14-يونيو-2024
استقلالية القضاء في تونس

تحلّ هذه التعديلات لبرنامج المناظرة في زمن نسف السلطة السياسية لضمانات استقلالية القضاء ووضع اليد عليه وتوظيفه في المحاكمات السياسية (Getty)

 

تنقيحات جوهرية تعلّقت بنظام مناظرة القضاء العدلي وبالخصوص برنامجها (بمقتضى قرار لوزيرة العدل بتاريخ 11 جوان/يونيو 2024)، تتوازى مع فتح مناظرة لانتداب 50 ملحقًا قضائيًا، الأمر الذي يطرح السؤال حول مدى انبناء هذه التنقيحات على النجاعة والتشاركية وذلك في أفق الإصلاح وتجويد التكوين في المناظرات بوجه عامّ ومناظرة القضاء بوجه خاصّ. ذلك أن هذه التعديلات تأتي بعد عامين فقط من سابق إصدار القرار المتعلق بضبط نظام المناظرة وبرنامجها (جانفي/يناير 2022) والذي كان يفترض أن يستوعب أي إضافات دون الحاجة لتنقيحه بشكل عميق بعد فترة وجيزة. 

تنقيحات جوهرية تعلّقت بنظام مناظرة القضاء العدلي وبالخصوص برنامجها  تتوازى مع فتح مناظرة لانتداب 50 ملحقًا قضائيًا، الأمر الذي يطرح السؤال حول مدى انبنائها على النجاعة والتشاركية خاصة وأنها  تأتي في سياق واقع هشاشة القضاء في تونس  

وهي تعديلات تأتي في سياق واقع هشاشة القضاء في تونس أساسًا بعد تغييب ضمانات استقلاليته في الدستور والإحداثات التشريعية الجديدة، على نحو مهّد لوضع يد السلطة السياسية عليه وما أدى بالتبعية لانتشار مناخات الترهيب في أوساط القضاة، خاصة بعد أن بات المسارين المهني والتأديبي للقاضي تحت يد الأجهزة التنفيذية. وضع يجعل مراجعة برنامج المناظرة حريًا بلفت الانتباه بشكل مبدئي بغض النظر عن مضامين المراجعة ذاتها.

 

  • توسيع في اختبار المعارف واهتمام بالأحكام الإجرائية

التعديل الجوهري تعلّق بالمواد الكتابية والشفاهية لمناظرة انتداب الملحقين الذين يتلقون تكوينًا بالمعهد الأعلى للقضاء قبل التحاقهم بمواقعهم. 

يتضمّن برنامج المناظرة طيلة العقود الأخيرة الاختبار في أربع مواد كتابية هي الثقافة العامة والقانون المدني والقانون الجزائي (ويشمل القانون الجزائي العام والإجراءات الجزائية) وذلك إضافة للقانون التجاري. البرنامج الجديد يرفّع عدد الاختبارات الكتابية إلى خمس عبر تعديل مواد أو دمجها أو فصلها. إذ تمّ تفريد القانون الجزائي العام والإجراءات الجزائية بامتحان خاصّ لكل مادّة على حدة، مع دمج القانونين المدني والتجاري في مادة واحدة بعنوان "قانون الأعمال"، وإضافة مادة جديدة هي الإجراءات المدنية والتجارية التي كانت سابقًا مادة شفوية. مادة الثقافة العامة بدورها شملها التعديل لتصبح "الثقافة العامة القانونية". 

وضع يد السلطة السياسية على القضاء وما أدى بالتبعية لانتشار مناخات الترهيب في أوساط القضاة، وغير ذلك من مظاهر هشاشة القضاء في تونس اليوم، يجعل مراجعة برنامج المناظرة حريًا بلفت الانتباه بشكل مبدئي بغض النظر عن مضامين المراجعة ذاتها

وبالنسبة للاختبارات الشفاهية، كان يتضمّن برنامج المناظرة أربع مواد هي الإجراءات المدنية والتجارية، والإجراءات الجزائية، والفقه الإسلامي والقانون الدولي الخاص. حافظ البرنامج الجديد على عدد المواد مع تعديلها لتصبح كما يلي: القانون التجاري، والقانون الجزائي الخاصّ، والقانون العقاري والأحوال الشخصية والفقه الإسلامي.

وهذه التعديلات تدفع للملاحظات التالية:

  • الترفيع في العدد الجملي لمواد المناظرة من 8 إلى 9 مواد يؤشر على سعي مبدئي لتوسيع دائرة الامتحان خاصة بتجاوز تكرار المواد الكتابية والشفاهية (تحديدًا الإجراءات الجزائية) وإضافة القانون الجزائي الخاصّ والقانون العقاري إضافة للأحوال الشخصية في المواد الشفاهية، وإن كانت الأخيرة ملحقة دائمًا وعمليًا بالفقه الإسلامي في الاختبار الشفاهي وبالقانون المدني في الاختبار الكتابي.
  • يؤشر تغيير تخصيص مادة الثقافة العامة بالمجال القانوني إلى تقليص في مجالها، عبر مطالبة المترشح للمناظرة بتقييد اهتمامه في العلوم القانونية فقط دون بقية العلوم كعلم الاجتماع والفلسفة والتاريخ وغيرها والحال من الحريّ امتحان المترشح فيها لتقدير مدى اطلّاعه وثقافته، خاصة وأن القضاء، في العمق، ليس ممارسة لمهنة قانونية بحتة باعتبار تقاطعها في العمق مع مختلف المجالات، ناهيك عمّا يستوجبه من اهتمام القاضي بالشأن العامّ ومختلف القضايا الراهنة. ونذكر، في هذا الجانب، أن من بين المواضيع السابق طرحها في المناظرة طيلة السنوات الماضية في مادة الثقافة العامة "البحر الأبيض المتوسط" و"الهجرة غير النظامية" و"دور المجتمع المدني في إرساء دولة القانون" ومقولة "الإنسان يبني الكثير من الجدران والقليل من الجسور". مواضيع تفرض تناولها بمقاربة عابرة للتخصصات لا يبدو يمكن إعادة طرحها في البرنامج الجديد.

التعديلات الجوهرية في برنامج المناظرة والتي تفرض توسيع دائرة المعارف بشمولها فروع جديدة إضافة للاهتمام البيّن بالأحكام الإجرائية، تستهدف ظاهرًا الترفيع في المكتسبات المطلوبة للمناظرة.. بيد أنّ السؤال المطروح حول مدى انبناء التعديلات على تقييم عميق

  • يبيّن، في الأثناء، تحويل مادة الإجراءات المدنية والتجارية من مادة شفاهية إلى مادة كتابية، وتخصيص مادة الإجراءات الجزائية بدورها باختبار كتابي خاصّ مستقلّ عن القانون الجزائي العام، عن اهتمام بيّن بالأحكام القانونية الإجرائية شأنها شأن الأحكام الأصلية بمعدّل مادتين لكل صنف في مرحلة الفرز الأولى أي مرحلة المواد الكتابية. 
  • تكشف إضافة القانون العقاري لمواد المناظرة في المرحلة الشفاهية عن خيار الاهتمام بهذا الفرع وذلك بالنظر لضعف التكوين به باعتبار الاكتفاء عادة بتدريسه في مرحلة الماجستير. فضلًا عن أنّ غياب مادة القانون العقاري في مناظرة القضاء وأيضًا مناظرة الالتحاق بمعهد المحاماة (بخصوص المترشحين للسنة الأولى أي بالإجازة دون مترشحي السنة الثانية أي بالماجستير) عزّز ضعف اهتمام المترشحين للمناظرات بهذا الفرع رغم تفرّده بصنف مختصّ من المحاكم (المحاكم العقارية).
  • يُرجّح أن التخلّي عن مادة القانون الدولي الخاص ضمن المواد الشفوية يأتي تماشيًا مع محدودية تطبيق أحكامه في الواقع القضائي، باعتبار أنّ وجود عنصر أجنبي مؤثر في العلاقات القانونية يعدّ استثناءً بوجه عامّ. مع الإشارة لإمكانية إقحام هذا الفرع القانوني عمليًا بمادة قانون الإجراءات المدنية والتجارية وذلك فيما يتعلقّ بالاختصاص القضائي للمحاكم التونسية أو تنفيذ الأحكام الأجنبية.

إجمالًا، التعديلات الجوهرية في برنامج المناظرة والتي تفرض توسيع دائرة المعارف بشمولها فروع جديدة (القانون العقاري والقانون الجزائي الخاص) وذلك إضافة للاهتمام البيّن بالأحكام الإجرائية، تستهدف ظاهرًا الترفيع في المكتسبات المطلوبة للمناظرة، وذلك استتباعًا لسابق اشتراط شهادة الماجستير بدل الإجازة منذ عام 2017. بيد أنّ السؤال المطروح حول مدى انبناء التعديلات على تقييم عميق.  

 

  • تعديلات جذرية وليدة مراجعة شاملة؟

السؤال المشروع، في هذا المضمار، يتعلّق بما إذا كانت التنقيحات الجوهرية في برنامج مناظرة القضاء قد جاءت نتيجة مراجعة شاملة وعميقة لمكامن ضعف البرنامج السابق وعلاقته بتكوين القضاة وتقييمهم المهني وارتباط كلّ ذلك بالواقع القضائي كجودة الأحكام على سبيل المثال. 

وهي مراجعة تفترض أن تكون وليدة لجنة علميّة مختصة تضم المعنيين ليس فقط من ممثلي وزارة العدل أو المعهد الأعلى للقضاء، ولكن أيضًا الأساتذة الجامعيين، وأن تتأسس على دراسات وتقارير علمية ومتأنية. وفي هذا الجانب، لا مؤشرات على أن التعديلات المُحدثة هي نتيجة عمل عميق ورصين وتشاركي بالخصوص بالانفتاح على الوسط الجامعي، وذلك في ظل واقع سياسة الانغلاق في وزارة العدل. 

لا مؤشرات على أن التعديلات المُحدثة في مناظرة القضاء هي نتيجة عمل عميق ورصين وتشاركي بالخصوص بالانفتاح على الوسط الجامعي، وذلك في ظل واقع سياسة الانغلاق في وزارة العدل

 كما يُطرح السؤال حول مدى ارتباط مراجعة برنامج مناظرة القضاء بمراجعة نظام التكوين الجامعي لطلبة القانون بوجه عام، وهو الأمر الذي يفترض مجددًا الانفتاح على ورشات إصلاح البرامج الجامعية. ذلك أن وحدة الآفاق الإصلاحية تفرض نفسها بغاية ضمان الملائمة. إذ أن مسألة تكوين القضاة، في هذا الجانب، لا ترتبط ببرنامج المناظرة فقط بقدر ارتباطها أساسًا وبدرجة أولى بالتكوين في تخصّص القانون الخاصّ في الجامعة التونسية. 

وإنّ أهمية توسيع باب الاستشارة في برنامج مناظرة بحجم مناظرة الملحقين القضائيين ولزوم عدم احتكارها من وزارة العدل تتأكد بتنصيص قانون المجلس الأعلى للقضاء عام 2016 على إبداء رأي المجلس، المكوّن من قضاة ومحامين وأساتذة جامعيين وغيرهم من المهن القانونية، في مشروع قرار وزير العدل بخصوصه. وهو القانون الذي تمّ نسخه بالمرسوم عدد 11 المتعلق بالمجلس المؤقت للقضاء، على نحو جعل وزارة العدل تحتكر لوحدها من جديد تحديد برنامج المناظرة دون اشتراط أي مسار تشاركي.

 

  • تكريس الحاجة لـ"القاضي الموظف"؟

الملاحظ، في الأثناء، أنّ التعديلات اللاحقة ببرنامج مناظرة القضاة العدليين أكدت حصر الاهتمام بالمعارف القانونية المحضة فقط خاصة بعد تضييق مادة الثقافة العامة في المجال القانوني فقط، والحال كانت سابقًا هذه المادة محرارًا لقياس مدى اطلاع المترشح للقضاء على المجالات غير القانونية ومدى ثقافته العامة وقياس مقاربته في القضايا الرئيسية.

تحلّ هذه التعديلات في برنامج المناظرة في زمن نسف السلطة السياسية لضمانات استقلالية القضاء ووضع اليد عليه وتوظيفه في المحاكمات السياسية لاستهداف من تراهم السلطة خصومًا لها

والمعضلة الأخرى، في المواد الشفاهية، مواصلة الاكتفاء باختبار المعارف القانونية أيضًا دون اختبار مدى استبطان المترشح لرسالة القضاء ومهامه السامية وأخلاقياته. فمهمة القاضي لا تقتصر على تطبيق القانون بل كذلك علوية الدستور والدفاع عن الحقوق والحريات وإقامة العدل، وهي المهام الطلائعية التي أوردها دستور 2014 تنزيلًا لمكانة القضاء في نظام ديمقراطي. وإقصاء هذا العنصر الجوهري يعزّز في الواقع الخيار لانتداب قضاة موظفين يطبقون القانون بالمعنى التشريعي المحض، دون قدرتهم عن استبطان القضاء بوصفه سلطة وبالتبعية تحميلهم مسؤولية الدفاع عن ضمانات استقلاليتها في مواجهة السلطة التنفيذية وأيضًا الدفاع بالخصوص عن مبادئ دولة القانون. 

كما تغيب تقييم المترشح لوعيه بأخلاقيات القاضي ومقاربته لها، مع المقارنة أن مادة أخلاقيات المهنة هي من بين الاختبارات الشفاهية في مناظرة المحاماة.

إجمالًا، تحلّ هذه التعديلات لبرنامج المناظرة في زمن نسف السلطة السياسية لضمانات استقلالية القضاء ووضع اليد عليه وتوظيفه في المحاكمات السياسية لاستهداف من تراهم السلطة خصومًا لها. 

يظهر أنّ تعديل برنامج المناظرة هو مجرّد مراجعة تتعلق بالمكتسبات العلمية فقط دون أي اهتمام باختبار المترشحين حول مدى استبطانهم لرسالة القضاء ولا رهاناته أو مدى قدرتهم على استبطان دور القاضي في الدفاع عن مبادئ دولة القانون والحريات العامة

في هذا السياق، أورد تعديل نظام المناظرة إخضاع المرشحين الناجحين في الاختبارات الكتابية إلى "تدقيق حول السيرة والسلوك وذلك في نطاق ما تقتضيه خصائص رسالة القضاء"، وهي ظاهرًا إضافة محمودة باعتبار أنه لا يكفي النجاح في الاختبارات القانونية لممارسة القضاء. لكن الخشية، في السياق الراهن، أن يتحوّل هذا التدقيق إلى أداة لتصفية المترشحين المعروفين بمواقفهم الداعمة لاستقلال القضاء والمناصرة للحريات العامة بشكل لا يروق للسلطة السياسية، وهو الأمر الواجب ضمان تفاديه بفرض معايير موضوعية ومعلومة لهذا التدقيق ضمانًا للشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص.

ختامًا، يظهر أنّ تعديل برنامج المناظرة هو مجرّد مراجعة تتعلق بالمكتسبات العلمية فقط دون أي اهتمام باختبار المترشحين حول مدى استبطانهم لرسالة القضاء ولا رهاناته أو مدى قدرتهم على استبطان دور القاضي في الدفاع عن مبادئ دولة القانون والحريات العامة، ذلك أن القاضي ليس مجرّد آلة لتطبيق التشريع بل هو صاحب رسالة في المقام الأول.