يوم السبت 26 أكتوبر/تشرين الأول 1912 على الساعة السادسة وأربعين دقيقة صباحًا في ساحة باب سعدون بالعاصمة تونس وأمام مقصلة نُصبت لأول مرة في البلاد، توقفت عربة محاطة بأعوان "الجندرمة" و"بسماطين" من جند الخيالة.
نزل من العربة الشاذلي بن عمر القطاري 21 عامًا رفعه الأعوان على المقصلة ومدّ رأسه لتنزل عليه موس الآلة الضخمة فيسقط رأسه. ورجع الأعوان إلى العربة لينقلوا منها المنوبي الجرجار الذي تقدم نحو المقصلة بكل ثبات وفي أقل من دقيقة تم الأمر نفسه.
المؤرخ عادل بن يوسف لـ"الترا تونس": "إعدام الشهيدين المنوبي الجرجار والشاذلي القطاري بعد أحداث الجلاز مثّل مشهدًا تاريخيًا رهيبًا مهيبًا لم تتناوله المراجع التاريخية ولم يُكتب عنه الكثير ورغم ذلك خلدت كلمات والدة الجرجار قصته عبر التاريخ
"مشهد تاريخي رهيب مهيب لم تتناوله المراجع التاريخية ولم يكتب عنه إلا ما ورد في كتاب "معركة الزلاج" لمحمد المرزوقي والجيلاني بالحاج يحيى (عن الشركة التونسية للتوزيع 1974) واللذيْن أشارا في إصدارهما إلى أنهما تحصلا على تفاصيل عملية الإعدام من "جريدة الدبيش بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 1912"، يقول المؤرخ الدكتور عادل بن يوسف لـ"الترا تونس".
ويضيف بن يوسف، في حديث مع "الترا تونس": "المقصلة جيء بها خصيصًا من السكة الحديدية بالجزائر لتنفيذ الحكم الصادر بالإعدام ضد المنوبي الجرجار والشاذلي القطاري اللذيْن اتهما بقتل عون القوة العامة الفرنسي فرانكي على إثر ما عرف بأحداث الجلاز ".
المؤرخ عادل بن يوسف لـ"الترا تونس": "جيء بمقصلة من السكة الحديدية بالجزائر خصيصًا لتنفيذ الحكم الصادر ضد المنوبي الجرجار والشاذلي القطاري اللذيْن اتهما بقتل عون القوة العامة الفرنسي فرانكي على إثر ما عرف بأحداث الجلاز"
ويتابع: "اندلعت الأحداث يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1911 رفضًا لقرار المستعمر الفرنسي تسجيل مقبرة الجلاز، وهي وقف إسلامي يدفن فيها المسلمون، وهو ما تم اعتباره تعديًا عليهم".
ويواصل محدث "الترا تونس": "قامت قوات الأمن بالإحاطة بالمقبرة بعد أن تجمهر التونسيون بمحيطها رفضًا للقرار ووقوفًا ضد تنفيذه واعتقلت عددًا منهم وهو ما أثار غضب الجماهير المحتشدة، فأطلقت القوات الاستعمارية النار على المواطنين العزّل وتساقط الشباب بين قتيل وجريح فانقضّت الحشود مستعملة الحجارة والعصي لضرب القوات الاستعمارية".
"تصاعدت الأحداث في باب عليوة وباب الفلة وسيدي البشير وغدر السكان الأجانب بالتونسيين الذين دخلوا الأزقة مطمئنين للاحتماء على اعتبار أنهم أهل وجيران، غير أنّ هؤلاء غدروا بهم واستعملوا الرصاص والخناجر من أسطحهم ونوافذ بيوتهم لضرب الشباب التونسيين"، وفق ما رواه المؤرخ عادل بن يوسف لـ"الترا تونس" ويتابع قائلًا: "اتسعت رقعة المواجهات بين كر وفر وسقط قتلى وجرحى من بينهم عون القوة العامة الفرنسي "البريقادي فرانكي" واعتقلت القوات الاستعمارية 72 تونسيًا، وبعد سلسلة من الجلسات امتدت ما يقارب السنة حكم على المنوبي الجرجار بالإعدام بعد اتهامه بقتل "فرانكي" رفقة الشاذلي القطاري".
المؤرخ عادل بن يوسف لـ"الترا تونس": " في أحداث الجلاز سنة 1911 سقط قتلى وجرحى من بينهم عون القوة العامة الفرنسي "البريقادي فرانكي" واعتقل المستعمر 72 تونسيًا، وبعد سلسلة من الجلسات امتدت ما يقارب السنة حكم على المنوبي الجرجار بالإعدام بعد اتهامه بقتل "فرانكي" رفقة الشاذلي القطاري"
والمنوبي الجرجار بلغ من العمر 31 عامًا لدى إعدامه، حسب الدكتور عادل بن يوسف، وهو من متساكني منطقة باب سويقة والملاسين. أما اسمه الحقيقي فهو علي الخضراوي ويقال إنّ أصله من منطقة تالة التابعة ولاية القصرين وينادى بـ"المنوبي" تيمّنًا بالسيدة المنوبية، أما "الجرجار" فهي كنيته لأنه كان من العملة الذين يحملون البضائع.
سلمت قوات الاحتلال الفرنسي جثة المنوبي الجرجار التي دُفنت في مقبرة سيدي عبد الرحمان، إلى والدته "بيّة" مفصولة الرأس دون أن تتحرك الإنسانية في نفس المحتلّ، ففقدت المسكينة عقلها من هول ما رأت، وقضت حياتها تائهة في شوارع ومقاهي العاصمة تسأل عن ابنها الجرجار هل عاد إلى المنزل أم لا.
المؤرخ عادل بن يوسف لـ"الترا تونس": سلمت قوات الاحتلال الفرنسي جثة المنوبي الجرجار إلى والدته "بيّة" مفصولة الرأس ففقدت المسكينة عقلها من هول ما رأت وقضت حياتها تائهة في شوارع ومقاهي العاصمة تسأل عن ابنها
وكشف المؤرخ عادل بن يوسف لـ"الترا تونس" أنّه ومنذ ذلك اليوم لم تُنصب مقصلة في تونس وأصبحت عمليات الإعدام تتم في السجون سرًا ولا تسلم الجثث الى أصحابها بل يدفنها المستعمر، وفقه.
رددت الأم المكلومة المفجوعة والموجوعة هذه الكلمات:
برّى وإيجا ما ترّد أخبار عالجرجار
يا عالم الأسرار صبري للّه
يا جماعة شوفو ما صار
القطاري معاه الجرجار
حصرنا الجلاز
كل واحد في قبرو جاز
عييت نمثّل في وشامك ياه
حطّو الرّمية فيك على الكرومة والعنقة
يا صافي يا حنين أحنا شفناك وأحنا صحنا
اللّي غدرنا فيك ولد الحمدي
واللّي جرحنا فيك يجرح قلبو
يامّه ضربوني يا حليلي يامّه ضربوني
يامّه ضربوني والضربة جاتني على القصّة
اه يا حليلي يامّه
خلّوني نبكي بالغصّة
اه لا إله إلّا اللّه
يامّه ضربوني والضربة جاتني على راسي
حليلي يامّه قدّاش نقاسي
يامّه ضربوني والضربة جاتني على ساقي
حليلي يامّه دمّي راح سواقي"
يقول الدكتور الباحث في التاريخ المعاصر عمر القريشي لـ"الترا تونس": "لولا تلك الكلمات النابعة من قلب أم موجوعة جنّت لفقدان ابنها لما حفظت الذاكرة المنوبي الجرار، فوالدته هي التي خلدت ذكرى ابنها الشهيد في التاريخ".
الباحث في التاريخ المعاصر عمر القريشي لـ"الترا تونس": الذاكرة الشعبية تناقلت الكلمات التي كانت ترددها والدة المنوبي الجرجار عن ابنها الشهيد فخلّدت قصته في تاريخ تونس وتحولت إلى أغنية متداولة وساهمت في بقاء اسمه حيًا
ويؤكد أنّ الذاكرة الشعبية التي تناقلت تلك الكلمات لتتحول بعد ذلك إلى أغنية رددها الفنانون التونسيون، ساهمت بدورها في بقاء اسمه حيًا، مبرزًا أنّ شهداء كثر نسيتهم الذاكرة ولم ينصفهم التاريخ رغم ما قدموه من تضحيات جسام في سبيل تحرير الوطن.
ويرى محدثنا أنّ معركة الجلاز وأحداث الترامواي لم تأخذ حظها ولم يكتب عنها ولم تؤرّخ، مستطردًا القول: "نحتاج فعلًا إلى إعادة النبش والبحث في هذه الأحداث وكتابتها".
ودعا الدكتور عمر القريشي عائلات الشهداء والمقاومين إلى السعي من أجل تخليد تاريخ أهاليهم وأجدادهم والاتصال بالمختصين ومدهم بكل الوثائق مهما كانت نوعيتها ومهما كانت بسيطة في نظرهم فهي مهمة جدًا في العمل البحثي التاريخي من أجل المحافظة على ذاكرة وطن، حسب رأيه.