عندما تسبح في ذاكرة مدينة سوسة وتاريخها، لا يعني أنك تسير بين الجدران والأسوار وتحتفي بالمتاحف والرباطات وتفحص الأحجار والتماثيل وتجوب فيما خفي بين أضلع الأرض فقط.. بل إنّك كذلك تسبح في أعماق البحر قبالة شواطئ سوسة وتحديدًا يسرة الميناء التجاري الحالي قرب الصخور الناتئة.
لا يُعرف الكثير عن الميناء البوني القديم باستثناء بعض الدراسات التاريخية القليلة التي تناولته بالدراسة وطرحت العديد من الفرضيات العلمية والتاريخية حول تشييده وهندسته ودوره المحوري في الأحداث الحربية والنمو الاقتصادي والتطور الديمغرافي بسوسة
لم تكن جولتي في عمق نحو ثلاثة أمتار غوصًا في الشاطئ القديم الذي يطلق عليه منذ القرن الثامن عشر بـ"بحر الزبلة" بالجولة العادية التي تتمتع فيها بمشاهد الثروة السمكية، بل إنّك لتجد عمقًا غنيًا بالتاريخ وأنت تكتشف البقايا المكشوفة من الميناء البونيقي القديم الذي لم يظهر منه اليوم إلّا بعض الأسطح الصخرية، ميناء غمرته الرمال بالكامل وابتلعت معه أسرار جزء مهم من تاريخ سوسة في العصور القديمة، تاريخ الملاحة البحرية والتجارة والحروب والقرصنة، تاريخ الصناعة والتجارة والفلاحة وقوة الأمم وسيادة السلطة والمال والجاه، وتاريخ شعوب متعاقبة على هذا المكان!
كنت أجوب الأعماق على مسافات غير متباعدة وأتحسس الصخور الناطقة بالحياة وقد حطت من قدرها الأمواج فلطختها وتركت بقاياها مسكنًا للأسماك ومنبتًا للأعشاب المائية وتتردد بن الموج والآخر حكاية ميناء غريق.
الميناء البوني القديم: أسرار دفينة في الأعماق
أسس الفينيقيون سوسة في القرن التاسع قبل الميلاد وكانت ملتقى لسفنهم التجارية غرب البحر الأبيض المتوسط واستمرت هذه الجهة كوجهة استراتيجية للوافدين عبر الحضارات المتعاقبة فكانت قاعدة ملاحة بحرية تعززت في العهد الإسلامي نظرًا لقربها من القيروان.
وحسب منشورات المعهد الوطني للتراث بتونس فإنه "في سنة 208 هـ / 821 م خصّ الأمير الأغلبي زيادة الله الأوّل سوسة، بقصبة تضمّ الرباط ودار صناعة السفن أحيطت جميعها بسور وجعل فيها حامية عسكريّة. وبذلك كانت سوسة سنة 212 هـ / 827م نقطة انطلاق لفتح صقليّة، فاحتدّ النزاع بين الأغالبة والبيزنطيين نتج عنه هجمات بحريّة حدثتنا عنها المصادر التاريخيّة.
رضا الغضاب (باحث جامعي في التاريخ) لـ"الترا تونس": توضح الفسيفساء وجود أنشطة تجارية خارج حوض مغلق، ويشير هذا إلى أن النشاط التجاري كان ممكنًا للسفن ذات الحمولة المتوسطة
الميناء البوني القديم لا يعرف عنه الكثير باستثناء بعض الدراسات التاريخية القليلة التي تناولته بالدراسة وطرحت حوله حزمة من الأسئلة وطرحت العديد من الفرضيات العلمية والتاريخية حول تشييده وهندسته ودوره المحوري في الأحداث الحربية والنمو الاقتصادي والتطور الديمغرافي بالجهة.
أسئلة دفعتنا إلى البحث في بعض المصادر القديمة لاستجلاء بعض من أسراره، فالميناء البوني بسوسة يوجد بين "بحر الزبلة" و"برج خديجة"، في حين أن الميناء التجاري الحالي يوجد قبالة الأسوار وتم إنشاؤه خلال الحقبة الاستعمارية ما بين 1885 و1893 ببناء رصيف للإرساء من فئة مترين ونصف يبلغ طوله 200 مترًا وكذلك إنجاز ممر مائي للدخول.
إن البحث عن تاريخ الميناء القديم جزء من البحث عن حضارة "هدريمتوم" القديمة، فحركة الملاحة ترتبط أساسًا بالنشاط الاقتصادي والعسكري والبشري في منطقة المتوسط التي تتنازعها حضارات وتركبها الحروب والغزوات مشرقًا ومغربًا، وباعتبار موقع سوسة القديمة "هدريموتم" في محور استراتيجي، مسها من النشاط والركود حسب طبيعة الأحداث التاريخية على مر العهود، ولعل الميناء البحري القديم جزء من هذا المشهد الحضري.
الباحث الجامعي في التاريخ رضا الغضاب يطرح في دراسة بحثية مسألة الميناء ويستنجد بالمصادر في بيان ذلك فيقول: "إن شهادة بلوم أفريكوم Bellum africum قاطعة فيما يتعلق بوجود ميناء داخلي ومن المرجح أن يكون الحوض الداخلي من العصور الوسطى تم اكتشاف بقاياه أثناء بناء المنازل التي أقيمت على طول السور الشمالي داخل المدينة..".
ويضيف رضا الغضاب "في حالة البحث الحالية، لم يتم إجراء أي دراسة ولا يوجد ما يوضح التسلسل الزمني لنظام هذا الميناء".
ويطرح الباحث رضا الغضاب فرضية الميناء المفتوح من حيث البنية "وذلك من خلال قطع الفسيفساء التي تم اكتشافها في أحد منافذ المدينة باعتبارها مشهدًا حقيقيًا للتجارة. إنه يُظهر وزن حمولة سفينة شراعية أحادية الصاري قد وصل إليها العبيد العموميون على الشاطئ. توضح هذه الفسيفساء، التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن الثالث، وجود أنشطة تجارية خارج حوض مغلق، أي في مكان خالٍ من الشامات والأرصفة التي تميز الميناء المبنيّ، ويشير هذا إلى أن النشاط التجاري كان ممكنًا للسفن ذات الحمولة المتوسطة ولكن لا يبدو لنا أن هذا هو الحال بالنسبة للحمولة الكبيرة التي تتطلب على الأقل وجود جهاز مناسب: المياه العميقة، ورصيف الميناء والحماية من رياح الشمال الشرقي المتكررة بشكل كبير خلال فترة افتتاح موسم الملاحة".
يبدو أن الميناء القديم لا يزال يحمل أسراره معه رغم محاولات الباحثين. ويعود ذلك إلى شح المعلومات التاريخية واقتصارها على بعض المنشورات لمكتشفين فرنسيين أوائل القرن الماضي تلقّفها باحثون أكاديميون تونسيون كأرضية لمواصلة البحث.
خالد عيسى (رئيس جمعية البحث في ذاكرة سوسة) لـ"الترا تونس": الجمعية عازمة على الأخذ بزمام المبادرة من أجل الكشف عن أسرار الميناء القديم وتحديد مجالاته وحدوده بالمنطقة وتطوير عملية البحث بالشراكة مع الجهات المختصة في التراث
وأكد رئيس جمعية البحث في ذاكرة سوسة خالد عيسى، خلال مقابلة له مع "الترا تونس"، عزم الجمعية على الأخذ بزمام المبادرة من أجل الكشف عن أسرار الميناء القديم وتحديد مجالاته وحدوده بالمنطقة وتطوير عملية البحث بالشراكة مع الجهات المختصة في التراث والمتدخلين في مجال البحث والدراسات.
كما أضاف عيسى أنه "يجب تثمين هذه المنطقة الحيوية من خلال عمليات توعوية مختلفة ترتكز أساسًا على توعية الشباب بأهمية هذا المكان تاريخيًا وبيئيًا، والاعتناء بها من حيث الثروة الحيوانية والنباتية التي تزخر بها وما بقي منها حمايته من التدخل البشري (البناءات والردم) ولمَ لا تغيير تسمية الشاطئ من (بحر الزبلة) إلى (شاطئ هدريم)، وإدراجه ضمن متحف التراث البحري بالجهة ودعم ذلك بالتعريف بطرق صناعة السفن الشراعية التجارية القديمة والصيد البحري".
ويؤكد عيسى لـ"الترا تونس"، ضرورة إعادة قراءة تاريخ الجهة من خلال الكشف عن دور الميناء القديم في حضارة سوسة القديمة والحديثة.
المرفأ التجاري بسوسة: مرحلة التخطيط بدايات التشييد (1891-1895)
لما كانت سوسة الواجهة البحرية المثلى عبر قرون من الزمن، كان لا بدّ من ميناء تجاري يواكب حركة الملاحة في المنطقة، فكانت مرحلة التخطيط لإنشائه منذ أن حل المستعمر الفرنسي بالبلاد التونسية ميناء يستجيب للمواصفات الأوروبية والدولية، ويكون نقطة نقل لثروات البلاد الباطنية نحو فرنسا ونقطة وصل بين بلدان المتوسط.
بحثنا في الأرشيف الوطني الفرنسي فعثرنا على "محضر المؤتمر التشاوري 1891-1895 الدورات الأولى إلى التاسعة / المملكة التونسية" الذي يوثّق عملية التخطيط لتشييد ميناء سوسة. تكمن أهمية هذه الوثيقة في بيان الهندسة والتخطيط العمراني وتكشف طريقة تفكير المستعمر الفرنسي من حيث توفير آليات التمويل واستراتيجية استغلال الثروات.
خالد عيسى (رئيس جمعية البحث في ذاكرة سوسة) لـ"الترا تونس": لمَ لا يتم تغيير تسمية الشاطئ من (بحر الزبلة) إلى (شاطئ هدريم)، وإدراجه ضمن متحف التراث البحري بالجهة ودعم ذلك بالتعريف بطرق صناعة السفن الشراعية التجارية القديمة والصيد البحري
ومما جاء في التقرير الذي أعدته اللجنة البحرية المسؤولة عن فحص هذا المشروع، "إنشاء ميناء مغلق والذي يمكن أن يقترب من حوض بمساحة 12 هكتارًا، تحدّه أرصفة وأرصفة. سيتم الحصول على المأوى عن طريق رصيف صغير يبلغ طوله حوالي 740 مترًا، يتم إنشاؤه كامتداد للرصيف الحالي لمسافة 200 مترًا.. سيتم استخدام منتجات جرف الأحواض والقناة العريضة التي ستتيح الوصول إليها لتشكيل كتل من الأرصفة ووسطان واسعان يقع أحدهما في الشمال على حافة أرض صلبة، والآخر في الغرب، أمام الواجهة البحرية للأسوار.. وترتيبها بشكل مثالي ليتم خدمتها عن طريق السكك الحديدية، بمجرد تجهيز سوسة بالسكك الحديدية التي تتوقعها".
كما تحدث التقرير عن عزم الفرنسيين هدم جانب من الأسوار "نحن نتحدث عن هدم الواجهة البحرية لأسوار مدينة سوسة. ويكفي اختراق هذا السور بأبواب كبيرة تمتد إلى شوارع الحي الجديد الذي سيقام على الوسط المخطط، مهما كان صغيرًا، حتى يختفي السور الذي أصبح جدارًا بسيطًا".
ميناء سوسة التجاري: المراحل الأولى للاستغلال
كشفت وثيقة منشورة بالأرشيف الوطني الفرنسي "الموانئ الفرنسية خلال الحرب – موانئ تونس - Auguste PAWLOWSKI"، التقارير الأولية لنشاط ميناء سوسة بعد المرحلة الأولى من عملية التهيئة، فقد "قامت الشركة التونسية بتركيب 12 صهريج نفط في مدينة سوسة بطاقة إجمالية 12 ألف لتر. يمر ميناء سوسة بـ 3700 مترًا من السكك الحديدية، تديرها شركة Compagnie du Porl، وتزوّد أربعة مآخذ للمياه السفن بالمياه العذبة، ويتم توفير الإضاءة في الجنوب بواسطة فوانيس الكيروسين، على الأرصفة الشمالية والشمالية بمصابيح كهربائية 16 و100 شمعة، التيار منها يأتي من مصنع سوسة..".
ويضيف التقرير "في عام 1913، استقبلت مدينة سوسة 880 سفينة استيراد جاءت لتودع على أرصفة الميناء الفحم البريطاني، والأخشاب من السويد والنرويج، والحبوب والمواد الغذائية من إيطاليا وفرنسا. المعادن الخام والمصنعة والأقمشة ومواد البناء في العاصمة".
ويضيف أوغيست باولسكي "فقد نمت الصادرات أكثر بكثير من الواردات. من عام 1888 إلى عام 1910، زادت الصادرات بأكثر من الضعف في سوسة، ومن عام 1910 إلى عام 1913 زادت بمقدار 5 درجات نتيجة لشحنات شركة قفصة، التي تعهدت بتوفير الحد الأدنى من الشحن 25000 طن.. وفي عام 1913، سجلت مدينة سوسة ما مجموعه 3000 مسافرًا، بما في ذلك 1300 قادمًا من أو إلى فرنسا".
اقرأ/ي أيضًا: