لم تكن نشأة مهرجان الحمامات الدولي الصيفي بتونس سنة 1966 وتبنيه مباشرة من قبل وزارة الثقافة التونسية ومنحه ميزانية محترمة من باب الترف الثقافي لدولة خارجة لتوها من تحت سماء استعمار لا يعير الفعل الثقافي المحلي أي اهتمام، كما لم تكن نية الآباء المؤسسين أن يكون هذا المهرجان شقيقًا أصغر لمهرجان قرطاج الدولي الصيفي فينافسه في البرمجة والجذب الجماهيري أو أن يكون همه سياحيًا صرفًا... بل كان خطه التحريري واضحًا منذ البداية وهو تقديم الأعمال المسرحية التونسية والعربية والعالمية، على ركح محاري مطل على البحر المتوسط أعد خصيصًا لذلك.وكان المسرحي التونسي علي بن عياد أحد المشرفين على هذا المشروع.
كان الخط التحريري لمهرجان الحمامات واضحًا منذ البداية وهو تقديم الأعمال المسرحية التونسية والعربية والعالمية، على ركح مطل على البحر المتوسط أعد خصيصًا لذلك.وكان المسرحي التونسي علي بن عياد أحد المشرفين على هذا المشروع
وعلى اعتبار أن المسرح فعل تغيير في المجتمع وأداة تفكير وتدبر من قبل الفنان الحق ومسهم مع بقية الفنون في تشكيل الذوق العام. كان خط مهرجان الحمامات الدولي مسرحيًا لكن ذلك تم دون إغفال للعروض الموسيقية والثقافية الأخرى فمنحها الهامش الذي يليق، خصوصًا وأن قرطاج ينهض بذلك على هضبة بيرصا بخليج تونس، وسار المهرجان على درب المسرح... لكن ومع تتالي السنوات والدورات ومع غياب الالتزام بجوهر المهرجان من قبل الإدارات المتعاقبة حدثت في الأثناء بعض الانزياحات فهيمنت العروض الموسيقية والفرجوية التونسية والعالمية على مهرجان الحمامات الدولي هيمنة كلية وغاب المسرح تمامًا وتحوّل إلى هامش وتم التعسف على مهرجان الحمامات وحشر حشرًا في خانة التنافس مع مهرجان قرطاج ومع باقي المهرجانات الدولية الأخرى في حين أن ثوابته ونصوص التأسيس تقول عكس ذلك.
كان لابد من هذه المقدمة وضرورة هذا التذكير وأنا بصدد تقديم حفل الفنان المغني التونسي محمد الجبالي الذي احتضنه ركح مسرح مهرجان الحمامات الدولي ليلة 10 جويلية/يوليو 2023 أمام شبابيك مغلقة وحضور جماهيري لافت تشي به الصور والكبسولات المرئية واللايفات التي نشرت في إبانها على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي ويقوله البث المباشر من قبل التلفزة التونسية والإذاعة الوطنية التونسية وإذاعة تونس الثقافية.
فمحمد الجبالي أقصي من برمجة مهرجان قرطاج الدولي لصائفة 2023، وفق تصريحاته النارية والمتتالية لوسائل الإعلام التونسية والعربية، من دون تبرير مقنع له وللرأي العام الذي تابع الموضوع من قبل الهيئة المديرة الحالية التي يترأسها الموسيقي والفنان كمال الفرجاني ومُنح مهرجان الحمامات الدولي كنوع من الترضية وهو ما أكده الجبالي في الندوة الصحفية التي عقبت الحفل والتي تحدث خلالها عن شعوره بالخيبة والمهانة وهو في أوج عطائه وبعد أكثر من 35 سنة من العطاء والتجريب في مجال الموسيقى والغناء وبقدر قليل في مجال التمثيل المسرحي.
مُنح محمد الجبالي عرض مهرجان الحمامات الدولي كنوع من الترضية بعد إقصائه من قرطاج وقد تحدث عن شعوره بالخيبة والمهانة وهو في أوج عطائه وبعد أكثر من 35 سنة من العطاء والتجريب في مجال الموسيقى والغناء
محمد الجبالي اعتبر أن ما حصل له في الأشهر الأخيرة في "ملف مهرجان قرطاج" فيه مس من كرامة الفنان التونسي وإقصاء وتهميش لا يليق به في هذه اللحظة التاريخية، وفقه.
حفل محمد الجبالي على ركح مهرجان الحمامات الدولي والذي حمل عنوان "آش السرّ" ( أيّ سرّ ؟ ) خضع لتصور خاص من قبل الفنان نفسه وفريقه العامل معه فهو بالنسبة إليه تحد تاريخي أمام ما حصل له مؤخرًا، فقد حاول الجبالي أن يقدم خلاصة العقود الثلاثة التي قضاها في الساحة الموسيقية والغنائية في 120 دقيقة.
حفل محمد الجبالي على ركح مهرجان الحمامات خضع لتصور خاص من قبل الفنان نفسه وفريقه، إذ حاول أن يقدم خلاصة 3 عقود قضاها في الساحة الموسيقية والغنائية في 120 دقيقة
حفل محمد الجبالي على ركح مهرجان الحمامات خضع لتصور خاص من قبل الفنان نفسه وفريقه (صور المهرجان/الصفحة الرسمية)
الجبالي كانت بداياته في أواسط ثمانينيات القرن العشرين مع برنامج "نجوم الغد" الذي ترعاه التلفزة التونسية وتخرج منه عشرات الفنانين والتحق سنة 1989 بالفرقة الوطنية للموسيقى التي يقودها الموسيقار محمد القرفي وشارك في عروض "زخارف عربية" بأداء لعلي الرياحي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وهو ما مكنه من دخول سنوات التسعينيات بأعمال خاصة وصدور ألبومات والشروع في التلحين بنفسه مع توأمة جمعته بالشاعر التونسي حاتم القيزاني.
ومن ثمة كان له الارتحال إلى مسارح عربية عريقة بمصر والمغرب والجزائر والعراق... كما شارك في مهرجان الموسيقى العربية في دورته السابعة بقصيدة " الغريبان " للشاعر أمل دنقل والتي غناها مع التونسية إيناس السمار ولحنها الفنان وعازف العود العراقي نصير شمة.
الجبالي عند بداياته كانت الساحة الغنائية التونسية تعيش فترتها الذهبية مع الملحنين الشهيرين أنذاك عبد الكريم صحابو وعبد الرحمان العيادي وتلك الموجة الزاخرة بالنجوم التي صعدت من تحت ألحانهم الخالدة فطبعت الأغنية التونسية بروح التجديد بعد فترة الستينيات والسبعينيات ولنا أن نذكر منهم الراحلة ذكرى محمد ونجاة عطية وصوفية صادق وعبد الوهاب الحناشي والشاذلي الحاجي والراحلة منيرة حمدي.
نشعر أن محمد الجبالي يحمل في جنباته وهج فترة الثمانينيات الفنية بكل ما تحمل من رمزية وهو ما حدا به للقول إنه "لا يدافع عن نفسه بل يدافع عن خصوصية فنية تونسية صنعتها أجيال متواصلة من الفنانين"
لم تكن مهمة الجبالي سهلة وهينة حينها لكنه استفاد منها واستثمر ذاك الحراك واستمر على الساحة الفنية والموسيقية مواصلًا المسيرة من بعدهم ملتزمًا بالطابع التونسي في جميع أعماله، لذلك نشعر أن الجبالي يحمل في جنباته وهج تلك الفترة بكل ما تحمل من رمزية وهو ما حدا به للقول إنه "لا يدافع عن نفسه بل يدافع عن خصوصية فنية تونسية صنعتها أجيال متواصلة من الفنانين"، وفقه.
عرض "أش السّر" قدم من خلاله الجبالي ثمرات تجربته في التلحين والغناء وكتابة الكلمات بدرجة أقل، فكانت مصافحته الأولى بتقديم كوكتال جمع فيه أشهر الأغاني التي رسخت في بال التونسيين وغنوها وترنموا بها وهي: نظرة عينك قتالة، إنت الكل، أش السرّ، يزيني، قنديل باب منارة.. وغيرها. وفي مصافحة ثانية غنى الجبالي من رصيده الطويل "يا حنين، ما يهمش، يزي من العزوبية، قمر، خليني بجنبك..". وبين المصافحتين وجه الفنان التونسي محمد الجبالي تحية إلى الشعب الفلسطيني المناضل من خلال أغنية "يا عالم طالب جواب".
كما كان محمد الجبالي سخيًا ونبيلاً بمنحه فرصة لواحدة من ذوي الهمم وهي الفتاة "شمس" التي حرمت البصر لكن بصيرتها قادتها إلى العزف برقة وإحساس عميق على البيانو وقد تفاعل معها الجمهور وصفق لها مطولاً.
كان محمد الجبالي سخيًا ونبيلاً بمنحه فرصة لواحدة من ذوي الهمم التي حرمت البصر لكن بصيرتها قادتها إلى العزف برقة وإحساس (صور المهرجان/الصفحة الرسمية)
آداء المغني التونسي محمد الجبالي في ثالث سهرات مهرجان الحمامات الدولي لصائفة 2023 كان مغمورًا بالعفوية ومفعمًا ببعض الكوميديا التي كسرت الحاجز بينه وبين الجمهور وحملت العلاقة بينهما إلى مدارات أخرى من التواصل.
الفنان محمد الجبالي هو من المطربين والملحنين التونسيين القلائل المتشبثين بالهوية الموسيقية التونسية في منجزه الفني في زمن كثر فيه الانبتات والتنكر للشخصية الثقافية الأصيلة دون تخليه عن التجريب والانفتاح
الفنان محمد الجبالي يبقى من المطربين والملحنين التونسيين القلائل المتشبثين بالهوية الموسيقية التونسية في منجزه الفني في زمن كثر فيه الانبتات والتنكر للشخصية الثقافية الأصيلة دون تخليه عن التجريب والانفتاح.
هكذا أنصف مهرجان الحمامات الدولي وفي المساحة المخصصة لغير المسرح وفنونه، محمد الجبالي الذي بدوره أنصف نفسه وجيله بحفل "آش السرّ".
