22-أغسطس-2024
هندسة الفوضى.. قراءة في الأدوات التقنية وراء صعود الشعبوية في العالم

قراءة في كتاب "مهندسو الفوضى" للأستاذ بجامعة باريس للعلوم السياسي، الإيطالي جيليانو دامبولي

 

"لا بدّ أن الأشرار اكتشفوا شيئًا لا يزال الطيّبون يجهلونه"، بهذه العبارة للمخرج السينمائي وودي ألان Woody Allen افتتح الأستاذ بجامعة باريس للعلوم السياسي، الإيطالي جيليانو دامبولي Guiliano da Empoli، كتابه بعنوان مهندسو الفوضى، عن دار غاليمار Gallimard طبعة باريس 2019، في 227 صفحة حاول عبرها الكاتب تفكيك المكينة التقنية الخوارزمية التي تقف وراء صعود حركات شعبوية من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في أكثر من نظام في العالم انطلاقًا من الولايات المتحدة وإيطاليا مرورًا بإسبانيا والمجر وصولًا إلى الهند والبرازيل.

حاول الأستاذ بجامعة باريس للعلوم السياسي، الإيطالي جيليانو دامبولي، في كتابه "مهندسو الفوضى"، تفكيك المكينة التقنية الخوارزمية التي تقف وراء صعود حركات شعبوية في أكثر من نظام في العالم

يفتتح الكاتب أطروحته بالبحث وراء أسباب صعود "حركة 5 نجوم Movimento 5 Stelle "M5S في إيطاليا، التي يعتبرها بمثابة وادي السيليكون للشعبوية (صفحة 29). انطلقت الحركة كمنصة رقمية ساخرة و"ناقدة" للسياسات الإيطالية عمومًا والمؤسسات السياسية والنخب الإيطالية بشكل خاص ودون استثناء، في إطار محاربة النظام السائد أو الـ Establishment. ليس الأمر عشوائيًا، إذ يتعرّض الكاتب (صحفة 43) إلى اللقاء الذي جمع أول مؤسسين للحركة، جيانروبارتو كازاليجيو وبيب غريللو، في مدينة ليفورن الإيطالية أوائل الألفينات، وكيف أقنع الأول، الخبير في التسويق الرقمي جيانروبرتو، الممثل الكوميدي الإيطالي بيب غريللو، بأهمية الإنترنت وما تتيحه من نفاذ مباشر إلى الناس، في إطار ما سيعرف لاحقًا بالديموقراطية الرقمية. 

"جمع هذا اللقاء بين وحش المسرح، قوي لكن لا يعرف مدى تأثير خطابه الغاضب، وبين النابغة أو المهووس صاحب الرؤية والتائه في العالم الواقعي. هذه كانت الوصفة الأسطورية التي كانت وراء ميلاد الحركة: الاستعراض، السخرية، ثقافة الإنترنت والثورة" (صفحة 44). تم إنشاء أول منصة لحركة خمسة نجوم سنوات في جانفي/يناير 2005، Beppegrillo.it، وفي غضون أسابيع تحوَلت إلى المنصة الأكثر زيارة في إيطاليا. يروي الكاتب كيف يجتمع المشرفون على الصفحة كل صباح للنقاش حول أكثر عشرة تعليقات أو مواضيع أثارت تفاعلًا على المنصة، ليعيد بيب غريللو العمل عليها وإنتاج محتوى حولها وإعادة النشر بعد الظهر، ما يعطي للزوار إيحاءً بأن كلامهم وتعليقاتهم تلقى اهتمام المشرف وهو الفنان الكوميدي، ولا يعدو حسب جيليانو أن يكون مجرد واجهة شعبية محبوبة لمؤسسة كازاليجيو، التي تشرف على الموقع ومحتواه. 

يتعرَض مؤلف كتاب "مهندسو الفوضى" إلى حملة دونالد ترامب في انتخابات 2016 ومهندسها ستيف بانون وقصة العملية الشهيرة التي لعبتها شركة Cambridge Analytica في التأثير النتائج من خلال لعبة خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي

أوَل تمظهر واقعي حقيقي للحركة كان يوم 8 سبتمبر/أيلول 2007، في استعارة رمزية لتاريخية يوم 8 سبتمبر/أيلول 1943، تاريخ سقوط الفاشية في إيطاليا، حيث دعت الحركة للاحتجاج في ذلك اليوم تحت شعار V-Day أو Vaffanculo Day، يوم تجمع أكثر من مليوني إيطالي في حوالي 220 مدينة إيطالية، مطالبين بـ"برلمان نظيف". في غضون سنوات، ستتحوَل الحركة إلى أكبر تنظيم سياسي في إيطاليا، وستتصدر المشهد السياسي تحديدًا بعد 2018، وستحذو حذوها حركات مماثلة على غرار سوريزا في اليونان، بوديموس في إسبانيا، ADP في ألمانيا، بل يتعرَض الكاتب إلى اعتماد نفس البراديغم في الحركات الاحتجاجية على غرار حركات السترات الصفراء في فرنسا التي انطلقت بمجموعة فيسبوكية احتجاجية على ارتفاع أسعار البنزين، لتتحول لاحقًا إلى أحد أكبر الانتفاضات الاحتجاجية الشعبية في تاريخ فرنسا المعاصر، ذكرت الفرنسيين في ماي/أيار 1968 وانتفاضات 1988.

على هذا النحو وبتقنيات مماثلة، يتعرَض الكاتب لحملة دونالد ترامب في انتخابات 2016 ومهندسها ستيف بانون وقصة العملية الشهيرة التي لعبتها شركة Cambridge Analytica في التأثير النتائج من خلال لعبة خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي. لكن قبل ذلك، يتعرَض الكاتب إلى جذور الحركة الترامبية، غداة الإعلان عن فوز باراك أوباما كأول رئيس من أصل أفرو-أمريكي للولايات المتحدة الأميركية، عندما انطلق ترامب في التشكيك في مكان ولادة أوباما، ما استفز مشاعر الأميركيين البيض المعادين للمهاجرين، ما أثار جدلًا حول الموضوع، غذّاه مواصلة ترامب في حملة التشكيك في جذور ونشأة أوباما، ما دفع بالبيت الأبيض إلى نشر شهادة ميلاد باراك أوباما سنة 2010. واصل ترامب في كل مرة حملته الشعبوية على مدار سنوات قبل حتى خوض السباق الانتخابي في 2016، مستغلًا الخلطة السحرية: الغضب، نظرية المؤامرة والأخبار الزائفة (ص. 104-105)، إلى حدود اقتحام متظاهرين لمبنى الكابيتول في واشنطن العاصمة في جانفي/يناير 2021، أيام قليلة قبل مغادرته البيت الأبيض. 

يتطرَق الكاتب، إلى فكرة مهمة جدًا في استثارة وتوجيه الغضب وتحويله إلى تيار سياسي جارف، الغضب الذي يحسه متوسط الناخب، الذي عادة ما يكون فردًا من الطبقة الوسطى أو الدنيا يعيش على هامش المجتمع ويعاني ضغطًا اقتصاديًا واجتماعيًا في نمط عيش متسارع

بالإضافة إلى بانون، هناك مهندس فوضى ثانٍ كان له أثر فيما بلغه اليمين الأميركي بتمظهره الشعبوي الراديكالي الحالي، وهو "أندرو برايتبارت"، الذي كان أحد مؤسسي المكينة الإعلامية الهافينغتون بوست. من خلال طرح فكرة "حرب العصابات الرقمية" لمحاربة الـEstablishment، أو تمظهره المادي المتمثل في "المركب الديموقراطي الإعلامي"، في إشارة للتحالف بين المؤسسات الإعلامية الأميركية والحزب الديموقراطي (ص. 108). يتطرَق الكاتب، جيليانو دامبولي، إلى فكرة مهمة جدًا في استثارة وتوجيه الغضب وتحويله إلى تيار سياسي جارف، الغضب الذي يحسه متوسط الناخب، الذي عادة ما يكون فردًا محليًا بملامح فلكلورية من الطبقة الوسطى أو الدنيا أو الفقيرة العليا يعيش على هامش المجتمع ويعاني ضغطًا اقتصاديًا واجتماعيًا في نمط عيش متسارع، تجاه المؤسسات السياسية والمالية وكل من يمثلها، أساسًا أولئك الحاصلين على شهادات علمية "مرموقة"، يشغلون مناصب عليا مؤثرة، يظهرون بربطات العنق على طريقة كلينتون أو بتيشارتات زوكربرغ، يتكلمون كلامًا منمقًا تضبط إيقاعه "الصوابية السياسية". 

هذه الأقلية المحظوظة التي كانت في الماضي دليل نجاح ومحفزًا على العمل والمثابرة، صارت اليوم في نظر أغلبية المشاعر الحزينة في شكل "زمرة" محظوظة يخدم بعضها بعض من خلال شبكة علاقات موسعة قادرة على التزييف، التضليل وخاصة النفاق والمعايير النخبوية المزدوجة، لتحقيق جملة من المصالح والفوائد، تحميها شبكات مختلفة من إعلاميين، مثقفين وموظفي مؤسسات مالية، تجمعهم بهم مصالح مشتركة، في شكل يوحي بما ترسخ في الذاكرة الشعبية على مدى سنوات حول "المحفل الماسوني". "إن كانت الشيوعية بالنسبة للينين هي السوفيات والكهرباء، فالشعبوية بالنسبة لمهندسي الفوضى هي وليدة اتحاد الغضب والخوارزميات" (ص. 99).

تمثّل معاداة الآخر، سواء كان مهاجرًا، أجنبيًا أو أقلية ما، بالإضافة إلى خطاب الكراهية والخوف والغضب والخطاب السيادوي، وقود الحملات الرقمية التي تغذي الخزان الشعبي للحكام الشعبويين الجدد

"الهجرة الاقتصادية.. هي شيء سيء بالنسبة لأوروبا، ولم تجلب غير الشرور والأخطار للشعوب الأوروبية. مادمت وحكومتي في السلطة، فلن نسمح للمجر أن تصبح أرضًا للمهاجرين بناء على مخططات بوركسال. لا نريد أي أقلية أو مكوَنًا ثقافيًا مخالفًا لما هو مجريّ وأوروبيّ نريد أن تبقى المجر للمجريين". هكذا نقل الكاتب تصريح فيكتور أوربان الوزير الأول المجري من باريس على هامش المظاهرة التي دعا لها الرئيس هولاند يوم 11 جانفي/يناير 2015 عقب هجمات شارلي هيبدو الثانية (صفحة 134). 

على مذهب كارل شميت، يرى كل من فيكتور أوربان ومهندس حملته الانتخابية آرثير فرنكلشتاين أن السياسة تقوم أولًا على تحديد عدو، ومن ثم التحشيد ضده. المثير في المثال المجري أن الطوفان الشعبوي في شكله الحديث المدجّج بالخوارزميات والتلاعب بالناخبين عبر حقن الغضب وتأجيج مشاعر الضغينة، قد انطلق مبكرًا قبل غيره من البلاد الأوروبية، وفي بلد انتعش أساسًا من سياسات الاتحاد الأوروبي على مدى سنوات، منذ الثورات الملونة 1989.

عبر استشارة وطنية موسعة، قام فرنكلشتاين مع أعضاء مكتبه بإرسال سؤال استفتائي تلقاه أكثر من 8 مليون مجري: "هل ترى أن السياسات الهجرية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي ساهمت في تنامي ظاهرة الإرهاب؟". في بلد لا يتجاوز فيه المهاجرين الـ 1.4%، وتحت شعار حرب التحرير الوطني، حوَل أوربان ومهندسو سياساته الشعبوية مسألة الهجرة إلى القضية رقم واحد في البلاد، ما سيترجم لاحقًا على أرض الواقع في الهجمات على المهاجرين التي عرفتها المجر بين 2015 و2016.

طرق عمل خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات التي تقوم على اللايكات، تسهّل نفاذ خطاب الحكام الشعبويين الجدد إلى الأغلبية الصامتة، التي لا تعنيها السياسة والخطب الطويلة، بل تبحث عن سندويشات سياسوية جاهزة

مع تزايد الأزمات الاقتصاد والركود الذي يشهده العالم منذ أزمة 2008 وغذّته أزمة فيروس كورونا، تمثّل معاداة الآخر، سواء كان مهاجرًا، أجنبيًا أو أقلية ما، بالإضافة إلى خطاب الكراهية والخوف والغضب وأخيرًا الخطاب السيادوي، وقود الحملات الرقمية التي تغذي الخزان الشعبي للحكام الشعبويين الجدد. بل إن طرق عمل خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات التي تقوم على اللايكات، تسهّل نفاذ خطاب هؤلاء إلى الأغلبية الصامتة، التي لا تعنيها السياسة والخطب الطويلة، بل تبحث عن سندويشات سياسوية جاهزة، فتكون بذلك هدف هذه الخوارزميات وبالأخص تلك المدفوعة الأجر، أين تقدم هذه المواقع خدمات أكثر دقة حول الفئة المستهدفة كالعمر، التوزع الجغرافي، المستوى التعليمي والمزاج الاجتماعي. "يقع تكرار نفس الشيء تقريبًا وباختلاف طفيف. في كل المدن الصناعية، يركّز مهندسو الفوضى على العلاقة مع الآخر، سواء كان لاجئًا، مهاجرًا أو أقليًا اثنيًا، لتحويلها إلى وقود للشعبوية" (ص. 153).

إثر كل طفرة سياسية، أو تحوّل سياسي ما، ينطلق عادة خبراء العلوم السياسية والمحللون ومراكز البحث في سرد نظريات مختلفة قد يكون وراء فوز مرشح ما ظروف اقتصادية أو شيء ما كاريزماتي ساحر يتعلق بشخصيته، وللمؤامراتية من هذه النظريات النصيب: كأن تكون دولة ما وراء فوز حزب في انتخابات بلد آخر. وهو ما حدث فعلًا في حالة دونالد ترامب في أميركا، فقد نسب كثيرون فوز ترامب إلى تلاعب روسي بأصوات الناخبين، وتوجيههم باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي، أساسًا فيسبوك، عن طريق كامبريدج أناليتاكا. نفس الوسائل تقريبًا استعملها ويستعملها طيف واسع من الشعبويون الجدد في أطراف العالم: مودي في الهند، بوليسانارو في البرازيل.. وهو ما يشدّد عليه الكاتب في الجزء قبل الأخير من كتابه حيث يرى أن الخوارزميات والبيانات الضخمة Big data صارت محدِدًا في العملية السياسية. 

يعتبر كتاب "مهندسو الفوضى" أن الخوارزميات والبيانات الضخمة Big data صارت محدِدًا في العملية السياسية، وبالتالي صارت السياسة، أقرب إلى علم رياضي له جملة من المعادلات والمتغيرات والثوابت، ما يمكن من استشراف نتائج عملية سياسية ما مسبقًا

تتيح وسائل الاتصال باقة واسعة تسمح بتحليل وقياس مزاج الانتخابات من خلال عدد اللايكات، الانطباعات، التعليقات ومدى التفاعل، كلها صارت أدوات تحليل وبالتالي صارت السياسة، وفق الكاتب، أقرب إلى علم رياضي له جملة من المعادلات والمتغيرات والثوابت، ما يمكن من استشراف نتائج عملية سياسية ما مسبقًا.. "في هذا العالم الجديد، صارت السياسة عملية رياضية. لم يعد الأمر يحتاج إلى جمع أكبر عدد من الناخبين حول حول مشروع مشترك، بل على العكس صارت تأجيجًا لمشاعر مختلفة لضم أكبر عدد ممكن المجموعات الحاملة لتطلعات مختلفة" (صفحة 175).

في الختام، يرى الكاتب أن الثورة الترامبية، السترات الصفراء أو حركة 5 نجوم، تتيح ضربًا من تجربة جديدة منعشة ومفعمة بالحياة تغري جمهور المستهلكين اللاهثين وراء الترند. "هنا خوارزميات مهندسي الفوضى تعطي للفرد انطباعًا أنه داخل حركة تاريخية وأنه صار محددًا جديدًا في عملية التاريخ، وأنه سيندم إن لم يشارك، ما يعبر عنه الخوف من تجاوز الأحداث Fear of missing out" (صفحة 189). 

طوارىء الهجرة أو الهجرة الاقتصادية، الفساد، الإرهاب، الديون، كلها مشاريع حملات انتخابية تؤجج مشاعر أطياف واسعة من الأغلبية الصامتة، أغلبية كرهت الكلام المنمق للسياسيين والصنصرة الديموقراطية، تبحث عمّن يسمّي الأسماء كما تسميها هي لا كما يسميها "كهنة معبد الصوابية السياسية"، أضف إلى ذلك الدوغما-التقدمية الأورتودكسية التي صارت هي الأخرى مركزًا للتندر من قبل الشعبويون الجدد، ومادة دسمة لهندسة الفوضى.