23-يوليو-2023
سعيّد بودن

إن ما استدعى كل الإجراءات التي اتخذها الرئيس في 25 جويلية 2021 لا يزال قائمًا بل تفاقم مولدًا أزمات أخرى

مقال رأي 

 

بقيت لحظة 25 جويلية/يوليو 2021 إلى حدود هذه الساعة التي تقترب فيها من إتمام السنتين، لحظة صدمة عايشها التونسيون أنصارًا ومعارضين. ولا يزال الجدل إلى اليوم قائمًا حول مشروعية تلك اللحظة وعن الغرف التي رتبت لها وعن الأذرع الداخلية التي نفذتها وعن اللوبيات الخارجية التي دعمتها أو حصنتها من الرفض المطلق على الأقل.

من الغامض إلى اليوم مدى مطابقة الخطاب الأول المؤسس للحظة 25 جويلية 2021، للواقع الذي يعيشه التونسيون الآن وهل يعي عقل الدولة بهذا الفرق؟ 

ولئن كان من الواضح أن عقل الدولة والراعي الخارجي لتونس كانا مجبرين على هذه اللحظة لعدة حسابات فإنه من الغامض إلى اليوم مدى مطابقة الخطاب الأول المؤسس لتلك اللحظة للواقع الذي يعيشه التونسيون الآن وهل يعي عقل الدولة بهذا الفرق؟ 

على الساحة السياسية يبدو المشهد أقرب إلى صحراء جدباء فمنذ إجراءات السلطة تلك الليلة تبخرت أسماء عديد الأحزاب وخفت هتاف عدة أصوات كان تصرخ باسم الديمقراطية. لم تبق في الساحة سوى أربعة مكونات أساسية وهي جبهة الخلاص الوطني التي ضمت حركة النهضة وحزامها البرلماني ما قبل 25  جويلية من قلب تونس وائتلاف الكرامة وبعض الشخصيات السياسية المستقلة لتبرز كأكبر قوة معارضة في مواجهة النظام، والخماسي الاجتماعي الذي يناهض الانقلاب هو الآخر بعيدًا عن النهضة لخلافات إيديولوجية فشلت معركة استعادة الديمقراطية في تذويبها.

الأجسام المقتسمة للمشهد العام في تونس تبدو جميعها في حالة ضعف وجمود ولا واحدة منها قادرة على فرض بديلها على الساحة وهو الأمر الذي سهل على قيس سعيّد تجريف الحياة السياسية وتجفيفها

وهناك كذلك الأحزاب الحزامية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد وهي أساسًا حركة الشعب والديمقراطيون الوحدويون فرع منجي الرحوي وحركة تونس إلى الأمام وهي أحزاب لا يعيرها رئيس الجمهورية أدنى اهتمام ولا يرى حرجًا في تجميعها مع بقية المكونات الحزبية ولا تمتلك أدنى وزن شعبي يفرض قوة حاسمة.

أما الجسم الرابع فهو مفسرو الرئيس والمتطوعون لأسباب وخلفيات مجهولة والذين ملؤوا المنابر  الإعلامية منذ لحظة 25 جويلية 2021. هذه الأجسام المقتسمة للمشهد العام تبدو جميعها في حالة ضعف وجمود ولا واحدة منها قادرة على فرض بديلها على الساحة وهو الأمر الذي سهل على قيس سعيد تجريف الحياة السياسية وتجفيفها. ويواصل الرئيس اعتماد خطاب التقسيم ونجح ولو جزئيا في استعادة الاستقطاب نهضة /ضد نهضة بعد أن فشلت جبهة الخلاص في توحيد العائلات المعارضة لتحقيق استقطاب ديمقراطية/انقلاب. 

هيكليًا، عادت تونس إلى مرحلة أقرب للبايات منها لبقية النظم الجمهورية الديكتاتورية. فبعد أن انفرد بالتشريع والقضاء أتى نظام سعيّد على أهم مكتسبات الثورة وهي هدم نظام مؤسسات دستور جانفي/يناير 2014 فحل هيئات مراقبة دستورية القوانين وأوصد باب هيئة مكافحة الفساد وحل المجلس الأعلى للقضاء وأصبح بيد رئيس الجمهورية عزل القضاة استنادًا إلى تقارير  مجهولة المصدر ودون إعطاء حق للمعزولين في الدفاع عن أنفسهم.

يواصل الرئيس اعتماد خطاب التقسيم ونجح ولو جزئيًا في استعادة الاستقطاب نهضة /ضد نهضة بعد أن فشلت جبهة الخلاص في توحيد العائلات المعارضة لتحقيق استقطاب ديمقراطية/انقلاب

ورسم النظام في تونس خارطة سياسية بشكل منفرد ولم يجد سعيّد حرجًا في خرق خارطة الطريق فرمى بدستور بلعيد ومحفوظ عرض الحائط ورغم النتائج الهزيلة والكارثية التي أتت بها خارطة الطريق ونفقتها، يصر رئيس الجمهورية على اعتماد مساره دون اكتراث بأي رأي مخالف. فينظم انتخابات مجلس النواب بخروقات جوهرية. 

حقوقيًا، تضيق دائرة الحريات يومًا تلو الآخر وتتسع دائرة معتقلي الرأي ورغم ما تحاوله السلطة من تحويل التهم من سياسية إلى جنائية فهذه المحاولات بائسة. فأغلب من دخلوا السجن لم يتولوا مناصب سياسية أو إدارية تؤهلهم لدخول الزنازين تحت عنوان محاسبة الديمقراطية الفاسدة.

في ذات الحين، لم تعمل أجهزة الدولة على خلق ملفات قضائية ضد شخصيات مارست الفساد بشكل واضح. حتى أنها لم تحاسب هشام المشيشي، رئيس الوزراء السابق، الذي غادر تونس نحو قطر دون أدنى عراقيل. وانضافت إلى تونس أزمة حقوقية جديدة هي أزمة المهاجرين والحملات العنصرية التي أطلقها النظام بخطابه التحريضي وسرده لحقائق كاذبة حول المهاجرين.

تضيق دائرة الحريات يومًا تلو الآخر وتتسع دائرة معتقلي الرأي ورغم ما تحاوله السلطة من تحويل التهم من سياسية إلى جنائية فهذه المحاولات بائسة فأغلب من دخلوا السجن لم يتولوا مناصب سياسية أو إدارية تؤهلهم لدخول الزنازين تحت عنوان محاسبة

دوليًا، تستمر تونس في الانغلاق على نفسها فزيارات الرؤساء الأجانب لتونس صارت نادرة وهو ما يعني في أحد صوره عدم أهمية الملف التونسي في حوضي المتوسط مقارنة بملفات شائكة أخرى أهمها الملف الليبي والحرب الروسية الأوكرانية.

وخلال سنتين، شكلت مهاجمة المنظمات الدولية وحتى الدول جزءًا من خطاب الرئيس، هذا الخطاب الذي كان سببًا من خلف تخبط الرؤية الديبلوماسية التونسية إن لم نقل انعدامها. وبعد أن كانت تونس مفاوضًا قويًا في ملف الهجرة بناء على ديمقراطيتها تحولت خلال الشهر الماضي إلى حارس حدود يكتفي بتطبيق تعليمات "الفاشيست الإيطالي" والسياسات الأوروبية الهجينة مقابل المساعدات المالية.

إعلاميًا، تحولت شاشات التلفاز إلى "سوق بومنديل للتبضع" وغابت البرامج السياسية واعتزل عديد المدونين عالم السياسة. وتحولت اهتماماتهم، وحتى البرامج الكوميدية التي كانت تقدم في نهاية الأسبوع بخليط سياسي ينقد الترويكا والنهضة أصبحت تهتم فقط بالمجال الفني وتكرر ذات الوجوه دون أي مقاربة بين الإعلام والواقع وهي الرؤية التي دافعت عنها بيادق المنظومة القديمة عند نقدها في تجريحها للديمقراطية. ويبدو من الواضح أن كل تلك البرامج كانت لخدمة أجندات القديمة حتى تحقق عودتها. 

إعلاميًا، وبعد 25 جويلية 2021، تحولت شاشات التلفاز إلى "سوق بومنديل للتبضع" وغابت البرامج السياسية واعتزل عديد المدونين عالم السياسة وتحولت اهتماماتهم

على الجانب الاجتماعي، لم يكف سحب قيس سعيّد لبساط السياسة من تحت أقدام الاتحاد العام التونسي للشغل فقام باستغلال معركته الداخلية لتحجيم دوره الاجتماعي. وقد طفت هذه المعركة بين شقي المناصرين لكامل المسار ومناصري لحظة 25 جويلية في أزمة التعليم فإن التزم اليعقوبي بدخول بيت الطاعة مثبتًا ولاءه التام واصل الطاهري من خلف نقابة التعليم الأساسي معركته النقدية.

وهكذا نجح الرئيس قيس سعيّد في لجم الانفجارات الاجتماعية المؤطرة.وغابت الجمعيات والمنظمات الوطنية عن المشهد واكتفت الجمعيات الحقوقية بدفن رأسها في التراب أمام الانتهاكات التي تطال التونسيين. وذهبت الأموال التي ضخها المجتمع الدولي لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان داخل النسيج الاجتماعي هباء منثورًا.

هذه التحولات لم يسلم منها الاقتصاد والذي كان من بين الأساسات التي اتخذها الرئيس في خطابه لمعارضة نظام دستور 2014. فارتفعت الضرائب كما ارتفعت نسب التضخم مقاربة لنسب البطالة والفقر. وتدهورت المقدرة الشرائية مقابل ارتفاع جنوني للأسعار. وغابت عديد المواد الأساسية عن موائد التونسيين وخيّم على المالية العمومية شبح الإفلاس والانهيار مع جفاف منابع التمويل.

إن ما استدعى كل الإجراءات التي اتخذها الرئيس في 25 جويلية 2021 لا يزال قائمًا بل تفاقم مولدًا أزمات أخرى

وتنظاف إلى تونس أزمات فلاحية ومائية لا يملك الرئيس أمامها سوى كيل التهم وسيل الشتائم وبعض الإقالات اللا مبررة. وتبقى تونس في عجزها الاقتصادي دون أدنى حلول جذرية مع عجز الحكومة عن إيجاد اتفاقات جدية مع مختلف المانحين الدوليين.

خلاصة القول، إن ما استدعى كل الإجراءات التي اتخذها الرئيس لا يزال قائمًا بل تفاقم مولدًا أزمات أخرى. ومن الواضح أن الجزء الاستئصالي من عقل الدولة لم يجد حرجًا في مواصلة قمع الحياة السياسية والتعنت أمام كل الحلول السياسية المقترحة، وهو ما يجعل حصاد 25 جويلية حصادًا من الفراغ والعدم إلى حد الآن.  

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"