18-سبتمبر-2024
المحكمة الإدارية

عدّ مراقبون أنّ عدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري ظهر كأنه رصاصة الرحمة على نزاهة العملية الانتخابية

 

سابقة قضائية وسياسية، وبما تحمله من مزيد المساس من سلامة المسار الانتخابي ونزاهته، هو رفض هيئة الانتخابات تنفيذ قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية بإرجاع ثلاثة مرشحين (منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدائمي) للسباق الرئاسي المزمع تنظيمه بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024. سعت هيئة الانتخابات لتصدير تبرير قانوني لرفض التنفيذ بين عدم توصّلها بنسخ الأحكام في الآجال القانونية، وتأكيد "ولايتها العامة" على الانتخابات بما يعني عمليًا تجاوز الرقابة القضائية، لتؤكد المحكمة الإدارية ونخبة أساتذة القانون الدستوري والإداري في الجامعة التونسية، في بيانات منفصلة، على لزوم خضوع هيئة الانتخابات لأحكام القضاء التزامًا بأحكام الدستور والقانون الانتخابي.

رفض هيئة الانتخابات تنفيذ الأحكام الإدارية، قد تدفع لإنتاج أزمة شرعية انتخابية في المستقبل، باعتبار أن عدم إعادة مرشحين للسباق الرئاسي يجعل نتائج الانتخابات موضع خلل أقله قوامًا على مبدأ أصولي مفاده أن "ما بني على باطل هو باطل"

المحكمة الإدارية بدورها وفي إطار قرار شرح لاحق تعلّق بالمرشح عبد اللطيف المكي، وآخر إثر طلب مساعدة في التنفيذ تعلّق بالمرشح منذر الزنايدي، أكدت أن قراراتها الصادرة تعني لزوم إدراج المرشحين الطاعنين في القائمة النهائية للمرشحين بما قد يشمل إمكانية مراجعة الرزنامة الانتخابية إن لزم الأمر. قراران اعتبرهما البعض دعوة أخيرة لهيئة الانتخابات لإنقاذ الموقف، ولكن يظهر أن الهيئة لازالت حاسمة في المضيّ للأمام، مع استذكار واقع التضييقات على بعض المرشحين المقبولين من جهتها وتحديدًا العياشي الزمالي الصادرة ضده خمس بطاقات إيداع حتى الساعة.

هي أزمة متصاعدة بين نزاع ظاهره قانوني محض، وعمقه سياسي، باعتبار أن طبيعة النزاع الانتخابي يرتبط بحقوق سياسية كالحق في الترشح. وهي أزمة تزيد من طرح الشكوك حول نزاهة المسار الانتخابي، ولكن أيضًا، وبالخصوص، قد تدفع لإنتاج أزمة شرعية انتخابية في المستقبل، باعتبار أن عدم تنفيذ أحكام القضاء بإعادة مرشحين للسباق الرئاسي يجعل نتائج الانتخابات موضع خلل أقله قوامًا على مبدأ أصولي مفاده أن "ما بني على باطل هو باطل".

  • عدم تنفيذ أحكام "الإدارية" وهشاشة دولة القانون

يعدّ إنفاذ الأحكام القضائية عنصرًا جوهريًا في تقييم سيادة القانون باعتبار ذلك بدوره مؤشرًا في قياس دولة القانون. ويكتسي إنفاذ الأحكام الصادرة في المادة الانتخابية وبالخصوص في مادة نزاعات الترشح خصوصية من زاوية ارتباطها بضمان ممارسة حق كل فرد في الترشح أمام الجمهور العام، وحق المشاركة في الحياة السياسية، دون ارتباطها بقيمة الشرعية ومبدأ التداول على السلطة، وهي من صميم النظام الديمقراطي.

السابقة التي أحدثتها هيئة الانتخابات مثّلت قطيعة عن الممارسة المؤسساتية القائمة على احترام أحكام القضاء بوجه عام وفي نزاعات الترشح بوجه خاص

يؤدي رفض تنفيذ قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية، وهي أعلى هيئة حكمية تضمّ نخبة القضاة الإداريين في تونس، وقراراتها "باتّة وغير قابلة لأي وجه من أوجه الطعن ولو بالتعقيب" و"تنفّذ على المسودة" بصريح القانون الانتخابي، إلى انزياح عن مبدأ نفاذ الأحكام القضائية. هذه السابقة التي أحدثتها هيئة الانتخابات مثّلت قطيعة عن الممارسة المؤسساتية القائمة على احترام أحكام القضاء بوجه عام وفي نزاعات الترشح بوجه خاص، باعتبار أن دونها هو ليس خروجًا فقط عن قيم دولة القانون، ولكن أيضًا استهدافًا لسلامة المسار الانتخابي برمّته. وإن ما كانت الانتخابات تجري في سياق استهداف السلطة السياسية للحريات العامة كحرية التعبير والتنظم والإعلام، وتراجع مقومات استقلالية القضاء، فإن عدم تنفيذ أحكام القضاء الإداري ظهر كأنه رصاصة الرحمة على نزاهة العملية الانتخابية وفق مراقبين.

وفي هذا السياق، نصّ دستور 2014 أنه "يحجّر الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية أو تعطيل تنفيذها دون موجب قانوني"، وهو تنصيص استعادته مسوّدة مشروع دستور الصادق بلعيد عام 2022، ولكن الدستور الذي عرضه الرئيس قيس سعيّد على الاستفتاء في العام نفسه، حذف هذا التنصيص. إلغاء ظهر غير مبرّر في البداية لتعلّقه بحماية دستورية للزوم تنفيذ أحكام القضاء، ولكن ربما، وفي سياق رفض هيئة الانتخابات تنفيذ أحكام "الإدارية"، فهو لم يكن بريئًا في نهاية المطاف.

  • عدم تنفيذ الأحكام جريمة؟

عدم الانصياع لأحكام القضاء هو ممّا قابل للتكييف كمخالفة على معنى الفصل 315 من المجلة الجزائية الذي يعاقب "الأشخاص الذين لا يمتثلون لما أمرت به القوانين والقرارات الصّادرة ممّن له النّظر"، وسبق وإن اعتبرت محكمة التعقيب في قرار سابق أن مفهوم القرارات يشمل القرارات الإدارية والعدلية على وجه السواء. دون أن الفصل 2 من القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المؤرخ في 07 مارس/آذار 2017 المتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين يعتبر أن تعريف الفساد يشمل "تعطيل قرارات السلطة القضائية". وفي هذا الإطار، اختار المحامي أحمد صواب، وهو الرئيس السابق لاتحاد القضاة الإداريين، والصحفي زياد الهاني، تقديم شكاية جزائية ضد جميع أعضاء هيئة الانتخابات لعدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية على أساس الفصل 315 من المجلة الجزائية وقانون الإبلاغ عن الفساد.

المسؤولية الجزائية في عدم تنفيذ أحكام القضاء ترافقها مسؤولية سياسية باعتبار أن مآل عدم تنفيذ قرارات إرجاع ثلاثة مرشحين للسباق الرئاسي، قد تكون مكلفة على أكثر من صعيد

وكان لهيئة الدفاع عن القضاة المعفيين قدمت بدورها، منذ جانفي/يناير 2023، عشرات الشكايات الجزائية وفق السند القانوني نفسه، ضد وزيرة العدل على خلفية عدم تنفيذها قرارات رئيس المحكمة الإدارية بتوقيف تنفيذ قرار الإعفاء بحق 47 قاضيًا، ممن شملهم الأمر الرئاسي يوم 1 جوان/يونيو 2022. وهي شكايات لازالت لم تتخذ بعد النيابة العمومية أي قرار بشأنها، بما يؤكد هشاشة مبدأ المساواة أمام القانون.

وإنّ المسؤولية الجزائية في عدم تنفيذ أحكام القضاء ترافقها واقعًا مسؤولية سياسية باعتبار أن مآل عدم تنفيذ قرارات إرجاع ثلاثة مرشحين للسباق الرئاسي قد تكون مكلفة من زاوية نزاهة الانتخابات من جهة وشرعية قرارات الهيئة الانتخابية من جهة أخرى.

  • أزمة شرعية في الآفاق؟

يؤدي عدم تنفيذ أحكام المحكمة لآثار متتابعة ككرة ثلج تتفاقم، ذلك أن تقييد قائمة المرشحين النهائيين خارج إطار الرقابة القضائية التي أعادت ثلاثة مرشحين أي نفس عدد المرشحين الذي قبلتهم هيئة الانتخابات في مرحلة أولى، يعزز واقعًا ضعف نزاهة العملية الانتخابية. ولكن الأخطر هو استتباعات ذلك من منطق مؤسساتي محض قوامه علوية الرقابة القضائية على أداء الهيئة الإدارية، وهو ما سيؤدي، بالنسبة للفاعلين السياسيين أصحاب الحق بحكم القضاء ولكن مسلوبي إنفاذ الحق بحكم الهيئة المشرفة على الانتخابات، إلى إشاعة عدم الاعتراف بهذه الهيئة باعتبارها "مارقة" على القانون، بحسب تقديرهم. ثم وفي صورة قدرة المرشح الحالي على تجديد الولاية الرئاسية، فإن الأزمة قد تتحوّل إلى أزمة شرعية انتخابية باعتبار أن النتيجة الانتخابية تتعارض، بالنسبة للمعارضة، مع أحكام القضاء الواجب إنفاذها.

من المنتظر أن تنظر المحكمة الإدارية لاحقًا في نزاعات النتائج الانتخابية، بما سيجعلها أمام امتحان جديد.. وإبطال النتائج برمتها ليس ببعيد بالمنطق القانوني المحض

وفي هذا السياق، فإن المحكمة الإدارية من المنتظر أن تنظر لاحقًا في نزاعات النتائج الانتخابية، ومن المنتظر كذلك أن يقدم المرشحون المقبولون نهائيًا بقرارات أعلى هيئة حكمية صلبها طعونهم، بما سيجعل المحكمة أمام امتحان جديد حول مدى قابليتهم في الطعن رغم عدم ورود أسمائهم في القائمة النهائية المعتمدة واقعًا من طرف هيئة الانتخابات. وذلك دون عن امتحان الدفوعات الأصلية. فإبطال النتائج برمتها ليس ببعيد بالمنطق القانوني المحض، مع التذكير بأن المحكمة سبق وتعهدت بثلاث دعاوى في مادة تجاوز السلطة ضد هيئة الانتخابات من طرف المرشحين، المقبولين قضائيًا المرفوضين إداريًا. وبذلك تتعدّد الاحتمالات مع أزمة سابقة من نوعها في التاريخ الانتخابي للبلاد، وهي تفتح الباب على مآلات متعددة أقلها ما تتضمنه من مخاطر على قيم دولة القانون والسلم الأهلية.