02-أغسطس-2023
مهرجان أوسو بسوسة

صورة من مهرجان أوسّو بسوسة

 

ليالي تونس كانت شديدة الحر في صائفة 2023 فكانت الهجرة نحو الفضاءات العامة المفتوحة، خيّر البعض التنزه في الحدائق العامة والتجأ آخرون إلى المطاعم والمقاهي والآلاف كانوا يفضّلون السهر على حفيف أمواج البحر.

 في الأحياء الشعبية وعدة مدن تنقطع الصنابير فلا مياه للشرب والاغتسال وقد ينقطع الكهرباء مما يدفع الرفاق إلى اقتطاع تذكرة سهرة في أحد المهرجانات المجاورة، وتتفق النسوة والفتيات على تمضية سهرة صاخبة في مدارج ركح قرطاج أو الحمامات أو سوسة. امتلأت المسارح وهاجر الآلاف إليها لعلّهم يقتنصون سويعات من الحلم الضائع الذي تركوه وراءهم.

ضجيج المهرجانات الصيفية وصداها كان يملأ الصحف والمواقع والتلفزات وكان التفاعل متواصلًا بين ناقد ومجرّح ومؤيّد وداعم وغاضب. وتناسى القوم تداعيات السياسة وطوابير الخبز وتدهور المقدرة الشرائية، وانقسم التونسيون بين جمهور يعيش لحظته كما يريد ونخب توجّه الرأي العام نحو ما تريد، فكان تقييم العروض والسهرات والهيئات المشرفة يتراوح بين الموضوعي والذاتيّ وكانت السهام تتوجه نحو الاختيارات والأهداف والمضامين.

قاطرة التظاهرات الصيفية في تونس هي مهرجانات قرطاج والحمامات وأوسّو التي تدار إليها الأعناق فتستأثر بالنصيب الأكبر من الميزانيات المرصودة ثم تليها مهرجانات دولية في مراكز الولايات وأخرى جهوية ومحلية

في ظلّ وضع اقتصادي صعب وعجز ماليّ في موازنات أغلب الهيئات المشرفة على تنظيم المهرجانات، انطلقت فعاليات التظاهرات الصغرى والكبرى بدعم محدود من وزارة الثقافة التونسية ونقص فادح في موارد الاستشهار وعزوف واضح للشركاء التقليديين وطنيًا ودوليًا، وهذا ما انعكس مباشرة على توزيع البرمجة التي كانت توازن بين المداخيل والمصاريف فغلّبت الطابع الفرجوي الذي يملأ الركح والمسارح على حساب المضامين والأهداف والخصوصية الثقافية.

هجرة الصحفيين والإعلاميين والمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي كانت لافتة في تغطية المهرجانات لهذه الصائفة وغاب النقد الثقافي البناء إلا من بعض الأقلام الضالعة في المجال، وما يلفت الانتباه في التغطيات الصحفية اختلاط الحابل بالنابل، فتشكلت مجموعات دعاية لبعض الهيئات المشرفة في شكل خاصرة لحماية ما يعتبرونه مكتسبات في مواجهة الانتقادات اللاذعة و"قوى الشر" المفترضة و"صنّاع المؤامرات" التي طالت المجال الثقافي كما هو الشأن في المجال السياسي.

 

صورة
مشهد من مهرجان أوسو بسوسة

 

قاطرة التظاهرات الصيفية في تونس هي مهرجانات قرطاج والحمامات وأوسّو التي تدار إليها الأعناق فتستأثر بالنصيب الأكبر من الميزانيات المرصودة، ثم تليها مهرجانات دولية في مراكز الولايات وأخرى جهوية ومحلية تصارع من أجل البقاء فتسهم من جهتها ببرمجة تروي ظمأ الجمهور المتعطش إلى السهر والمتعة الفنية، لكنها تبقى رهينة النمط الثقافي للعروض المدعمة من طرف الوزارة وحجم التمويل الذاتي المتوفر.

في الساحل التونسي، أثار شيخ المهرجانات أوسّو بمدينة سوسة جدلًا واسعًا قبل انطلاقه وأثناء الفعاليات بين 24 و26 جويلية/يوليو، كانت السلط الجهوية تقف بشكل غير مسبوق لإنجاح الدورة الستين بدعم إداري ولوجستي لهيئة جديدة أخفقت في السنة الفارطة في الإنجاز وسعت هذه السنة إلى النجاح وتجاوز العقبات بسلام. 

مهرجان أوسو الذي اقترن تاريخيًا بعيد الجمهورية انقطع لـ5 سنوات وعاد في حلّة لا تختلف في الرؤية والتصميم عن النسخ السابقة دون تجديد بل تم التخلي فيه عن أدوار مهمة أبرزها "شخصية أوسو" التي كان يجسدها الفنان الوحيشي

كان الدعم بقدر قيمته 300 ألف دينار من وزارة السياحة وبقيمة 150 ألف دينار من وزارة الثقافة بالإضافة إلى دعم المستشهرين والشركاء وإمداد لوجستي من مؤسسات عمومية وبلديات وتسخير لورشات الإعداد.

مهرجان أوسو الذي اقترن تاريخيًا بعيد الجمهورية انقطع لمدة خمس سنوات وعاد في حلّة لا تختلف في الرؤية والتصميم عن النسخ السابقة، فحافظ على فقراته المعهودة وأهمها الكرنفال وليلة إطلاق الشماريخ والحفلات العامة. 

ولئن كان الحضور الجماهيري واسعًا فيعود الفضل إلى الرصيد التاريخي للكرنفال الذي تحتضنه الفضاءات المفتوحة على طول شاطئ بوجعفر، غير أن التغطية الإعلامية كانت في سياق التسويق المحلي فقط ولم تشملها التغطية الدولية وذلك لإيمان المنظمين بدور المؤثرين والمؤثرات على منصات التواصل الاجتماعي، كما غابت فعليًا المقالات التحليلية النقدية التي يمكن أن تتقدم بالمهرجان وتكشف عن النقائص.

 

 

 

ويبقى نجاح كرنفال أوسو من عدمه عالقًا في ظل غياب تقييم شامل لأعمال الهيئة المشرفة التي لم تنفتح بالشكل الكافي على المجتمع المدني الواسع والفاعلين الثقافيين في الجهة، وذلك بسبب الضغط المادي ووطأة الإجراءات الإدارية التي تسابق زمن الفعل والإنجاز وكذلك الاستئناس بخبرات السابقين خاصّة أنه تم التخلي عن أدوار رئيسية ضمن فعاليات الكرنفال أهمها دور "شخصية أوسو" التي كان يجسدها الفنان الوحيشي والاستغناء عن فرق استعراضية عالمية ذات تقاليد عريقة في إحياء الكرنفالات مثل "جمعية نيس الفرنسية" وعدم الاستئناس بخبرات تقنية في عالم الإضاءة على طول الطريق السياحية التي عبرها الكرنفال.

المهرجان الدولي بسوسة الذي يقام في فضاء سيدي الظاهر وكان له إشعاع على المستوى العربي والدولي تاريخيًا فقد الكثير من بريقه وعجز عن الارتقاء ببرمجته وعروضه، مما دفع أهالي سوسة إلى الهجرة نحو مهرجانات مدن مجاورة. 

أخطاء فنية وتقنية رافقت بعض العروض وعزوف الجمهور في عروض أخرى وأخطاء تنظيمية في عرض آخر جعلت من هيئة المهرجان تتخبط مجددًا في إخفاقاتها المتكررة ومن ضمنها الأخطاء الاتصالية، ولا يكفي أن تقيم عرضًا افتتاحيًا وتسوّق له إعلاميًا بأن يكون شفيعًا للنجاح.

 

صورة
أخطاء فنية وتقنية رافقت بعض عروض مهرجان سوسة وعزوف الجمهور في عروض أخرى 

 

مهرجان النفيضة، وهو أحد المهرجانات الناشئة التي استقطبت الجمهور المحلي، كانت أهدافه واضحة من خلال برمجة ترفيهية للشباب والأطفال تكسر الطابع المركزي للمهرجانات وتحتوي جمهور المدن المجاورة والأرياف الذين لا يستطيعون التنقل إلى مركز ولاية سوسة لانعدام وسائل النقل ليلًا. 

وقد استنفذ مهرجان النفيضة كافة الإمكانيات من أجل إسعاد جمهور محلي في دائرة التهميش الثقافي وعلى شاكلته نجحت مهرجانات أخرى مثل "مهرجان للا أم الزين" في مدينة جمال من ولاية المنستير.

 

 

وفي هذا الصدد، يقول الإعلامي والناقد في المجال الثقافي بشير حسني لـ"الترا تونس": "ككل صيف تعيش البلاد التونسية على وقع المهرجانات الصيفية بمختلف أصنافها الدولي والجهوي والمحلي. مشهد ثقافي موسمي ظاهريًا يوحي بحركية ثقافية متنوعة لكن المتمعن في هذا المشهد المتعدد على مستوى الكم سيلاحظ اختلافات جوهرية على مستوى النوعية".

 

الناقد الثقافي بشير حسني: باستثناء مهرجاني قرطاج والحمامات فإنّ بقية المهرجانات تشهد صعوبات تمويلية وتنظيمية وتفتقر للخصوصية  فهي تتشابه في المضامين ويمكن لفنان أو لعرض واحد أن يبرمج في جهة واحدة في مهرجانين مختلفين

 

ويوضح حسني، في هذا الصدد، أنه "باستثناء مهرجاني قرطاج والحمامات، وهما مهرجانان تشرف عليهما مباشرة مؤسسات الدولة الثقافية وفيهما الحد الأدنى لمفهوم المهرجان الفني وترصد لهما ميزانية ضخمة ويعتبران واجهة الدولة الثقافية في الداخل والخارج، فإن بقية المهرجانات تشرف عليها جمعيات ثقافية تعيش بمنحة من الدولة وبموارد ذاتية متأتية من الاستشهار وحتى من التبرعات العينية وأغلبها تشهد صعوبات تمويلية وتنظيمية وتفتقر للخصوصية فهي تتشابه في المضامين ويمكن لفنان أو لعرض واحد أن يبرمج في جهة واحدة في مهرجانين مختلفين"، وفقه.

وتابع محدث "الترا تونس": كما أن أغلب هذه المهرجانات تفتقر للهيكلة التنظيمية حيث يتداخل الإداري والفني والتقني والتنظيمي فيها، فأغلبها يفتقر لإدارة فنية تضم كفاءات من الجهة المعنية ذات مصداقية ودراية بالمشهد الثقافي الوطني والدولي على مدار السنة، وبذلك تكون قادرة على برمجة العروض الفنية المختلفة والمتنوعة حسب الميزانية المرصودة والمتوقعة وكذلك حسب ذائقة الجمهور المستهدف".

بشير حسني: "في الساحل توجد مهرجانات دولية عريقة لكنها فاقدة للخصوصية كما أنها فقدت صفتها الدولية إذ أصبحت عاجزة عن برمجة أكثر من عرض من خارج حدود الوطن على عكس ما كانت تتميز به في سنوات خلت

وأضاف أنه "في الساحل توجد مهرجانات دولية عريقة لكنها فاقدة للخصوصية. كما أنها فقدت صفتها الدولية إذ أصبحت عاجزة عن برمجة أكثر من عرض من خارج حدود الوطن على عكس ما كانت تتميز به في سنوات خلت، فقد كانت هذه المهرجانات قِبلة كبار الفنانين العرب والأجانب بصفة عامة، وهذا غير ممكن لارتفاع أجرة النجوم سواء المحليين أو الأجانب".

 

 

وأشار إلى أنه "في الساحل لا يوجد مسرح هواء طلق صيفي يستوعب أكثر من 8 آلاف متفرج وهو ما يمكّن من تغطية مصاريف جلب النجوم الكبار، وحتى المسرح الوحيد الذي تسلمته بلدية سوسة في 2018 أغلق بعد دورة وحيدة وبعض العروض لأنه تعرض إلى الإهمال مما جعله غير صالح للاستغلال. كما أن المهرجانات فقدت رونقها وأصبحت مفتوحة لكل من هب ودب لتغطيتها إعلاميًا من أطراف تفتقر للحد الأدنى من نواميس الإعلام الثقافي فهي تنقل دون نقد بناء وتفتقر لرصيد مهم من المتابعات الجهوية والوطنية يمكنها من تناول العروض بحس فني وذائقة راقية مما جعل المشهد الثقافي يبدو للمتلقي تعيسًا كئيبًا وشحيحًا على عكس الواقع".

 

صورة
مشهد من سهرة الشماريخ بسوسة (المصدر: زينب المثلوثي)

 

ومن جهته، اعتبر الناشط في المجال الثقافي بسوسة مراد البحري، في حديثه مع "الترا تونس" أنه "في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، فإنّ عودة مهرجان أوسّو تعدّ حدثًا في حد ذاته"، مستدركًا القول: "لكن ذلك لا ينسينا النقائص التي اعترته خلال الدورة الستين".

وأضاف البحري أن "من الملاحَظ أنّ فعاليات المهرجان هذه السنة غير مبنية على رؤية واضحة وفكر تجديدي وإبداعي إذا تمت مقارنته بتظاهرات أخرى مماثلة عالميًا ويمكن القول إنه ينجز بنفس النمط والتفكير منذ نشأته رغم القيمة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الثمينة لهذه التظاهرة التاريخية".

الناشط في المجال الثقافي مراد البحري: فعاليات مهرجان أوسّو هذه السنة غير مبنية على رؤية واضحة وفكر تجديدي وإبداعي إذا تمت مقارنته بتظاهرات أخرى مماثلة عالميًا ويمكن القول إنه ينجز بنفس النمط والتفكير منذ نشأته

ويضيف مراد البحري: "من جهة أخرى نلاحظ أن تظاهرة أوسو صارت رهينة الجمعية المشرفة عليها إذ لم تنفتح هيئتها على مكونات المجتمع المدني المختلفة في الجهة باعتبار أن كرنفال أوسو ذو بعد جهوي يشمل كافة مدن الساحل، كما أن التركيز على العربات في الاحتفال فكرة قديمة يجب أن تتجدد، كما لا بدّ أن يكون العمل على إعداد هذه التظاهرة على مدار السنة وبتشريك أكثر ما يمكن من الطاقات الشبابية باعتبار أن المهرجان يدرّ منفعة مشتركة"، وفق تقديره.

ويؤكد محدث "الترا تونس" أنه "لابد من خلق شراكات وتبادل الخبرات مع مدن كرنفالية عالمية لها تجربة عريقة وتأسيس هوية خاصة بمهرجان أوسو واستثمار معهد الفنون الجميلة بسوسة أحسن استثمار للطاقات الفنية الناشئة".

الناشط المدني عمر البلهوان: مهرجان سوسة الدولي لا يحظى بدعم كافٍ يضاهي مهرجاني قرطاج والحمامات وهو ما تسبب في انطفاء بريقه

من جهته، يقول الناشط في المجتمع المدني عمر البلهوان لـ"الترا تونس": "مهرجان أوسو الدولي تظاهرة سياسية بامتياز، وكان من الأحرى أن يحظى بعناية أعلى سلطة في البلاد"، معقبًا القول: "هذه الدورة التي عادت بعد غياب نعتبرها محمودة، لكنها منقوصة فلابد من مراجعة فقرات الكرنفال وتغذيته بالتجارب العالمية". 

أما بخصوص مهرجان سوسة الدولي، اعتبر البلهوان أنه لا يحظى بدعم كافٍ يضاهي مهرجاني قرطاج والحمامات، وهو ما تسبب في انطفاء بريقه، كما أن التغطية الإعلامية لم تكن في المستوى باستثناء بعض الأقلام القليلة التي تسهم في بناء المشهد الإعلامي المحترف"، حسب تقديره.