أنهى مجلس نواب الشعب، وهو أول برلمان مكوّن بمقتضى دستور 2022، نهاية جويلية/يوليو 2023 دورته النيابية الأولى التي لم تدم إلا أربعة أشهر ونصف باعتبار انعقاد أول جلسة عامة منتصف مارس/آذار المنقضي إثر انتخابات تشريعية شهدت عزوفًا شعبيًا كبيرًا بتسجيل نسبة مشاركة في حدود 11%، وهي أقل نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات بتونس.
ظلت تحوم الشكوك حول فاعلية البرلمان الجديد في تونس في صياغة القرار السياسي في ظل تهميش "الوظيفة التشريعية" في دستور 2022 لحساب "الوظيفة التنفيذية" وفي نظام سياسي رئاسي يخلّ بمبدأ التوازن بين السلطات
انطلق بذلك عمل البرلمان بمشروعية شعبية محدودة في سياق أزمة سياسية لم تزدها الانتخابات التشريعية إلا تصعيدًا، خاصة بعد مقاطعة الأحزاب الرئيسية الفاعلة في البلاد.
وظلت تحوم الشكوك حول فاعلية البرلمان الجديد في صياغة القرار السياسي من جانبين: أولًا باعتبار تكوين البرلمان من نواب صعدوا بنظام الاقتراع على الأفراد جلّهم من غير المتحزّبين ولا من ذوي الإشعاع الوطني، وثانيًا في ظل تهميش "الوظيفة التشريعية" في دستور 2022 لحساب "الوظيفة التنفيذية" في نظام سياسي رئاسي يخلّ بمبدأ التوازن بين السلطات بما جعله يوصف بالرئاسوي.
- علاقة متوترة مع الإعلام.. برلمان أم "غرفة مظلمة"؟
بدأت أولى فصول العلاقة المتوترة بين البرلمان والإعلام منذ عقد الجلسة العامة الافتتاحية منتصف شهر مارس/آذار 2023 بمنع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية من تغطية أشغال الجلسة عدا وسيلتين إعلاميتين حكومتين. وهو القرار الذي دافع عنه نوّاب بتعلة "تجنّب الفوضى" و"تشويه صورة المجلس" فيما تفصّى من مسؤوليته نواب آخرين. أثار القرار مخاوف من تقييد حق الصحفيين في تغطية أعمال البرلمان كما جرت العادة مع المجالس النيابية المحدثة بعد الثورة.
بدأت أولى فصول العلاقة المتوترة بين البرلمان الجديد والإعلام منذ منع تغطية الجلسة الافتتاحية ثم تواصل ذلك مع منع تغطية عمل لجانه إضافة إلى جلسات أخرى وسياسة انتقائية في اختيار المؤسسات الإعلامية المسموح لها بالتغطية
لكن تبيّن لاحقًا التوجه نحو تقييد نفاذ الإعلام لتغطية أعمال البرلمان بإصدار رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة، في شهر أفريل/نيسان 2023، قرارًا منع بمقتضاه وسائل الإعلام من تغطية الجلسة العامة المخصصة للمصادقة على النظام الداخلي مع الاقتصار على الإعلام الحكومي والبث على منصة "يوتيوب" فقط. وهو ما واعتبرته نقابة الصحفيين خرقًا لحرية الإعلام وضربًا للحق في النفاذ إلى المعلومة ومبادئ الشفافية والرقابة.
مسلسل تقييد حرية الإعلام استمرّت حلقاته بإقرار مكتب المجلس النيابي، في بلاغ منتصف جوان 2023، بمنع الصحفيين من حضور اجتماعات اللجان، مع تحديد وجود الإعلاميين في فضاءاتهم الخاصة في مقرّ البرلمان فقط. وهو قرار تم اتخاذه بالإجماع بحسب عضو مكتب البرلمان المكلفة بالإعلام والاتصال، بما يعكس عن اتجاه ممنهج نحو تقليص الرقابة الإعلامية ومن خلفها الرقابة المجتمعية على أعمال النواب.
يتقاطع هذا التواجه مع تعامل رئيس الدولة قيس سعيّد مع الإعلام، ومن ذلك عدم إجرائه لأي حوار صحفي مع وسيلة إعلام محلية منذ صعوده لرئاسة الجمهورية عدا حوار وحيد مع التلفزة الوطنية بمناسبة مرور 100 يوم على انتخابه، وذلك تنفيذًا لالتزام قطعه كل مترشح للدور الثاني للانتخابات الرئاسية وقتها.
انعقدت الدورة البرلمانية الأولى في سياق مريب حول التزام المؤسسة التشريعية بحرية الإعلام وحق النفاذ للمعلومة والرقابة على أعمال البرلمان الذي يُراد له أن يكون أشبه بغرفة مظلمة، تعزيزًا لحقيقة تهميشه واقعًا
انعقدت بذلك الدورة البرلمانية الأولى في سياق مريب حول التزام المؤسسة التشريعية بحرية الإعلام وحق النفاذ للمعلومة وتأمين ممارسة الشفافية والرقابة على أعمال البرلمان الذي يُراد له بنظر، صحفيين على وجه خصوص، أن يكون أشبه بغرفة مظلمة، تعزيزًا لحقيقة تهميشه، واقعًا، في المشهد المؤسساتي الجديد في البلاد.
- برلمان بموقع إلكتروني دون أرشيف
البرلمان عقد أيضًا دورته البرلمانية الأولى، في البداية، في غياب موقع إلكتروني رسمي، باعتبار أن السلطات الرسمية قامت بغلق موقع البرلمان بعد إعلان التدابير الاستثنائية في 25 جويلية/يوليو 2021. لاحقًا، تم إنشاء موقع إلكتروني جديد يضم فقط المعطيات المتعلقة بالبرلمان الحالي سواء نوابه أو برنامج جلساته، مع رابط لمكتبة البرلمان تضم عناوين المؤلفات الورقية، مقابل عدم إدراج الإرث الإلكتروني الأرشيفي للبرلمانات السابقة.
لم يكن بذلك غلق موقع البرلمان الأصلي الذي يضمّ مادة أرشيفية ضخمة تشمل مداولات المجلس الوطني التأسيسي ومداولات مناقشة القوانين السابقة سواء في اللجان أو الجلسات العامة التي يعود إليها الباحثون والمشتغلون في الحقل القانوني، إلا تأكيدًا على القطيعة "القسرية" التي فرضتها السلطات مع البرلمان السابق، وهو ما يتعارض مع مبدأ استمرارية الدولة والحفاظ على الأرشيف وحق النفاذ إلى المعلومة.
- البرلمان والتشريع.. البداية بقرض!
افتتح البرلمان الجديد، في الأثناء، أول أنشطته التشريعية بالمصادقة على قانون قرض استهلاكي بقيمة 500 مليون دولار مموّل من البنك الإفريقي للتوريد والتصدير، وهو ما يؤشر على "الوظيفة التشريعية" المطلوبة من السلطة التنفيذية تجاه البرلمان الجديد.
افتتح البرلمان الجديد أول أنشطته التشريعية بالمصادقة على قانون قرض استهلاكي بقيمة 500 مليون دولار وهو ما يؤشر على "الوظيفة التشريعية" المطلوبة من السلطة التنفيذية تجاه البرلمان الجديد
وقد صادق، في هذا الإطار خلال جلسة برلمانية واحدة قبيل العطلة البرلمانية، على 3 اتفاقيات قروض بين تونس وكل من البنك الإفريقي للتنمية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والمملكة العربية السعودية، وذلك في سياق تعبئة الحكومة لموارد الدولة لتغطية العجز المالي.
نسبة التداين سجلت ارتفاعًا غير مسبوق في تونس بعد بلوغها حدود 75 في المائة من الناتج الداخلي الخام. أزمة الدين العمومي يعكسها أن حجم الدين بلغ 124.5 مليار دينار بموفى 2023 وتشكّل الديون الخارجية 63.9 في المائة من قيمة الدين. وبرمجت الحكومة، هذا العام، لتسديد 15.7 مليار دينار بين ديون خارجية ومحلية، التي تستوجب ديون أخرى لضمان استمرارية السداد في ظل خشية من بلوغ مأزق عدم الخلاص.
البرلمان الجديد، الذي يُنظر إليه غرفة تشريعية على هامش صياغة القرار السياسي في البلاد بنص الدستور وممارسة مع سعيّد، يُخشى أن يتحوّل إلى آلة تشريعية لاتفاقيات القروض بحسب الطلب.
صادق البرلمان خلال جلسة برلمانية واحدة قبيل العطلة البرلمانية على 3 اتفاقيات قروض في سياق تعبئة الحكومة لموارد الدولة لتغطية العجز المالي ويُخشى أن يتحوّل إلى آلة تشريعية لاتفاقيات القروض بحسب الطلب
والمأخذ هو عدم قدرة البرلمان نفسه على ممارسة دوره التشريعي بكل حرية واستقلالية، باعتبار المخاطر الدستورية والواقعية لعدم تشريعه لقوانين تطلبها حكومة عيّنها الرئيس ولم تنل ثقته طبق النظام السياسي المعتمد. إذ أن البرلمان أمام خيارين: إما أن يكون متناغمًا مع سياسات رئيس الدولة وحكومته وإما أن يكون غير متناغم وهو حينها لا يتوفّر إلا على أدوات غير ناجعة للمواجهة وهي لائحة لوم للحكومة تستلزم موافقة ثلثي أعضاء الغرفتين التشريعيتين مقابل إمكانية مبادرة رئيس الدولة لحل البرلمان في صورة تقديم لائحة لوم ثانية.
- التشريع خلال العطلة البرلمانية
لا يتوقف التشريع خلال العطلة البرلمانية الممتدة على شهرين: إذ يمكن أن يمارسها بنفسه رئيس الدولة في شكل مراسيم بعد إعلام اللجنة البرلمانية المختصة على أن تعرض على مصادقة المجلس في دورته العادية، وهي صورة تعني إمكانية استعادة قيس سعيّد لممارسة الوظيفية التشريعية كما مارسها طيلة نحو عام ونصف منذ إصدار الأمر الرئاسي عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية في سبتمبر/أيلول 2021 إلى غاية إرساء البرلمان الجديد في مارس/آذار 2023.
بيد أن مجلس نواب الشعب بإمكانه بدوره الانعقاد في دورة استثنائية خلال العطلة بطلب من رئيس الدولة أو ثلث أعضائه طبق جدول أعمال محدّد. وهي صورة أشار إليها رئيس البرلمان إبراهيم بودربالة، في كلمته في اختتام الدورة البرلمانية الأولى، بتأكيده "على استعداد كل النواب للعمل حتى خلال العطلة البرلمانية للنظر في كلّ ما يمكن أن تحيله الوظيفة التنفيذية من مشاريع قوانين تساعد على حلحلة المشاكل القائمة".
وهو استعداد بقدر ما يُراد من خلاله إظهار جديّة النواب للعمل فهو يبيّن، من جانب آخر، دور البرلمان الحالي كآلة تشريعية في خدمة الرئيس وحكومته.