وديمومته وبقائه بيننا إلى اليوم هو ارتباطه العضوي بالحياة وهمومها وأسئلتها الكبرى، وحفره المستمر في القصيّ في نفس الإنسان وقول ما يجب أن يقال حولها على الخشبة بصياغات درامية وجمالية مختلفة.
كل الاعتمالات المسرحية طيلة ستينات وسبعينات القرن العشرين، تُوّجت سنة 1983 بنشأة تظاهرة مسرحية مركزية ألا وهي "أيام قرطاج المسرحية" التي عدّت سابقة ثقافية في الوطن العربي والقارة الإفريقية قاطبة
وكلما تشعبت الحياة وتعقّدت أساليب عيش المجتمعات، يعود الإنسان إلى الهجيعة الأولى والمكمن الأول للفن، ألا وهو "المسرح" ليحدث ذاك التوازن الخفي من خلال التقليعات المسرحية التقليدية والمستجدة.
المسرح ورغم التطورات والثورات الفكرية والتكنولوجية التي عاشتها البشرية مع بداية الألفية الجديدة، يبقى محرارًا أساسيًا لقيس ما يحدث في المجتمعات من تغيرات وما يصيبها من مخاطر.
من هذه المنطلقات الحضارية والتاريخية اختارت تونس ضمن سياستها الثقافية بعد الاستقلال، طريق المسرح.. فأعلت من شأنه تقديرًا واعترافًا بقيمته الفكرية والجمالية، فشجّعت الفاعلين في هذا الفن العريق بأن أنشأت مؤسسة جامعية للفن المسرحي، وبعثت الفرق الجهوية القارة، وأفردت ميزانية خاصة من المال العمومي لدعم المسرحيين.. فنشأت حركة مسرحية تونسية خاصة ومتميزة، تراوح بين الاحتراف والهواية وبين التجريب والتجديد.
لكن كل تلك الاعتمالات المسرحية طيلة ستينات وسبعينات القرن العشرين، تُوّجت سنة 1983 بنشأة تظاهرة مسرحية مركزية ألا وهي "أيام قرطاج المسرحية" التي عُدّت سابقة ثقافية في الوطن العربي والقارة الإفريقية قاطبة، والتي تحولت مع تتالي الدورات إلى جغرافيا مسرحية عالمية هامة يلتقي على أديمها أهل المسرح من أجل التفكير والسرد الجمالي على الخشبة، وتدبر أمر المجتمعات دعمًا لحرية التعبير ونشرًا لثقافة التعايش الجماعي فوق الكوكب الأزرق.
"الأيّام" عطلتها سنوات الكورونا لكنها سرعان ما انتفضت كطائر المينارفا ليعود إليها ألقها وتعيد إلى قلوبنا نبضًا منقوصًا هو نبض مباهج الحياة. فبتاريخ 4 ديسمبر/ كانون الأول 2021، تزيّن شارع الشوارع (شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس) بألوان المسرح، فانتشر المسرحيون بأقنعتهم وأزيائهم اللافتة للانتباه، بين الناس يقدمون لوحات مسرحية جاذبة. إنه مسرح الشارع يملأ المكان بعد غيبة، إنه مقدمة باذخة للافتتاح الرسمي للدورة 22 لأيام قرطاج المسرحية الذي احتضنته مدينة الثقافة الشاذلي القليبي بتونس.
الافتتاح الذي أشرف على تنفيذ تصوره المسرحي الشاذلي العرفاوي، انقسم إلى جزئين، قسم خارجي كرنفالي حيث تم تركيز مجسمات فنية وتماثيل حية لشخصيات مسرحية بماكياجات بديعة بكامل فضاء المدينة، في حين احتضنت ساحة المسارح عرضًا موسيقيًا نوعيًا نفذه أكثر من 30 عازف إيقاع لآلة "الباتري"، أغلبهم من الأطفال والشباب، وقد تفاعل معهم الحضور إلى حد الرقص المسترسل.
أما القسم الداخلي للافتتاح والذي احتضنته قاعة الأوبرا بالمدينة وقدمته الممثلة نادية بوستة، فإلى جانب تقديمه للجنتي الفرز والتحكيم، قام بلمسة وفاء للمسرحيين التونسيين الذين أفنوا العمر على الخشبة وغيّبهم الموت في الآونة الأخيرة وهم: خميس الدريدي وعبد الجواد الكشلاحي والشريف العبيدي وحسن الهرماس وزينب فرحات وحسن رستم ومكرم نصيب. كما تم تكريم عدد من الفنانين الممثلين التونسيين والعرب والأفارقة، وهم جمال المداني وفاتحة المهداوي ولسعد بن عبد الله وعبد الغني بن طارة وسعيدة الحامي من تونس، وأمل دباس من الأردن، وفضيلة حشماوي من الجزائر، وأحمد فؤاد سليم من مصر، وفلوريس أد جمهوم من البينين، وجان سيبي أكومو من كينيا.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا.. فيروس ضجت به الإنسانية واختنق به الفن في تونس
كما راوح الحفل بين عرضين مسرحيين قصيرين أخرجهما الشاذلي العرفاوي وهي إعادة تجسيد لمشهدية من إحدى أهم أعمال الكاتب المسرحي وليام شكسبير وأشهرها، وهي مسرحية "روميو وجولييت" وتحديدًا مشهد الشرفة.
وقد قام بتنفيذ العرض القصير الأول باللغة الانجليزية الأصلية كل من الفنانة التونسية نسرين المهبولي والفنان تيتاندا دومبا من الزيمبابوي، حيث طغى على الأداء مناخ أوبيرالي شعري بديع.
أما العرض القصير الثاني فقدم تصورًا مختلفًا بروح تونسية عالية وكان عنوانه "حب بية"، ونفّذه الموسيقى زياد الزواري والشاعر القوال أنيس شوشان وراقصة الباليه التونسية نسرين بن عربية، ومشاركة العازفين والمغنين: درصاف الطرابلسي وهيثم بونوح ومحمد علي وردة وأيمن بن شيخة وزبيدة بن محمد.. وهكذا تجتمع كل الفنون على الخشبة لتقدم لوحة بديعة لعمل إنساني خالد وهو روميو وجولييت.
وتسجل الدورة 22 لأيام قرطاج المسرحية حوالي 100 عرض مسرحي من 26 دولة، ويتنافس على توانيت الدورة ضمن المسابقة الرسمية 14 عملًا مسرحيًا من العالم العربي وإفريقيا، وتسجل تونس حضورها ضمن المسابقة بثلاثة أعمال وذلك لأول مرة في تاريخ المهرجان وهذه الأعمال هي "منطق الطير" لنوفل عزارة و"آخر مرة" لوفاء الطبوبي و"كابوس آينشتاين" لأنور الشعافي.
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "منطق الطير".. عندما يتحطّم قلب الإنسان على الخشبة
كما تحل جمهورية مصر العربية ضيف شرف الدورة حيث سيتم تكريم سيدة المسرح العربي سميحة أيوب والممثل المسرحي أحمد بدير وسيخصص يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 2021 لإجراء لقاء حول تجربة المسرح المصري. أما الندوة الفكرية الكبرى فستتطرق طيلة أيام 7 و8 و9 ديسمبر/ كانون الأول 2021 إلى جملة من الإشكاليات والمواضيع على غرار : "المسرح وآليات التعامل الظرفية والدائمة مع الأزمات والطوارئ والمخاطر".
واستحدثت الدورة الحالية قسمًا جديدًا وهو "قسم مسرح العالم" والذي سيعزز الروابط مع المسارح العالمية الكبرى وسيتم هذه المرة تقديم 11 عرضًا عالميًا نذكر مثلًا: مسرحية "تانغو نيرودا" لسارج باربوتشيا من مسرح أفينيون من فرنسا وعرض "صنعان" لعلي أكبر كردشناس من المسرح الإيراني وعمل "مكتبة الخلود" لمصطفى كرت من المسرح التركي.
استحدثت الدورة 22 لأيام قرطاج المسرحية قسمًا جديدًا وهو "قسم مسرح العالم" الذي سيعزز الروابط مع المسارح العالمية الكبرى حيث سيتم تقديم 11 عرضًا عالميًا
ويزخر البرنامج الموازي بعدة لقاءات هامة مثل النشاط الذي سيحتضنه بيت الرواية من 6 إلى 11 ديسمبر/ كانون الأول 2021 بخصوص "كتابات حول المسرح"، والمائدة المستديرة التي يحتضنها مقر المؤسسة التونسية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة وذلك يوم 6 من الشهر نفسه، بخصوص أهمية التصرف الجماعي لضمان حقوق المؤلف والحقوق المجاورة في المجال المسرحي، وأيضًا سيكون لمتابعي أنشطة أيام قرطاج المسرحية ضمن دورتها 22 لقاء حول العلاج بالدراما سينعقد يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 2021 بقاعة الفن الرابع.
تأتي هذه الدورة الثانية والعشرين لأيام قرطاج المسرحية لتفك العزلة الثقافية التي كرستها جائحة كورونا طيلة العامين السابقين وتعيد الحياة إلى التونسيين الذين ما انفكوا يغالبون أزمتهم الاجتماعية والسياسية.
اقرأ/ي أيضًا:
مصر ضيفة الشرف.. تعرّف على تفاصيل الدورة 22 لأيام قرطاج المسرحية