16-أغسطس-2024
رئاسة الحكومة التونسية

تتجلّى صورة الحكومة ذات الحضور الباهت مقابل تغوّل صورة رئاسة الدولة.. صورة تحيل تونسيًا لمشهد حكومات بن علي قبل الثورة (انيس ميلي/ أ.ف.ب)

 

 

المطلّع على قائمة رؤساء الحكومات المعيّنين من رئيس الدولة قيس سعيّد يعاين تشاركهم في صفات في مقدمّتها عدم اختيارهم من المجتمع السياسي أو المدني على نحو دائمًا ما يجعلهم مجهولين لدى التونسيين إلا منذ ساعة تعيينهم ليبدأ نبش الصحفيين والمتسيّسين لمعرفة مسيرتهم المهنية على الأقل. 

وهي مسيرة جامعة لهم، وهذا مشترك ثان، باعتبارهم من أبناء الإدارة العمومية، إذ أنهم شغلوا مناصب مديرين عامين في وزارات أو رؤساء مؤسسات عمومية دون سابقية توليهم منصبًا حكوميًا. فعدا رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ الذي عيّن في إطار تداول مقترحات حزبية في أول حكومة مشكلة بعد انتخابات 2019، جميع رؤساء الحكومات اللاحقين، سواءً في إطار دستور 2014 أو دستور الرئيس 2022، وهم هشام المشيشي، ونجلاء بودن، وأحمد الحشاني وكمال المدوري تواليًا، يشتركون فيما سبق بسطه.

تعيين رؤساء حكومات بلا ماضٍ سياسي ولا تاريخ معلوم في الاهتمام بالشأن العام، بالتوازي مع محدودية قدراتهم التواصلية، يؤكد أنّ رئيس الدولة يستهدف دائمًا تكليف شخصية لا تملك مقومات الظهور كمزاحمة له داخل السلطة

خيار رئيس الدولة في تكليف مسؤولين من الإدارة العمومية ومن غير المعلومين بنشاطهم السياسي، وبما يفترض شرط الاستقلالية الحزبية أو طلب درجة محدودة من التسيّس إن لم يكن انعدامها، يأتي، بدرجة أولى، في إطار قطيعة رئيس الدولة مع الفاعلين السياسيين خاصة من الطبقة الحزبية النشطة. هذا ما تأكد منذ اختياره تكليف هشام المشيشي، وزير الداخلية المستقل حينها، برئاسة الحكومة في صيف 2020 رغم أن دستور 2014، وفي إطار النظام شبه البرلماني، كان يفترض تكليف شخصية ذات تعبيرة سياسية باعتبار ساكن القصبة هو الذي يحدد السياسات العمومية للحكومة تحت رقابة البرلمان وبتنسيق مع رئيس الدولة في مجالات محددة.

ثم تأكد جليًا الخيار الرئاسي، بعد 25 جويلية/يوليو 2021 وبالخصوص مع وضع الدستور الجديد، بتركيز نظام رئاسي يتولى فيه رئيس الدولة تحديد السياسات والتوجهات بمساعدة حكومة يقودها رئيس حكومة على نحو جعله واقعًا في صورة الوزير الأول، وهي التسمية المستعملة في الأنظمة الرئاسية المقارنة. 

بغضّ النظر عن المسؤولية السياسية لرئيس الدولة باعتباره المسؤول التنفيذي الأول على الحكومة وسياساتها، فإن السؤال حول أداء المعيّنين كان جديًا خاصة بالنظر لعدم سابقية تجربتهم في العمل الحكومي، على غرار بودن والحشاني

وتعيين رؤساء حكومات بلا ماضٍ سياسي ولا تاريخ معلوم في الاهتمام بالشأن العام، بالتوازي مع محدودية قدراتهم التواصلية خاصة على النحو الذي أثبته كل من المشيشي وبودن والحشاني في انتظار معاينة أداء المدوري، يؤكد أنّ رئيس الدولة يستهدف دائمًا تكليف شخصية لا تملك مقومات الظهور كمزاحمة له داخل السلطة أو حتى أمام العموم.  إذ كان ملاحظًا، بشكل واضح بالخصوص، معاينة ندرة الحضور الإعلامي لكل من بودن والحشاني، مقابل طغيان صورة رئيس الدولة الذي يعطي التعليمات لرئيس الحكومة بقصر قرطاج بين الفينة والأخرى.

لكنّ السؤال الذي لطالما طرحه المتابعون للشأن العام أيضًا هو الكفاءة الإدارية لرؤساء الحكومات المعينين، على نحو ما تبيّن مع كلّ من المشيشي الذي فشل في إدارة أزمة وباء كوفيد 19 قبل 25 جويلية/يوليو 2021، دونًا عن فشل كل من بودن والحشاني في تأمين مؤشرات جدية للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

لا تزال دواعي التعيين والإقالة لكل رئيس حكومة مجهولة، على نحو يعزّز تراجع شفافية السلطة ويضعف الرقابة السياسية والشعبية على أعمالها، إذ بات خبر إقالة رئيس حكومة وتعيين آخر من قبيل عدم الحدث

إذ بغضّ النظر عن المسؤولية السياسية لرئيس الدولة باعتباره المسؤول التنفيذي الأول على الحكومة وسياساتها، فإن السؤال حول أداء المعيّنين كان جديًا خاصة بالنظر لعدم سابقية تجربتهم في العمل الحكومي، على غرار بودن والحشاني، اللذيْن لم يسبق لهما تولي خطة كاتب دولة أو وزير أو مستشار حكومي قبل توليهم مسؤولية رئاسة الحكومة. كان السؤال مطروحًا بالخصوص مع الحشاني باعتباره كان مديرًا للموارد البشرية في البنك المركزي، ولم تكن سيرته المهنية في الإدارة العمومية مثيرة للانتباه بشكل يجعله يدخل القصبة من أعلى مواقعها.

وفي هذا الصدد، لا تزال دواعي التعيين والإقالة لكل رئيس حكومة مجهولة، على نحو يعزّز تراجع شفافية السلطة ويضعف الرقابة السياسية والشعبية على أعمالها. إذ بات خبر إقالة رئيس حكومة وتعيين آخر من قبيل عدم الحدث ليس فقط بالنظر لتراجع مركزية الموقع في الهيكلية المؤسساتية الجديدة للسلطة السياسية، ولكن أيضًا باعتبار أن الأمر يتعلق بتغيير على مستوى رئاسة الحكومة دون تغيير للحكومة نفسها. إذ لا يكلف رئيس الدولة رئيس الحكومة الجديد بتكوين حكومة، بل يكلفه برئاستها مع الفريق السابق، مع تواصل القيام بإقالات وتعيينات وزارية بقرار رئاسي بين الفينة والأخرى، دون أي معاينة لأي دور لرئيس الحكومة في أي إقالة أو تعيين.

تظل التساؤلات مشروعة أولًا من جهة كفاءة رؤساء الحكومات المعينين، وثانيًا من جهة الضعف الفادح في أدائهم الاتصالي على نحو يبيّن استئثار رئيس الدولة بالخطاب الاتصالي للسلطة.. هكذا تتجلّى صورة الحكومة ذات الحضور الباهت مقابل تغوّل صورة رئاسة الدولة

إجمالًا، إن تعيين رؤساء حكومة من الخطط الإدارية العليا يعكس خيارًا في تكوين حكومات ذات صبغة إدارية بدرجة أولى يغيب عنها الطابع السياسي الذي يستأثر به رئيس الدولة لوحده، إذ أن جميع الوزراء أيضًا ليسوا من ذوي النشيطين في المشهد السياسي. وإنّ خيار تكوين حكومات ذات طابع إداري محض يفسّر بذلك طبيعة رؤساء الحكومات المعيّنين. غير أنه، وضمن هذا المعيار وبقطع النظر عن قابلية مساءلته بوصفه خيارًا سياسيًا، تظل التساؤلات مشروعة أولًا من جهة كفاءة رؤساء الحكومات المعينين باعتبار أنّ مسيرتهم الإدارية السابقة وحصاد مرورهم بالقصبة لاحقًا تبيّن محدودية أدائهم، وثانيًا من جهة الضعف الفادح في أدائهم الاتصالي على نحو يبيّن استئثار رئيس الدولة بالخطاب الاتصالي للسلطة. 

هكذا تتجلّى صورة الحكومة ذات الحضور الباهت مقابل تغوّل صورة رئاسة الدولة. صورة تحيل تونسيًا لمشهد حكومات بن علي قبل الثورة.