خرج الرئيس التونسي قيس سعيّد مساء 5 فيفري/شباط 2022 من مبنى وزارة الداخلية التونسية ليعلن أن المجلس الأعلى للقضاء "بات في عداد الماضي"، لتنتظم في اليوم الموالي، 6 فيفري/شباط تزامنًا مع ذكرى اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وقفة احتجاجية من أنصار الرئيس مطالبة بـ"تطهير القضاء"، ومن ثمّ، وبتاريخ 7 فيفري/شباط، منع أعوان الأمن أعضاء المجلس وموظفيه من دخول المقرّ.
هو قرار رئاسي بتوسيع مجال حلّ المؤسسات الذي ابتدأ بحلّ البرلمان التونسي والهيئة الوقتية لدستورية مشاريع القوانين، ليبلغ المجلس الأعلى للقضاء، وهو مؤسسة دستورية، تسهر على حسن سير القضاء وضمان استقلالية السلطة القضائية، تم إرساؤها إثر انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2016، في ولاية أولى تم قطعها.
مثّل قرار حلّ المجلس خاتمة للفصل الأول من محاولات سعيّد تحييد المطبات المؤسساتية التي تعترضه بعد تحوّل حالة الاستثناء إلى مرحلة انتقالية جديدة، وأيضًا بداية لفصل جديد بخصوص تعاطيه مع الشأن القضائي
مثّل قرار حلّ المجلس خاتمة للفصل الأول من محاولات سعيّد تحييد المطبات المؤسساتية التي تعترضه بعد تحوّل حالة الاستثناء إلى مرحلة انتقالية جديدة، وأيضًا بداية لفصل جديد بخصوص تعاطيه مع الشأن القضائي، بما مثّل قطيعة مع مسار الإصلاح القضائي البطيء، وأكد المخاوف حول النزوع السلطوي فيما يتعلق باستهداف استقلالية السلطة القضائية.
- حل المجلس الدائم وإرساء المجلس المؤقت.. أين استقلالية القضاء؟
لم يكن قرار سعيّد بحلّ المجلس مفاجئًا، إذ سبق أن أعلن رفض تركيبته معتبرًا إياها نتيجة لتوافقات السياسيين لا أكثر، بالنظر لأنها مختلطة تضم قضاة ومهنًا أخرى (محامون وأساتذة جامعيون.. إلخ)، وهو الخيار الذي اعتمده دستور 2014 تأسيسًا بالمعايير الدولية للهياكل القضائية على ضوء تنوّع تمثيلية الفاعلين في الشأن القضائي. هذا الخيار الهيكلي، في المقابل، مثّل عنصرًا قارًّا في الخطاب الرئاسي تجاه القضاء، من جملة عناصر أخرى بالخصوص منها بطء مسار المحاسبة أو تأثير أصحاب المصالح السياسية والمالية، ناهيك عن عدم الرضاء على أداء النيابة العمومية لتتبع "من يتطاول على الدولة".
وتبيّنت أولى مظاهر مساس سعيّد باستقلالية القضاء منذ إعلان نفسه رئيسًا للنيابة العمومية ضمن التدابير الاستثنائية المعلنة يوم 25 جويلية/يوليو 2021. وهو التدبير الذي رفضه المجلس الأعلى للقضاء باعتباره مساسًا من استقلالية النيابة العمومية بوصفها جزءًا من السلطة القضائية، إلا أن التدبير لم يتم تطبيقه إجرائيًا وذلك لغياب مؤسسة "رئيس النيابة العمومية" في التنظيم العدلي بتونس، وإن عمل الرئيس على مزاحمة النيابة العمومية العدلية من باب تواتر طلب وزيرة العدل من الوكلاء العامين بمحكمة الاستئناف إثارة الدعوى العمومية، تطبيقًا للفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية، وهو فصل كان مهجورًا في التطبيق القضائي، بيْدَ أنه غير دستوري، على الأقل مقارنة بدستور 2014، بحسب لجنة مراجعة المجلة المكوّنة بوزارة العدل.
في الذكرى الأولى لحل المجلس الأعلى للقضاء مازال القضاء يشهد اختبارًا جديًا لاستقلاليته التي بقدر ما مثلت مطلبًا قارًا للحراك الحقوقي زمن الاستبداد مثلت لاحقًا عنوانًا أساسيًا في تأسيس المنظومة الديمقراطية
أعلن المجلس، في الأثناء، تمسّكه باستقلالية القضاء وتشبثه بإصلاح القضاء أيضًا لكن في إطار الآليات الدستورية رافضًا بالخصوص إصدار مراسيم حول تنظيم القضاء، وهو ما رفضه سعيّد، الذي بيّن وبالخصوص منذ الأمر الرئاسي عدد 117 أن لا استثناء لأي مجال في مجال المراسيم، بما يعني الخروج عن مدار دستور 2014 وهو ما تأكد تباعًا بإعلانه بتاريخ 13 ديسمبر/كانون الأول 2021 خارطة طريق لإصدار دستور جديد.
وتمثّلت نقطة اللاعودة بإصدار المجلس الأعلى للقضاء لرأي استشاري سلبي، بداية عام 2022، بخصوص مرسوم الصلح الجزائي، لمسوّغات قانونية متعددة بعضها إجرائي وبعضها أصلي. تباعًا، أعلن رئيس الجمهورية إلغاء منح وامتيازات أعضاء المجلس في حركة عززت السلوك الشعبوي لرئاسة الجمهورية، وذلك قبل بلوغ ساعة الحسم وهو حلّ المجلس الأعلى للقضاء، باعتبار آخر المؤسسات الموروثة من دستور 2014، ولكن أيضًا باعتبارها المؤسسة التي تهدّد شرعية مسار سعيّد فيما يتعلق بقراراته حول القضاء.
اُنشأ مجلس أعلى مؤقت للقضاء لتعويض المجلس المنحلّ، وهو يتكوّن من 7 أعضاء لكل مجلس قضاء قطاعي، موزعين بين 4 قضاة مباشرين و3 قضاة متقاعدين بما مثل نكسة لمكتسبات الاستقلالية القضائية خاصة في مستواها الهيكلي وذلك في نقطتين على الأقل: التخلي عن التركيبة المتنوعة بتعويضها بتركيبة حصرية من القضاة فقط، والتخلي عن التمثيلية الانتخابية بتعويضها بقضاة معيّنين من رئيس الدولة فقط. أعاد رئيس الدولة أيضًا صلاحيات الإلحاق والإحالة على عدم المباشرة إلى وزارة العدل، إضافة إلى توسيع مجال تدخل السلطة التنفيذية وبالخصوص في مجال تسمية القضاة وتحديدًا القضاة السامين.
وبخصوص الجانب التأديبي، توسّعت صلاحيات السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية ووزير العدل خاصة فيما يتعلق بالإحالة على مجلس التأديب، لكن سعيّد لم يكتفِ بذلك ليصدر مرسومًا تعديليًا يجيز لرئيس الجمهورية وعلى أساس تقارير "من جهات" لم يسمّها أن يصدر قرارات بإعفاء قضاة مع تحصينها من أي طعن إلى غاية صدور قرار جزائي بات.
بعد عام من حل المجلس الأعلى للقضاء يجد عدد من أعضاء المجلس المنحل أنفسهم موضوع تتبعات قضائية بطلب من وزيرة العدل في قضايا وصفتها هيئة الدفاع عن استقلالية القضاء والقضاة المعفيين بأنها "مفبركة"
أصدر سعيّد، في نفس اليوم 1 جوان/يونيو 2022، أمرًا بإعفاء 57 قاضيًا بينهم رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر ورئيسة مجلس القضاء العدلي مليكة المزاري، مع الإشارة إلى أن جلّ المعفيين من قضاة النيابة والتحقيق. وتم الاستناد على تقارير أمنية لإعفائهم بحسب شهادتهم، بما عزّز الدور المشبوه لوزارة الداخلية في تصفية عديد القضاة غير المتعاونين مع السلطة السياسية أو الأجهزة الأمنية.
وقد تحصل 49 قاضيًا معفيًا لاحقًا على قرارات بإيقاف التنفيذ من المحكمة الإدارية لم يتم تطبيقها. لم يكن بذلك قرار حل المجلس الأعلى للقضاء إلا بداية لفصل أشدّ ضراوة بالنسبة للقضاة، وهو ما تأكد بإصدار دستور 25 جويلية/يوليو 2022 الذي حوّل القضاء من سلطة إلى وظيفة، فضلًا عن القطع مع مكتسبات الاستقلالية الهيكلية والوظيفية للقضاء، في أحد مظاهر تأسيس نظام سلطوي.
- محنة مستمرّة وحركة قضائية غائبة
في الذكرى الأولى لحل المجلس الأعلى للقضاء، مازال القضاء التونسي يشهد اختبارًا جديًا لاستقلاليته، التي بقدر ما مثلت مطلبًا قارًا للحراك الحقوقي زمن الاستبداد، مثلت لاحقًا عنوانًا أساسيًا في تأسيس المنظومة الديمقراطية، قبل أن تعود الاستقلالية مجددًا موضع استهداف من السلطة التنفيذية شمل بالخصوص التنظيم الدستوري لها.
بعد عام من الحلّ، يجد عدد من أعضاء المجلس المنحل أنفسهم موضوع تتبعات قضائية بطلب من وزيرة العدل في قضايا وصفتها هيئة الدفاع عن استقلالية القضاء والقضاة المعفيين بأنها "مفبركة"، خاصة وأنها تأتي بعد استصدار القضاة المعنيين لقرارات بإيقاف تنفيذ أمر إعفائهم. وهي تتبعات موزعة بين محاكم الحق العام والقطب القضائي لمكافحة الإرهاب والقطب القضائي للفساد المالي، بل وبات المجلس المؤقت، في هذا السباق، متعهّد بطلبات لرفع الحصانة عن قضاة المجلس المنحل.
يشهد القضاء التونسي محنة جديدة ليس فقط بنسف مقومات استقلاليته خاصة بما عكسه دستور 2022 بل بما تبيّنه الممارسة عبر تمدد هيمنة السلطة التنفيذية، كما تتزايد المخاوف من توظيف أدوات قضائية لضرب الحقوق والحريات
في جانب متصل، وبعد زهاء 5 أشهر من العودة القضائية، لم تصدر بعد الحركة القضائية، في سابقة في تاريخ القضاء التونسي، وذلك بسبب رفض رئيس الجمهورية المصادقة عليها، بعد سابق رفضه، بحسب ما تؤكد كواليس الشأن القضائي، لحركة قضائية أولى تضمنت أسماء القضاة من استصدروا قرارات من المحكمة الإدارية لفائدتهم. وقد أدى عدم إصدار الحركة للآن لحالة اضطراب في عديد المحاكم كشغور ما لا يقل عن 6 مواقع وكلاء جمهورية بالمحاكم الابتدائية، وأيضًا رئيس محكمة الاستئناف بتونس ووكيل عام بها، فضلًا عن الشغور في موقع المتفقد العام بوزارة العدل إضافة لعديد المواقع الأخرى.
يشهد القضاء التونسي محنة جديدة ليس فقط بنسف مقومات استقلالية القضاء خاصة بما عكسه دستور 2022، بل بما تبيّنه الممارسة في الواقع القضائي عبر تمدد هيمنة السلطة التنفيذية ليس فقط عن طريق رئاسة الجمهورية ووزارة العدل بل أيضًا وزارة الداخلية. ولم يكن حل المجلس الأعلى للقضاء قبل عام إلا عنصرًا من مشهدية عسيرة للقضاء، تمثّلت تباعًا في شكل إعفاءات لعدد من القضاة المشهود بنزاهتهم. كما لحقت راهنًا عددًا من القضاة المباشرين بمن فيهم رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي الذي يواجه تتبعًا قضائيًا بإيعاز من وزيرة العدل بسبب نشاطه النقابي.
كما تزايدت المخاوف، في الأثناء، من توظيف أدوات قضائية لضرب الحقوق والحريات وبالخصوص استهداف الخصوم السياسيين للسلطة. مثل إصلاح القضاء غير المكتمل طيلة السنوات الماضية والانتقادات المشروعة للقضاء، بذلك، مسوغًا لرئيس الدولة لينسف استقلالية القضاء برمّتها. فبعد عام من حل المجلس الأعلى للقضاء، تؤكد مجمل المؤشرات أن مسار الاستقلالية الموعودة في الخطاب الرئاسي لم تكن إلا مطيّة لوضع اليد على القضاء.