ذاكرة المدن تحفظها الروايات الشفوية والكتابية، وقد يحظى بعضها بمخزون من الصّور يحفظ لها هيبة ماضيها وشرف أهلها وزينة عمرانها ونمط عيشها.
كانت حكايا المدينة تختلف حسب توجّه رواتها وما يدونه المؤرخون والباحثون عنها حتى صرنا إلى الاختلاف بين الحقيقة والمخيال، وحتى صار إلينا الخلاف في تفسير الوقائع ووصف الأماكن وتحديد الأزمان.
كشفت عديد الصور عن أسرار مدينة سوسة منذ القرن 17 والتغييرات العمرانية التي طرأت عليها، وكان لها أثر في مراجعة مثال التهيئة العمرانية للمدينة
كذلك الشأن بالنسبة إلى مدينة سوسة ذات الثراء التاريخي قديمًا وحديثًا، وذات التواصل والتواؤم الحضاري عبر العصور، فكنا إلى زمن غير بعيد، نخال أننا فقدنا الصورة الواقعية البصرية التي كانت عليها البلاد من جمال في الموقع ودقة في العمران وتنوع في العيش، حتى طلعت علينا صور شمسية تمت معالجتها الفنية بطريقة حديثة وأضيفت إليها الألوان الأصلية.
كشفت هذه الصور عن أسرار مدينة سوسة منذ أواسط 1800 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية والتغييرات العمرانية التي طرأت على المدينة وآثار الخراب في الحربين العالميتين الأولى والثانية والحركة البحرية في الميناء التجاري والمرافق العامة والخاصة، ودور العبادة وتطور وسائل النقل وغير ذلك مما أرسلته تلك الصور البصرية المنشورة.
وكان لهذه الصور أثر اليوم في مراجعة مثال التهيئة العمرانية للمدينة وتصنيف البناءات التراثية والمحافظة على المعالم الأثرية ودراسة الآثار المترتبة عن التحولات الديموغرافية والبيئية في المنطقة.
جيوسيبي مانسينو (Giuseppe Mancino) إيطالي الأصل صاحب التسعين عامًا، كان معلّمًا في إحدى المدارس الإيطالية بسوسة، علّق على عدد من الصور على موقعه الخاص في مواقع التواصل الاجتماعي وأشار إلى حقبة من تاريخ سوسة كان شاهدًا عليها إبّان الحرب العالمية الثانية، ويشهد الجميع أن تلك الحرب الضروس بين المحور والحلفاء قد أحدثت نقلة في البنية العمرانية لمدينة سوسة الحديثة وراوحت تلك النقلة بين التمسك بطبيعة سوسة العمرانية الإسلامية ومواصلة الانفتاح على الطراز العمراني الفرنسي والإيطالي الذي ابتدأ منذ 1890.
أسوار مدينة سوسة العتيقة كانت العلامة البارزة في الفصل بين مقومات المدينة الإسلامية المحصّنة وبين المدينة الحديثة التي تم تصميمها على النمط الأوروبي وكانت الأبواب الرئيسية للأسوار مراكز عبور وتسوق.
"باب بحر" وسط مدينة سوسة كان ولا يزال، القلب النابض للمدينة ومحورها الرئيسي. وقد أظهرت لنا الصور محافظة الأسوار على نضارتها وشدتها رغم القصف الشديد الذي شهدته المدينة سنة 1943 والذي أطاح بجزء صغير من السور متمثلًا في خمسة أعمدة حجرية ضخمة، غير أن قصف قوات التحالف قد أطاح بعدة مباني سكنية داخل الأسوار ومسجدًا وكنيسة كانت مشيدة بجوار الجامع الكبير.
وما تكشفه لنا الصور أمام "باب بحر" أو ما كان يسميه المستعمر الفرنسي "باب فرنسا" تلك الساحة الشاسعة الممتدة التي يطلق عليها "ساحة بيشون"، وظهر من هناك المتحف الأثري القديم (مكان المغازة العامة اليوم) كما ترى "أكشاكًا" صغيرة عند مدخل الساحة البحرية، ولما كانت حركة العربات نادرة جدًا، ترى المشاة يعبرون وسط الطرقات ولا حاجة لهم بالأرصفة.
وما يميز مدينة سوسة، عبور السكة الحديدية وسط المدينة، فترى عبر التسلسل الزمني أنواع القاطرات التي كانت تستعمل الفحم الحجري ثم تطورت باستعمال الوقود، وكان من الصور المميزة أن ترى الدخان الأسود يتصاعد من فوهة مداخن القاطرات وهو يعبر ساحة بيشون، كما تلاحظ محطة العربات التي تجرّها الخيل تحت الأسوار المجاورة للباب الرئيسي.
ومن بين ما نلاحظه خارج أسوار المدينة مقام الوليّ الصالح "يحيى بن عمر" الذي يعتبر قيمة ثابتة عبر العصور بشكله العمراني والحديقة المحيطة به، فيظهر في كافة الصور كرسول بين حضارتين: واحدة إسلامية وأخرى أوروبية.
تسرّب إلى قرارات التهيئة العمرانية لمدينة سوسة شبهة المصالح الخاصة التي لا تعنيها سلامة التهيئة والطابع التراثي والأثري للعقارات والمباني
كانت الحياة في مدينة سوسة هادئة قبل الحرب العالمية الثانية. وكان يحسب ساكنوها أنهم بعيدون عن شبح الموت. وكان لأهالي سوسة نمطهم في العيش في بيئة استعمارية، ولكن بناة سوسة الأوروبية من فرنسيين وإيطاليين كانوا يتطلعون إلى عيشة فارهة، فكانت دور السينما والمقاهي والبناءات الشاهقة ذات الواجهات المزركشة بين السور والميناء بدءًا من "باب بحر" وصولًا إلى مشارف "باب الجديد".
ومما يذكر كذلك أن فرقًا موسيقية كانت تعزف عذب الأنغام في ساحة مخصصة على مشارف الميناء البحري قبالة نزل حضرموت اليوم، وكانت الطرقات مزدانة بالأشجار حديثة النشأة بشكل يتناغم مع جمال الواجهة البحرية للميناء.
الحرب التي شوهت مدينة سوسة دون سابق إعلام، غيرت ملامح الميناء وشارع الموسيقى والسلام (الشارع المقابل للميناء الترفيهي اليوم) إذ وصلت ميناء سوسة في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 1942 ثلاث مراكب ألمانية ودخلت الميناء لتفريغ براميل الوقود فدمرت بعد أيام قليلة من طائرات التحالف وغرقت المراكب الراسية والعديد من سفن الصيد المحلية واختفت أشجار النخيل المرتبة وشمل الدمار العديد من المباني.
وتواصل عنف الانفجارات جرّاء القصف إلى منتصف 1943، فلا ترى في الميناء إلا آثار الدمار ورواسب الفسفاط وحطام السفن الغارقة، كما تم توثيق رسو الجنود البريطانيين في ميناء سوسة وهم يعتزمون اجتياح الجزر الإيطالية الصغيرة.
في سنة 1949 و1950 شهدت مدينة سوسة حركة حثيثة في إعادة الإعمار، شملت البناءات والأسوار كما تم ترميم كنيسة "نوتردام" التي دمر القصف جزءًا كبيرًا منها، والتي أزيلت بعد ذلك نهائيًا. وتم الانتهاء من تهيئة ضريح سيدي يحيى كما تم إنشاء مكتب البريد الذي تم تدميره جراء القصف لقربه من الميناء، كما تم استبدال القاطرات البخارية الضخمة بعربات السكك الحديدية "الديزل" والتي كانت تسمى "ميشلين".
لعلّ ما أطاحت به الحرب العالمية الثانية من معالم، لم يرق إلى الدرجة التي أطاح بها الفساد وسوء الحوكمة من مكاسب حضارية حديثة
بعد نحو قرن من الزمن، تتغير ملامح مدينة سوسة من جديد ولكنها فقدت شيئًا من بهائها وجمالها وذلك بسبب الارتجال في التخطيط والانفجار الديمغرافي وضبابية الرؤية حول مستقبل المدينة بيئيًا وحضاريًا، وتضارب المصالح الخاصة واستشراء الفوضى والمحسوبية، ولعلّ ما أطاحت به الحرب العالمية الثانية من معالم، لم يرق إلى الدرجة التي أطاح بها الفساد وسوء الحوكمة من مكاسب حضارية حديثة.
ولعل ما لحق مدينة سوسة من تشويه عمراني دعا الجماعة المحلية إلى الاستدراك بمراجعة مثال التهيئة العمرانية. وفي هذا الموضوع يقول مراد البحري المستشار البلدي لمدينة سوسة لـ"الترا تونس": "نظرًا للتجاوزات العمرانية التي لحقت المدينة، أصدرت منظمة اليونسكو تقريرًا خاصًا في 31 جويلية/ يوليو 2021 تضمن توصيات وتنويهًا لجملة الإخلالات والنقائص المسجلة في طرق التصرف العمراني في المدينة العتيقة مع التركيز على غياب مثال الصيانة والإحياء لمدينة سوسة العتيقة رغم مرور 34 سنة على ترسيم مدينة سوسة العتيقة في قائمة التراث العالمي، و26 سنة منذ صدور مجلة التراث الموجبة لإعداد أمثلة الصيانة والإحياء للمناطق العمرانية القديمة".
مراد البحري (مستشار بلدي بسوسة) لـ"الترا تونس": ضعف الإمكانيات المالية للمعهد الوطني للتراث تجعله غير قادر على تحمل كلفة إعداد مثال الصيانة والإحياء للمدينة
ويضيف البحري: "ضعف الإمكانيات المالية للمعهد الوطني للتراث يعوزه عن تحمل كلفة إعداد مثال الصيانة والإحياء مع التعهد بكامل الإجراءات المصاحبة لإعداد وثيقة إستراتيجية، لذا اقترحت بلدية سوسة على كتابة الدولة للاقتصاد السويسرية خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي تحديد الخطوط العريضة للمرحلة الثانية لبرنامج التنمية الحضرية والنظر في إمكانية تمويل مشروع إعداد مثال الصيانة والإحياء لمدينة سوسة".
ويشدد البحري على أنه "لا بدّ من التقيد بالفصل الثالث من مجلة حماية التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية، وبالتالي حماية المجموعات التاريخية والتقليدية من مبانٍ وعقارات والتي تعتبر بسبب عمارتها أو وحدتها أو تناسقها أو اندماجها في المحيط ذات قيمة وطنية أو عالمية من حيث طابعها التاريخي أو الجمالي أو الفني أو التقليدي".
ويشير مراد البحري إلى أن "ما مرّ على تاريخ سوسة من حقبات، قد ذهب ببهاء وجمالية العديد من المعالم، وحان الوقت للوقوف بجدية من أجل صيانة ما تبقى منها ضمن برنامج متكامل ومتداخل بين جميع المصالح، وهذا يشمل حدود المدينة العتيقة وخارج الأسوار كذلك من مبان تراثية شيدت أواخر القرن الثامن عشر إلى اليوم".
إن التهيئة العمرانية لمدينة سوسة كانت مثار جدل شديد بين ممثلي السلطة المحلية والمجتمع المدني في السنوات الأخيرة، وقد تسرّب إلى القرارات شبهة المصالح الخاصة التي لا تعنيها سلامة التهيئة والطابع التراثي والأثري للعقارات والمباني، وهذا ما يدعو إلى الالتفاف نحو صياغة أنموذج للصيانة والإحياء بطريقة مشتركة يلتزم بها جميع الأطراف المتداخلة، بما يمكّن من الحفاظ على ما تبقى من عنوان الجمالية التاريخية، وإضافة ملامح الجمالية الحضارية في تصميم المدن.