بعد عامين من إعلان ما اٌطلق عليه حينها "التدابير الاستثنائية"، يوم 25 جويلية/يوليو 2021، تُجمع القوى الديمقراطية، سياسية كانت أو مدنية، على الحصيلة السلبية جدًا لرئيس الدولة قيس سعيّد في مجال ممارسة الحريات العامة بعد انحرافه عن المسار الديمقراطي وإدخاله البلاد لنفق تأسيس نظام حكم سلطوي، بما يؤكد توصيف أن تلك التدابير لم تكن إلا انقلابًا. ضرب ممنهج لاستقلال القضاء، وتضييق على الأنشطة الحزبية، واعتقالات تعسفية للمعارضين دونًا عن صياغته لدستور يؤسس للحكم الفردي، هي بعض عناوين حصيلة حكم سعيّد على مستوى الحريات السياسية.
ضرب ممنهج لاستقلال القضاء، وتضييق على الأنشطة الحزبية، واعتقالات تعسفية للمعارضين دونًا عن صياغته لدستور يؤسس للحكم الفردي، هي بعض عناوين حصيلة حكم سعيّد على مستوى الحريات السياسية
ويمثل تراجع تونس بـ31 مرتبة دفعة واحدة في مؤشر "الديمقراطية" الذي تعده سنويًا مجلة "الإيكونوميست"، وذلك في ظرف عامين فقط، من المرتبة 54 عام 2020، آخر عام قبل الانقلاب، إلى المرتبة 85 عام 2022، مقياسًا مكثفًا على انهيار الممارسة الديمقراطية في تونس بما يجهز على آخر "قلاع" الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية.
وكان قد أكد رئيس الدولة في حملته الانتخابية عام 2019 أن "العصفور لن يعود إلى القفص" في إشارة لطيّ صفحة الدكتاتورية بعد تحرّر المجال العام، ثم زعم بعد إعلانه للتدابير في جويلية/يوليو 2021 أنه لا مساس من الحقوق والحريات، ولكن تبيّن أن رئيس الدولة هو من يعمل على إرجاع العصفور للقفص عبر التشريعات والممارسات المنافية للمبادئ الديمقراطية.
أكد سعيّد في حملته الانتخابية عام 2019 أن "العصفور لن يعود إلى القفص" في إشارة لطيّ صفحة الدكتاتورية لكن تبيّن لاحقًا أنه من يعمل على إرجاع العصفور للقفص عبر التشريعات والممارسات المنافية للمبادئ الديمقراطية
- ضرب الحق في المشاركة السياسية.. الرئيس الحاكم بنفسه
استهدف رئيس الدولة منذ 25 جويلية/يوليو 2021 بشكل مباشر حق مكونات المجتمع السياسي والمدني في المساهمة في إدارة البلاد والمشاركة في صياغة قراراتها لا سيما المصيرية منها.
انطلق هذا الاستهداف بحلّ البرلمان ممثل السلطة التشريعية وحلّ المجلس الأعلى للقضاء الضامن لاستقلالية السلطة القضائية مع حلّ الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بعد إعلان رئيس الدولة نفسه مشرعًا وحيدًا لا رقابة عليه من أي جهة كانت. مسلسل استهداف الحق في المشاركة السياسية امتدّ طيلة سنتين آخرها حلّ المجالس البلدية المكون الرئيسي للسلطة المحلية التي لم يتم استكمال مسار تركيزها أصلًا. فرض رئيس الدولة نفسه بذلك صاحب القرار الوحيد دون حتى التشاور مع الفاعلين السياسيين والمدنيين.
تم حلّ البرلمان ممثل السلطة التشريعية وحلّ المجلس الأعلى للقضاء الضامن لاستقلالية السلطة القضائية مع حلّ الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بعد إعلان رئيس الدولة نفسه مشرعًا وحيدًا لا رقابة عليه من أي جهة كانت
والعنوان الرئيسي في ضرب الحق في المشاركة السياسية تمثّل باستفراد الرئيس بكتابة دستور البلاد الذي يمثّل ميثاقًا مجتمعيًا بين التونسيين يفترض توسيع دائرة المشاركة في إعداده لا تضييقها بل الأكثر من ذلك تجاوز حتى أدوات المشاركة المعلنة من السلطة.
فلم تشهد الاستشارة الإلكترونية المعلنة إلا مشاركة 6% فقط من الجسم الانتخابي ولم يأخذ الرئيس بنتائجها ومن ذلك أنه فرض مسار إعداد دستور جديد والحال أن النتائج بينت أن الأغلبية دعمت تعديل دستور 2014.
تأكد تباعًا أن رئيس الدولة اعتمد أدوات مشاركة صورية ومن ذلك تجاوزه لمشروع مسودة الدستور التي أعدتها لجنة كونّها هو بنفسه، ليعرض على الاستفتاء دستورًا كتبه بنفسه دون مشاركة أي مكون سياسي ومدني.
العنوان الرئيسي في ضرب الحق في المشاركة السياسية زمن سعيّد تمثّل باستفراد الرئيس بكتابة دستور البلاد الذي يمثّل ميثاقًا مجتمعيًا بين التونسيين يفترض توسيع دائرة المشاركة في إعداده لا تضييقها
تباعًا لمسلسل الاستفراد بالسلطة، أعد الرئيس بنفسه القانون الانتخابي للانتخابات التشريعية دون إشراك الفاعلين السياسيين الذين قاطعت أغلبيتهم الكاسحة هذه الانتخابات التي شهدت نسبة مشاركة في حدود 8% فقط، وهي من أقل نسب المشاركة على المستوى العالمي بما يعكس تبعات الاستهداف الممنهج للحق في المشاركة السياسية.
وأدى هذا المسار لتركيز برلمان منتخب على قائمات الأفراد من أشخاص من غير ذوي الإشعاع السياسي على المستوى الوطني. بذلك تشكّل برلمان على هامش العملية السياسية التي يديرها رئيس الدولة لوحده عبر دستوره الذي ركّز السلطات بيده، مقصيًا مكونات المجتمع السياسي والمدني من جهة ومضعفًا السلطة التشريعية ذاتها من جهة أخرى، دونًا عن سابق استهدافه للهيئات التعديلية بإلغاء جلّها في الدستور الجديد.
تشكّل برلمان على هامش العملية السياسية التي يديرها رئيس الدولة لوحده مقصيًا مكونات المجتمع السياسي والمدني ومضعفًا السلطة التشريعية ذاتها دونًا عن سابق استهدافه للهيئات التعديلية بإلغاء جلّها في الدستور الجديد
- استهداف ممنهج للحريات السياسية واعتقال للمعارضين
شهدت حريات النشاط الحزبي والتظاهر والاجتماع تقييدات وعراقيل ممنهجة من السلطة، وخاصة حرية التعبير التي اُستهدفت عبر تشريعات في مقدمتها المرسوم عدد 54، الذي بات سيفًا مسلطًا على رقاب المدوّنين والمواطنين عمومًا خشية إيقافات تشمل كل صوت معارض مزعج للسلطة.
وفي الأشهر الأخيرة مثلًا، أصدرت السلطة ممثلة في ولاية تونس قرارًا بمنع مظاهرة لجبهة الخلاص بتعلة أن بعض قياداتها محل تتبع في قضية "التآمر"، ثم لاحقًا قرر الوالي منع التظاهرات في شارع الحبيب بورقيبة، الشارع الرمز لممارسة حرية التظاهر منذ الثورة، بتعلّة تخصيصه للأنشطة الثقافية والسياحية فقط.
شهدت حريات النشاط الحزبي والتظاهر والاجتماع تقييدات وعراقيل ممنهجة من السلطة، وخاصة حرية التعبير التي اُستهدفت عبر تشريعات في مقدمتها المرسوم عدد 54
تباعًا، أغلقت السلطات مقرّيْ حركة النهضة وجبهة الخلاص تباعًا مع الاعتقالات التعسفية التي شملت قياداتها، وهو غلق يستهدف بشكل مباشر ضرب حرية النشاط الحزبي. في المقابل، غضّت السلطات النظر عن أنشطة الحزب القومي التونسي الذي تضعه تحت المساءلة القانونية كترويجه لخطاب موصوم بالعنصرية ضد المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء بما يتعارض مع مبدأ منع الأحزاب من الدعوة للكراهية والتمييز، ولكنه يتطابق، في المقابل، مع الخطاب الرسمي للسلطة.
وبعد عامين من الانقلاب، لا تزال الاعتقالات التعسفية مستمرّة بحق المعارضين من مختلف الطيف السياسي عبر إثارة ملفات قضائية بتوجيه سياسي ضد معارضين على خلفية آرائهم السياسية أو على ضوء ممارستهم لحرية الاجتماع.
آخر موجات الاعتقالات تعود لشهر فيفري/شباط 2023 عبر فبركة قضية "تآمر على أمن الدولة" ضد 8 معارضين سياسيين وحقوقيين، وقضايا أخرى شملت قضاة ومحامين. إذ تؤكد هيئات الدفاع في هذه القضايا على صبغتها السياسية عبر كيدية التهم وعدم جديّة قرائنها، دونًا عن تضمن الملفات لخروقات إجرائية جسيمة وإصدار قرارات غير مسبوقة كقضية "التآمر" مثل منع التداول الإعلامي في القضية بما يخالف حريات التعبير والإعلام والحق في النفاذ للمعلومة، وأيضًا منع المُفرج عنهم "من الظهور في الأماكن العامة" وهو تدبير احتياطي غير منصوص عليه في مجلة الإجراءات الجزائية.
بعد عامين، لا تزال الاعتقالات التعسفية مستمرّة بحق المعارضين من مختلف الطيف السياسي عبر إثارة ملفات قضائية بتوجيه سياسي ضد معارضين على خلفية آرائهم السياسية أو على ضوء ممارستهم لحرية الاجتماع
وقد امتدت يد الاستهداف في قضية التآمر للمحامين أنفسهم على غرار رفع السلطة لدعاوى ضد المحاميين عبد العزيز الصيد وإسلام حمزة على خلفية ممارستهم لأعمالهم، بما يعكس السعي لضرب حق الدفاع.
- القضاء بعد عامين.. استقلالية ضائعة تحت قصف السلطة
لم تكن الاعتقالات السياسية لتتمّ إلا بتعبيد الطريق عبر توظيف القضاء لخدمة أجندات السلطة السياسية، وهو ما واصل رئيس الدولة المضي في شأنه بعد عامين من الانقلاب. وقد تبيّن سعي الرئيس للإجهاز على القضاء، في البداية، منذ تسمية نفسه رئيسًا للنيابة العمومية يوم 25 جويلية/يوليو 2021 وهو ما تصدّى له المجلس الأعلى للقضاء الذي ظلّ محلّ استهداف من السلطة لمدة أشهر إلى غاية حلّه في فيفري/شباط 2022.
لم تكن الاعتقالات السياسية لتتمّ إلا بتعبيد الطريق عبر توظيف القضاء لخدمة أجندات السلطة السياسية، وهو ما واصل رئيس الدولة المضي في شأنه خلال عامين
مسلسل ضرب استقلالية القضاء عرف أوجّه بإعفاء 57 قاضيًا في 1 جوان/يونيو 2022 ثم رفض احترام قرارات رئيس المحكمة الإدارية يتوقيف تنفيذ أمر الإعفاء بحق 49 قاضيًا، وإثارة السلطة لدعاوى ضد القضاة المعفيين وقد أكدت الشهادات العلنية للعديد منهم أنهم دفعوا ضريبة عدم تطبيق تعليمات السلطة وعدم الانصياع لطلبات الأجهزة الأمنية.
الوضع الحرج للقضاء في تونس عكسه عدم إصدار رئيس الدولة للحركة القضائية السنوية بما منع قضاة مباشرين من الارتقاء وتغيير مواقع عملهم، دونًا عن الشغورات في مواقع القضاة المعفيين خاصة في الخطط القضائية السامية وفي النيابة العمومية.
عصا السلطة أشاعت مناخًا من الخوف في صفوف قضاة السلسلة الجزائية المباشرين للمحاكمات السياسية على وجه الخصوص. وهو مناخ تعزّز بعد إيقاف السلطة لقاضي تحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب عن العمل بعد إبقائه نقابيًا مشمولًا باعتقالات فيفري/شباط 2023 في حالة سراح بدل إيقافه كما تريد السلطة التي لا تتردّد في إظهار دورها العلني في المحاكمات السياسية وفرض القرارات القضائية من خلف الستار.
عصا السلطة أشاعت مناخًا من الخوف في صفوف قضاة السلسلة الجزائية المباشرين للمحاكمات السياسية على وجه الخصوص وهو مناخ تعزّز بعد إيقاف السلطة لقاضي تحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب عن العمل
وفي هذا السياق، رفضت السلطات استقبال المقررة الأممية المعنية باستقلال القضاء والمحاماة للمرة الثانية منذ 25 جويلية بما يعكس حجم الحرج من مجابهة حقيقة تقييم وضع القضاء وضمانات المحاماة وذلك طبق المعايير الدولية.
إذ تظلّ تصريحات رئيس الدولة في قضية "التآمر" بأنه "من غير المعقول أن يبقى خارج دائرة المحاسبة من له ملف ينطق بإدانته قبل نطق المحاكم" وأنه "من سيبرئهم فهو شريك لهم" في إشارة للمعارضين المعتقلين، الدور السياسي المباشر للتأثير في مسارات المحاكمات السياسية، خاصة في ظل استعمال الرئيس لمعجم التخوين والعمالة ضدهم.
وآخر مظاهر مسلسل ضرب القضاء هو إصدار وزيرة العدل، نهاية شهر ماي/أيار 2023، لمذكرات عمل بتكليف قضاة في عدد من مواقع القضاة المعفيين من بينها الخطط القضائية السامية، وذلك قبل شهرين من الموعد المفترض للحركة القضائية. وتأتي هذه التعيينات، التي شملت بالخصوص جهاز النيابة العمومية بالعاصمة، في سياق فرض حقيقة قضاة الموالاة بما يتعارض مع أبسط مقومات استقلالية القضاء.
تؤكد حصيلة سنتين تسجيل تدهور كبير وغير مسبوق في ممارسة الحريات السياسية والمدنية لم تشهده البلاد منذ إسقاط نظام بن علي، بما أدى لانتشار مناخ من الترهيب خشية تتبعات قضائية أو اعتقالات تعسفية
في الختام، تؤكد حصيلة سنتين منذ الانقلاب تسجيل تدهور كبير وغير مسبوق في ممارسة الحريات السياسية والمدنية لم تشهده البلاد منذ إسقاط نظام بن علي، بما أدى لانتشار مناخ من الترهيب خشية تتبعات قضائية أو اعتقالات تعسفية.
هو تدهور يعكس توجّهًا ممنهجًا للتخلي عن مكتسبات الانتقال الديمقراطي وللمضي في تركيز نظام حكم فردي وسلطوي، لم يكن دستور الرئيس إلا عنوانه. وقد مثلت الممارسة العملية للسلطة تكريسًا فعليًا لهذا النظام الناشئ الذي أعاد تونس لتتصدّر بيانات المنظمات الحقوقية الدولية، كما أعاد المجتمع الديمقراطي المحلي أحزابًا وجمعيات للنضال مجددًا من أجل الحد الأدنى الديمقراطي.