الخبز/رغيف الخبز، "الخبزة بو كيلو"، "الباقات" (الخبز الفرنسي)، "الخبز الأسمر"، "الخبز قمح" وغيرها تسميات كثيرة لأنواع من الخبز يقبل عليها التونسي في حياته اليومية لكن أثرها لم يكن يومًا مرتبطًا بحيز التغذية والطعام فقط.
فالتونسي أطلق عليها "النعمة/نعمة ربي" وطالما ارتبطت الأزمات في ذهنه بقول شهير "كيّلوا النعمة" (أي جمعوا الدقيق والقمح والسميد والعجائن الغذائية.. الخ). وفي هذا السياق، كان استشعار التونسي لخطر الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور في البلد وفرضيات تأثير الحرب في أوكرانيا (أوكرانيا وروسيا من أهم مصدري الحبوب لتونس) أن التفت "للنعمة" وانطلق في "تكييلها/تجميعها" وهنا شاعت خلال الأيام الأخيرة صور نقصان لافت لمواد أساسية في المغازات التونسية ومنها مادتي السميد والفرينة، إضافة إلى نقص في الخبز على مستوى عديد المخابز.
كان استشعار التونسي لخطر الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور في البلد وفرضيات تأثير الحرب في أوكرانيا أن التفت "للنعمة" وطبق قوله الشهير "كيّلوا النعمة" وشاعت صور التهافت على مواد عدة منها السميد والفرينة
ظل الخبز لصيقًا بحياة التونسي، بل رديفًا لها (فراد ديفور/أ.ف.ب)
اقرأ/ي أيضًا: اجتياح أوكرانيا يرفع أسعار القمح والنفط ومواد أخرى.. أي تداعيات على تونس؟
- الحرب في أوكرانيا.. والهلع في تونس
تونس، دولة مستوردة لأكثر من نصف حاجياتها من الحبوب خاصة من أوكرانيا وروسيا. ويعاني البلد، في هذا السياق، مشاكل سابقة للتطورات الأخيرة دوليًا، إذ تعرف موانئ تونس طول فترة رسوّ بعض البواخر المحملة بالحبوب ومواد أخرى في انتظار تفريغ شحناتها، وذلك لعدم توفر السيولة اللازمة من العملة الصعبة لتفريغ الشحنات وتزويد السوق.
وقد أثر تراجع تونس في الترقيم السيادي، وفق عدد من وكالات التصنيف المالي الدولية، على طريقة تعامل المزودين الذين صاروا يطالبون بخلاص مستحقاتهم قبل تنزيل الشحنات.
يذكر أن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة كانت قد أعلنت، وفق آخر تقديراتها، أن الأسعار العالمية للأغذية والأعلاف قد ترتفع بين 8% و 20% بسبب الحرب في أوكرانيا.
منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة كانت قد أعلنت أن الأسعار العالمية للأغذية والأعلاف قد ترتفع بين 8% و 20% بسبب الحرب في أوكرانيا
ساهم كل هذا في المس من عامل من عوامل الأمان في مخيال التونسي، الخبز. ولذلك سارعت السلطات في البلاد للتصريح في أول أيام الحرب في أوكرانيا، 24 فيفري/شباط 2022، أن "تونس أتمت طلبياتها الضرورية حتى الصيف من شراءات القمح ولن تواجه أي نقص حتى موسم جني المحصول في الصيف".
أسبوع واحد بعد هذا التصريح، نقلت وكالة الأنباء رويترز عن متعاملين أوروبيين، تحديدًا الثلاثاء 1 مارس/آذار 2022، أن ديوان الحبوب في تونس طرح مناقصة دولية لشراء نحو 75 ألف طن من القمح الصلد، وأذيع فيما بعد أنه تم رفض العروض المقدمة لارتفاع السعر المقدم.
اقرأ/ي أيضًا: رويترز: تونس تطرح مناقصة لشراء 75 ألف طن من القمح الصلد
ولأن المتوفر من الحبوب وطنيًا لم يكن معلنًا وأصوات المسؤولين لم تكن مطمئنة، تواصل الهلع الشعبي وشمل موادًا أساسية أخرى وساهمت فيه عوامل داخلية منها الإضرابات على مستوى المخابز وتذمر أصحابها من مستحقات متخلدة ومن نقص في المواد الضرورية لإعداد الخبز، إضافة إلى مشاكل الاحتكار والمضاربة وهي تقريبًا الوحيدة التي تتعرض لها السلطات في تونس واعتبرتها أساس الأزمة وتُطلق الحملات لمواجهتها.
لا يمكن نفي عامل الاحتكار في الحقيقة وهو ليس جديدًا بالنسبة للمتابعين لطريقة عمل الأسواق ومسالك توزيع المنتجات الغذائية في تونس، لكن "القفز" على أهم أسباب الهلع الحاصل، وفق المختصين الاقتصاديين، وهو شح موارد الدولة في تونس حاليًا لاستيراد عديد المواد ومنها الحبوب، أنتج هذه الحالة ويغذي مع التطورات دوليًا مخاوف أكبر من انعكاسات مستقبلية أوسع.
لا يمكن "القفز" على أهم أسباب الهلع الحاصل بين المستهلكين وهو شح موارد الدولة حاليًا لاستيراد عديد المواد ومنها الحبوب، وهو ما أنتج هذه الحالة ويغذي مع التطورات دوليًا مخاوف أكبر من انعكاسات مستقبلية أوسع
اعتمدت الدولة لسنوات على الاقتراض لتعبئة موارد ميزانيتها وتدعم ذلك خاصة في العشرية الأخيرة وأمام غياب مقرضين خارجيين إلى حد الآن ما عدا بعض المساعدات الأوروبية ومن البنك الدولي المحدودة وفي غياب ملامح اتفاق إلى الآن مع صندوق النقد الدولي، تبدو السلطات في تونس في وضع لا تحسد عليه ولا أمل لحله إلا بمواجهته وليس بالقفز على حقائقه الأهم.
وقد كان متوقعًا منذ فترة أن يؤدي أي صراع عسكري بين الدولتين الجارتين (أوكرانيا وروسيا) المنتجتين لنحو 29% من صادرات القمح عالميًا و19% من إمدادات الذرة، و80% من صادرات زيت دوار الشمس، إلى ارتفاع أسعار الحبوب ومواد أخرى كالنفط بالنظر إلى التدافع المتوقع بين المستوردين للحصول على الإمدادات، وهو ارتفاع قد يكون لافتًا ومقلقًا أكبر على بلد مثل تونس كلما طال أمد الحرب.
;قد تستفيد دول مجاورة لتونس مثل ليبيا والجزائر جزئيًا من التطورات الدولية الأخيرة باعتبارها دولًا منتجة للنفط والغاز ويمكنها مع ارتفاع أسعار هذه المواد تعويض ارتفاع أسعار الحبوب وباقي المواد الأولية والغذائية لكن هذا السيناريو لا ينطبق على "الخضراء" التي يبدو أنها ورغم الأزمة الاقتصادية الهيكلية وتأثيرات الجائحة على اقتصادها والتوتر السياسي والحرب في أوكرانيا لا يلامس قادتها الخطر بعد بينما يسيطر الهلع على جزء من شعبها.
صورة أرشيفية تعود لأيام الثورة التونسية في جانفي/يناير 2011 (مارتن بيرو/أ.ف.ب)
- الخبز عند التونسي.. رمز للحياة
الخبز/"النعمة"، يحمل تونسيًا قيمة تتجاوز معطى الضرورة الغذائية، لمصدر شعور بالأمان وربما لأكثر من ذلك في مخيال التونسي. يمكن القول إن الخبز ارتبط "بالحياة" عند التونسي.
الخبز/"النعمة"، يحمل تونسيًا قيمة تتجاوز معطى الضرورة الغذائية، لمصدر شعور بالأمان وربما لأكثر من ذلك في مخيال التونسي
يعود استهلاك التونسي لهذه المادة إلى زمن بعيد، إلى قرون وماض تليد ولم يستغن عنها أو يقلل من استهلاكها رغم انفتاحه على منتجات من كل دول العالم. في سنة 2016، يقول مديرالمعهد الوطني للاستهلاك طارق بن جازية إن "معدل استهلاك التونسي للخبز يبلغ سنويًا 70 كلغ لكل شخص مقابل 58 كلغ للفرنسي و62 كلغ للجزائري، ليصل بذلك معدل الميزانية التي تخصصها الأسرة التونسية سنويًا لاقتناء الخبز إلى حوالي 200 دينار".
ومع تواصل الإقبال عليه، تطور الخبز في تونس وأخذ أشكالًا مختلفة وتنوع في مكوناته وتركيبته الغذائية وفي طريقة إعداده، وظل لصيقًا بحياة التونسي، بل رديفًا لها.
حتى في الأمثلة الشعبية التونسية، حظي الخبز بمكانة ربما لم تعرفها مكونات غذائية أخرى وقيل عنه الكثير "كسرة وماء والراس في السماء، خبزنا مخبوز وزيتنا في الكوز، ناكل خبزي ونقعد في عزي، شد خبزتك واطلق عبستك، الخبزة مرة.. الخ".
"معدل استهلاك التونسي للخبز يبلغ سنويًا 70 كلغ لكل شخص مقابل 58 كلغ للفرنسي و62 كلغ للجزائري" (فراد ديفور/أ.ف.ب)
- من أجل الخبز.. انتفض التونسيون في 1984
عرفت تونس وكذلك عدة دول عربية احتجاجات كان من ورائها الخبز، ومن ذلك محاولة السلطة في تونس الزيادة في سعر الخبز سنة 1984 وما نتج عن ذلك من احتجاجات حفظها التاريخ (أحداث/انتفاضة الخبز 1984).
انطلقت الاحتجاجات من الجنوب التونسي في آخر أيام ديسمبر/كانون الأول 1983 وسرعان ما تحولت إلى مواجهات بين المحتجين والشرطة. ومع دخول مشروع الزيادة في الأسعار حيز النفاذ يوم 1 جانفي/يناير 1984، توسعت الحركة الاحتجاجية لتشمل مناطق الشمال والوسط الغربي ومناطق أخرى في الجنوب، والتجأت السلطات لتدخل الجيش أيضًا.
صورة تلفزيونية نشرت في 3 جانفي 1984 تظهر مظاهرات احتجاجية على ترفيع أسعار الخبز وسلع أساسية أخرى (دريك سيراك/أ.ف.ب)
صورة تلفزيونية نشرت في 3 جانفي 1984 تظهر رئيس الوزراء التونسي محمد مزالي يعلن حالة الطوارئ على شاشة التلفزيون بعد مظاهرات ضد ترفيع أسعار الخبز وسلع أساسية أخرى (دريك سيراك/أ.ف.ب)
فاضل ساسي "شهيد انتفاضة الخبز" توفي في 3 جانفي 1984 (تيري ترونال/Corbis)
ومع الإعلان في اليوم الموالي عن سقوط قتلى، دخلت المنطقة الصناعية بقابس في إضراب شامل وكانت هناك مسيرات كبرى شارك في تنظيمها عمال والتحق بهم الطلبة، ثم توسعت رقعة الاحتجاج للعاصمة أين احتج الطلبة أيضًا.
في يوم 3 جانفي/يناير 1984، بلغت الاحتجاجات أوجها وباتت المواجهة مفتوحة وحادة وارتفع عدد القتلى والمصابين والتجأ بورقيبة إلى إعلان حالة الطوارئ ومنع كل تجمع بالطريق العام والساحات العامة يفوق ثلاثة أشخاص ومنع جولان الأشخاص والعربات ليلاً كما تم منح عطلة قسرية للجامعات ومختلف المؤسسات التربوية إضافة إلى اعتقالات في صفوف المحتجين. لكن الحركة الاحتجاجية لم تتوقف إلا مع إعلان بورقيبة التراجع عن الزيادة في الأسعار ومراجعة الميزانية.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة الخبز.. هل حرّكها صراع سياسي داخل أجنحة السلطة؟!
مظاهرة مؤيدة لبورقيبة بعد أن ألغى الترفيع في أسعار الخبز والدقيق (7 جانفي 1984 في تونس العاصمة/لوران ماوس/Gamma-Rapho)
حضر الخبز في احتجاجات عديدة في تونس ومنها الأيام الأولى للثورة التونسية 2011 (فراد ديفور/أ.ف.ب)
من أجل هذه العلاقة التاريخية بين الخبز والتونسي وعوامل أخرى تعرضنا لها سابقًا، لا يجب أن تنتظر السلطات التونسية ظهور انعكاسات مهمة للحرب في أوكرانيا، وما أنتجته حاليًا من ارتفاع لافت في أسعار الحبوب والنفط وغير ذلك من المواد عالميًا، على تزويد الأسواق بالمواد الأساسية في تونس خاصة مع شح الموارد المالية تونسيًا وغياب أي توضيح عن مصادر التمويل للأشهر القادمة.
الضرورة اليوم خطة تونسية لمجابهة هذا الوضع المركب داخليًا وخارجيًا وانعكاساته الممكنة على "خبزة" التونسي
الوضع الحالي المالي والاقتصادي ليس وليد حكم السلطات الحالية فقط، بل هو نتاج مسار وخيارات سنوات لكن الحل أو بدايته هي بيد حكام تونس اليوم. والضرورة اليوم خطة تونسية لمجابهة هذا الوضع المركب داخليًا وخارجيًا وانعكاساته الممكنة على "خبزة" التونسي.
اقرأ/ي أيضًا:
من بينها الحليب والزيت والحبوب: أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس
فريد بلحاج: الحرب في أوكرانيا ستؤثر بشكل سلبي على عدة اقتصاديات منها تونس