تصدير: "إنّا نحبّ الورد لكنّا نحب الخبز أكثر..
ونحب عطر الورد، لكن السنابل منه أطهر.."
(الشاعر الفلسطيني محمود درويش)
في أغلب المساءات الصيفية التي تشقها عادة نسمات طرية وعلى ناصية مقهى شعبي بحي رأس العين بمدينة الكاف، يجلس الخباز التونسي العم المطماطي وحيدًا يترشف قهوتة "الفيلتر" السوداء ذات الرغوة البرونزية اللامعة.. وبين الفينة والأخرى، ينظر هناك بهدوء محارب قديم إلى ذرى الجبال البعيدة التي تسيّج بعناية سهول الكاف الفسيحة من جهة الغرب، فتتشرّب روحه سكينة الذرى والقمم الشامخة وفيء الأشجار الوارفة، فيشعر كأنه خارج الزمن في حالة ليست زمنية ولا أبدية، إنه صفاء ما بعد العمر.
- الخباز التونسي "العم المطماطي".. عن رجل قضّى عمره يوقد الأفران لصنع الخبز
العم المطماطي يجلس بقهوته تلك كشاعر نفذ برؤياه إلى ما وراء قشرة العالم، وخلق لنفسه أبعادًا إنسانية شفافة لا مرئية تعاش ولا تقال. أَوَلَم يقضِ هذا الرجل عمرًا بأكمله واقفًا كنخلة أمام الأفران الموقدة بالحطب والبترول يشتغل خبّازًا بالعديد من مخابز الشمال الغربي التونسي!
اشتغل العم المطماطي الذي يستعدّ لدخول عامه الثمانين، في بداياته، مساعدًا للريّاس بالشمال الغربي، قبل أن يستقر نهائيًا بمدينة الكاف العالي
لم يتخل العم المطماطي عن بلوزته الرمادية الطويلة وقلنسوة الصيف البيضاء المصنوعة يدويًا بخيوط القطن والتي يضعها بعناية على رأسه ذي الملامح السمراء وهو يتأهب لدخول عامه الثمانين.
يجلس هنا وجهًا لوجه مع مسيرة متوجة أنضجتها قصص القمح والنار ويصلها عبر قهوة "الفيلتر" السوداء مع حركة الكون حيث تختزن لانهائية الواقع.
- الخباز التونسي "العم المطماطي".. رحلة طويلة مع الخبز بدأت منذ شبابه
العم المطماطي واسمه الحقيقي "علي"، تنقل من مدينة مطماطة -التي تسكن الجنوب التونسي ويسكنها أهلٌ حفروا لهم في جيوب أديم الأرض منازل ليست ككلّ المنازل- مع أحد أعمامه إلى الشمال الغربي بداية ستينات القرن العشرين. كان يافعًا مأخوذًا بالمستقبل وذهبية الحياة، وهاجس المستقبل كما تقدمه الفلسفة هو هاجس صيرورة واستباق وتحول. وكلّ تحول مسكون بالذروة والهاوية في الوقت نفسه، وعلى ذلك الإيقاع، كانت رحلة المطماطي مع أفران الخبز بالشمال الغربي التونسي.
تنقل الشاب الجنوبي النحيف مع عمّه الأوسط، وكان هذا الأخير برتبة "رايس"، وهي أعلى رتبة يصلها الخبّاز المحترف بعد أن يكون قد قضّى سنوات عديدة في وصل الليل بالنهار يرتب رائحة الخبز ثم ينثرها في هواء البلدات الباردة فجرًا في أيام الشتاءات الطويلة لتتحول إلى إيقاع يومي يزاحم رائحة القرنفل وحركة السنابل في الحقول الفسيحة.
اشتغل العم المطماطي صانعًا مساعدًا للريّاس (جمع رايس) لسنوات عديدة بمدن وقرى الشمال الغربي على غرار الدهماني والسرس والجريصة والقلعة.. لكنه استقر نهائيًا بمدينة الكاف العالي مدينة الألف وجه والألف باب والألف قصة والألف أغنية. تعلّم بعناية وشغف طيلة سنوات العمر طرائق صنع الخبز: "الطليان" و"الحشايشي" و"الطابونة" و"الشواي" و"بوكيلو" و"الشعير" و"النخالة".. ومواسمه ومواقيته. تعلم أيضًا صناعة الأفراح أمام الأفران ذات الحرارة الجنونية أيام الصيام في شهر رمضان المعظم.
الخباز التونسي "العم المطماطي": هناك لحظات آسرة اختفت الآن تمامًا في صناعة الخبز وحلّت محلها قوانين جديدة تتعلّق بالمال والأعمال، فرفع الله البركة عن الخبز
يقول الخباز التونسي العم المطماطي: "في أيام الرخاء في السبعينات، كان شهر رمضان يأتي صيفًا فكنا نُسرج الوقت في القيلولة حتى نعد الخبز قبل أذان المغرب. كان صاحب المخبزة يتزود مسبقًا بالسميد والفارينة (أنواع الدقيق) والخميرة والزرارع (بهارات الخبز على غرار حبوب السمسم والسينوج والبسباس والحلاوة) وكنّا نتلو أدعية الخير يوم وصول مؤونة الشهر الكريم وكنا نصلي جماعة داخل الكوشة (المخبزة)، كل ذلك حتى تعمّ البركة على الجميع سواء عملة المخابز أو الوكّال (الحريف).. لقد كانت حياتنا بسيطة كعشبة وكانت عميقة الدلالة".
ويضيف شيخ الخبازين قائلًا: "مع اقتراب العيد الصغير، (عيد الفطر) ومع بداية العشر الأواخر، تتغيّر الروائح في المدن والأحياء، وتتدفق على المخبزة أطباق الحلُو قادمة من المنازل: 'غريّبة' بأنواعها (بيضاء وحمصية ودرعية) و'بشكوتو' منزلي لا مثيل لألوانها وهندسة أشكالها.. لقد قُدّت بعناية ومحبة فتبدو الأطباق كالمعلّقات.. ويتدفق الصبية مع عائلاتهم لاكتشاف مكامن الفرحة وعيون روائح الخبز في رحابهم.. وفي الأثناء، نتسلّح نحن بالابتسامات وإيقاعات اللّغة وأسرار التجاوز.. إنها لحظات كونية آسرة اختفت الآن تمامًا وحلّت محلها قوانين جديدة، هي قوانين المال والأعمال، فرفع الله البركة عن الخبز".
الخباز التونسي "العم المطماطي": كنّا نتلو أدعية الخير يوم وصول مؤونة رمضان، وكنا نصلي جماعة داخل "الكوشة"، كل ذلك حتى تعمّ البركة على عملة المخابز أو الوكّالة
كان العم المطماطي يشير برمزية الحكماء إلى تلك القيم القديمة التي كانت تحكم عوالم صناعة الخبز في تونس، وهي قيم أخلاقية بالمعنى الديني وبالمعني الفلسفي الكانطي، لا مجال فيها للعبث والانزياحات رغم قلة الإمكانيات في تلك الحقب.
- الخباز التونسي "العم المطماطي": لم يكن الخبز سهلًا
ويروي شيخنا أن الأفران كانت تُبنى يدويًا بطوب أحمر يُستورد من إيطاليا ومن مصر في مرحلة ثانية، وتوقد بالحطب لساعات قبل إيداع "نعمة ربي" وانتظار نضجها. يقول إنّ الصّنايْعية والعمال كانوا يقفون لساعات أما النار، "ما كانش ساهل الخبز" (لم يكن الخبز سهلًا).. هكذا كانت الجملة الملخّصة لأحاسيس الرجل قبل أن يمد يده مرة أخرى لكأس "الفيلتر" الذي شارف على نهايته.
"العم المطماطي" (خبّاز) لـ"الترا تونس": حين أشاهد تلك الطوابير الطويلة أمام المخابز، أشعر بالحزن للوضعية التي بلغتها صناعة الخبز في تونس
الخبّاز التونسي القديم كان يتحدث عن فترات ملحمية لصناعة الخبز في تونس ويقارنها باللحظة الراهنة التي يصفها بالزائفة لأنها صُبغت بالتّكالب على المال وجعلت تاريخ الخبز في الوطن غير متلاحم، وهنا يقول العم المطماطي: "عندما أرى تلك الطوابير الطويلة أمام المخابز أشعر بالحزن لما وصلت إليه وضعية صناعة الخبز في تونس، وأرجع ذلك إلى سوء إدارة عالم صناعة الخبز وغياب تطبيق القانون".
شيخ الخبازين التونسيين يقف الآن على ناصية العمر بكل ما أوتي من مشاعر وما تبقى من أحلام بسيطة وعميقة مازالت تلمع في عينيه الصغيرتين، وفي مقدمتها: المحافظة على المعنى الأصيل لصناعة الخبز وعدم الإساءة للماضي الذهبي لسادة الأفران في تونس الذين أفنوا العمر أمام درجات حرارة مرتفعة، وتحويل وجهة الخبز من خانة الشعر إلى خانة النثر.