25-يناير-2021

"حي العوينة" عاش على وهم الساسة عقودًا (ماهر جعيدان / الترا تونس)

 

كشفت الأحداث الليلية الأخيرة في الأحياء الشعبية عن شريحة مجتمعيّة واسعة تعيش في أتون الفقر وأخرى تصارع الحياة لتبقى وعائلات بأسرها تقتات على هامش المدينة. وعرّت المواجهات الليلية مع الأمن عن تركيبة اجتماعية شبابية تعاني من تراكمات الظلم الاجتماعي والحيف الاقتصادي.

كنت على موعد، ذات مساء سبت،  مع  حيّ من أحياء سوسة التي تنتصب على بعد ميلين من مركز المدينة. بعض الأميال فقط تفصلنا عن البحر لنجد أنفسنا في "حي العوينة" جنوب سوسة، هذا الحيّ الذي يضم كثافة سكنية كبيرة وترتفع فيه عدد الأسر مرتفعة عدد الأفراد وترتزق اليد العاملة من قطاع الخدمات والتجارة الحرة والقطاع السياحي.

يعتبر "حي العوينة" حيًا حديثًا وفد السّكان إليه منذ السبعينات واتسعت رقعة البناءات على حساب أراضٍ فلاحية وغابة الزياتين، وبقي لعقود خاليًا من المرافق الأساسية من طرقات وتنوير وبنية تحتية 

ينتصب "سوق الأحد"  في مدخل الحي شمالًا وهو من أكبر الأسواق البلدية الأسبوعية في الساحل ويستقبل عشرات الآلاف من الزوار أسبوعيًا وتنشط التجارة الموازية على مدى الأسبوع في الأزقة والطرقات باعتبار هذا الحي منطقة عبور بين عدد من المدن منها الزاوية القصيبة والثريات، أما جنوب الحي فنجد سوق الجملة الغلال والخضار وهو من أكبر الأسواق في الساحل التونسي .

 يوم الأحد تنشط الخدمات في هذا الحي وتنتشر هنا وهناك عربات بيع الماء المثلّج صيفًا والباعة المتجولون يجوبون الشوارع والأزقة بين التجار وتنشط النساء في ابتياع الملابس المستعملة أمام منازلهن ويوفّر السوق مورد رزق للفتيان الذين يخوضون التجارة في سنّ مبكّرة ويتمرّسون بحيلها ومداخلها بطرق شتّى.

اقرأ/ي أيضًا:  سردية اللعب في ليالي جانفي الطويلة..

يعتبر "حي العوينة" حيًا حديثًا وفد السّكان إليه منذ السبعينات واتسعت رقعة البناءات على حساب أراضٍ فلاحية وغابة الزياتين. وقد بقي لعقود خاليًا من المرافق الأساسية من طرقات وتنوير وبنية تحتية ويذكر أحد أهالي الحي لـ"الترا تونس" أن الأراضي كانت تباع بقياس "الخطوة" وكانت ما يسمى "بسانية الهادي الملاخ ( الاسكافي)" أراضٍ شاسعة بيعت بشكل عشوائي وفوضوي دون تهيئة عمرانية أو إشراف بلدي أو تخطيط مسبق.

"حي العوينة" عاش على وهم الساسة عقودًا وقد مثل خزانًا انتخابيًا للأحزاب السياسية بعد الثورة بعد أن كان قاعدة انتخابية للحزب الواحد قبل الثورة. التقينا الشاب حمزة (خير عدم ذكر هويته) في أحد الأزقة وقد شدّه وجود غرباء في حيّه. حمزة، أحد الشباب الذين يفضّلون الجلوس على عتبة الدار كامل اليوم بعد أن عاد من سوق الجملة للخضر والغلال حيث يعمل "حمالًا" في الفجر بأجرة حسب الطلب ويعود يوميًا ببعض الدنانير وكيس صغير يكفيه قوت يومين.

يعتبر "حي العوينة" حيًا حديثًا وفد السّكان إليه منذ السبعينات (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

يقول لـ"الترا تونس": "حي العوينة لا يراه المسؤولون من ساسة وإداريين إلا في المناسبات الانتخابية، فكلما اقترب موعد انتخابي إلا وتراهم يبتسمون منتفشي الصدور يدقون الأبواب وقد قادهم بعض الوجهاء من أهل الحيّ. يعدون ويزفون الوعود بانعتاق الفقر وتوفير الشغل ويبشرون بالعدل".

ويردف الشاب: "نحن لا نصدّق الساسة، لكننا نجاريهم في حملاتهم. تحصل بعض الفائدة للمعدومين من أهل الحيّ ولا ينتظر منهم البقية أملًا. في 2017 عبر الرئيس السابق الباجي قائد السبسي هذا الحي في طريقه إلى المركز القطاعي للتكوين المهني الذي أنشئ في الحي منذ سنين. وقد تعالت زغاريد  النسوة خلال مروره، لكن الدولة لم تجلب لهذا الحيّ إلا الغبار المتناثر والبطالة المنتشرة. كما وفد  على الحي المئات من مناصري قلب تونس في اجتماع شعبي بالقاعة المغطاة العوينات ليصدعوا بالقول أن الاجتماع قد تم في حيّ لا يجرؤ الساسة على دخوله. ثم تبخرت كل الوعود" يتنهد  حمزة قهرًا.

"حي العوينة" عاش على وهم الساسة عقودًا وقد مثل خزانًا انتخابيًا للأحزاب السياسية بعد الثورة بعد الثورة أن كان قاعدة انتخابية للحزب الواحد قبلها

بحثٌ صغير في أخبار "حي العوينة " في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يكشف لنا أسرار التركيبة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي وتحركات هذا الحيّ وهموم سكانه، فقد نشر في موقع "موزاييك" تصريح لنورالدين بن تيشة لما كان مستشارًا في الرئاسة يقول "زار الرئيس حي العوينة أين يقع المركز القطاعي للتكوين المهني، وهو حي شعبي في قلب سوسة وهناك لقي استقبالًا شعبيًا لم يكن منظمًا والأهالي والتلاميذ خرجوا راكضين بكل تلقائية لاستقباله". هذا السرد الخبري جاء ردًا على التوظيف السياسي للفئات الاجتماعية الهشة في الأحياء و تكريس الممارسات النوفمبرية في زيارة كبار المسؤولين.

اقرأ/ي أيضًا: أغنية "يا حياتنا"... ثورة جمهور الإفريقي على الفساد والظلم

وأغلب ما يتداول في الإعلام حول هذا الحي تلك التحركات الشبابية التي تتسم بـ"العنف والشغب" في تواريخ متواترة لا يمكن ربطها بالمطلبية الاجتماعية والاقتصادية في معظمها. ففي ماي/أيار 2020 جدت مصادمات بين وحدات أمنية وشباب تم على إثرها إيقاف عدد من شباب الحي وإحالتهم على العدالة. كما تكرر الأمر في عديد من المناسبات آخرها ليالي 14 و15 جانفي/يناير 2021، إذ تم إيقاف العشرات من أبناء حي العوينة والأحياء المجاورة بعد أحداث ليلية أخلت بالأمن العام وتم توجيه تهمة "تكوين وفاق قصد الاعتداء على أملاك الدولة والأملاك الخاصة".

تحولنا السبت الماضي إلى "حي العوينة" حيثُ التقينا عددًا من الأهالي الذين تجمعوا في مفترق الطريق وقد أضرموا النار في الإطارات المطاطية مطالبين بإطلاق سراح الموقوفين على خلفية الأحداث الأخيرة ومحتجين على عدم إطلاق سراح شاب أربعيني توفي والده ولم يحضر جنازته. كانت النسوة هناك مولولات، محاولات تبرير أفعال أبنائهن بأن الفقر قد اشتد بسكان المنطقة وضاقت بهم السبل وطالت بطالة أغلب أبنائهن، فضلًا عن الانقطاع الدراسي المبكر لأطفالهن لقلة ذات اليد، وفق تعبيرهن.

أضرم سكان حي العوينة النار في إطارات مطاطية مطالبين بإطلاق سراح الموقوفين في الاحتجاجات الأخيرة (ماهر جعيدان/الترا تونس)

كما اشتكى السكان مما وصفوه بـ"عنف" التدخلات الأمنية في الحيّ لإخماد حالة الهيجان الليلية التي عمت كافة الأحياء المجاورة مما أوقع بعض الأبرياء بين أيديهم وتمت إحالتهم على القضاء.

تجولنا قليلًا بين أزقة الحي فلاحظنا أشغالًا على مستوى "وادي قاسم" الذي يعبر الحي وذلك بعملية تغطيته بالإسمنت على نفقة وزارة التجهيز والإسكان. أما الطرقات فلا يزال بعضها غير معبّد وينتظر التدخل العاجل في حين بقي الحي القديم على حاله وقد اشتكى سكانه من غرق عديد البيوت عند كل نزول للمطر.

صابر دريرة (رئيس بلدية سوسة الجنوبية): أهم إشكال في البنية التحتية بحي العوينة يتمثل في عدم إحداث قنوات تصريف الأمطار. ولم يرَ مشروع تهيئة الحي النور بعد أن كانت الدولة قد رصدت له 17 مليون دينار

اتصلنا برئيس الدائرة البلدية لسوسة الجنوبية صابر دريرة وطرحنا عليه مشاغل أهل الحيّ فقال: "هذا الحي يشكو العديد من النقائص وقد توارثناها عن سابقينا من المسؤولين".

وتابع القول: "نهج النصيحة" مثلًا يعتبر معضلة حي العوينة إذ يشكو من تسرّب المياه تحت البيوت وقد تلقت جميع الجهات المتدخلة عرائض من المواطنين للكشف عن أسباب هذا التسرب الذي أضر بعدد كبير من الأهالي، وقد اشتغل عليه الديوان للوطني للتطهير والشركة التونسية لاستغلال المياه ولم يتم تحديد المسؤولية إلا مؤخرًا فقام ديوان التطهير بإعداد دراسة لإعادة تطوير الشبكة وإيقاف هذا التسرّب الذي ظل لسنوات. وإثر هذا التدخل سنقوم كبلدية بتعبيد الطريق وترصيفه وقد خصصت اعتماداته المالية منذ 2019، على حد قوله.

وأضاف صابر دريرة: "ومن بين الأنهج التي تم رصد ميزانياتها من حيث التعبيد والترصيف تلك المتفرعة عن وادي سيدي قاسم، كما سيتم الاعتناء بترصيف معهد محمود المسعدي".

اقرأ/ي أيضًا: "حالة وعي" في حيّ التضامن.. شباب يرسم مستقبلًا بالألوان

وأكد المسؤول البلدي أن "أهم إشكال في البنية التحتية بحي العوينة يتمثل في عدم إحداث قنوات تصريف الأمطار عند منخفض مقهى قريسة الذي تتجمع المياه فيه عند هطول السيول. ولم يرَ مشروع تهيئة الحي النور بعد أن كانت الدولة قد رصدت 17 مليون دينار، لكن ما يسمّى بـ"التمييز الإيجابي" قد حرم سوسة من هذا المشروع وتم تحويل الاعتمادات إلى مناطق أخرى".

حول تدخل البلدية لإزالة البناء الفوضوي، اعتبر صابر دريرة رئيس الدائرة البلدية بالجهة أن "الإشكال يكمن في التنفيذ باعتبار أن الشرطة البلدية ليست تحت سلطة البلدية بل تحت إشراف مباشر من وزارة الداخلية، فضلًا عن أن الشرطة البيئية من جهة أخرى ليست بهيكل فعال بما يكفي لذلك بقيت التدخلات غير ناجعة بالشكل المطلوب".

أغلب الطرقات في حي العوينة لا يزال غير معبد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

أما عن التدخلات الاجتماعية للدائرة البلدية خلال الأزمة الصحية وانتشار فيروس كورونا فقد تطوعت  المصالح الاجتماعية بتقديم إعانات عينية ومادية لبعض الفئات الهشّة حسب قول دريرة.

ويمكن القول إن تهميشًا ثقافيًا ينضاف إلى التهميش الاجتماعي بحي العوينة إذ يعاني أغلب الأطفال من مشكلة الانقطاع الدراسي المبكر وانتشار الظواهر الإجرامية  وعدم وعي الأولياء بمبدأ التوجيه إذ نلاحظ العديد من الأطفال يمارسون المهن الجرة في الأسواق وينتصبون لمساعدة أمهاتهم اللاتي يقتتن من صناعة الخبز أو فتح محلات تجارية صغيرة من بيوتهم. وما يزيد الوضع تعقيدًا عزوف الشباب عن الأنشطة الرياضية والثقافية والتكوينية رغم إيواء الحي أكبر مركز قطاعي للتكوين في الإلكترونيك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حي هلال في تونس.. لا يزال للأمل مكان

أي عنوان للتطورات الليلية الأخيرة في تونس؟