في بلاغة كل لغات الدنيا، "الطريق" هي كناية مثلى لتقدم الإنسان لمنصة اختيار دربه المحتوم، في اتجاه الخير أو اتجاه الشر، في اتجاه الحياة الرحبة والأرض الواسعة.. ومن تلك المنصة نفسها، يتقدم البشر بكل شجاعة لسلك طريق وعرة وشاقة للبحث عن الله والجلوس أمام بوابات السماء أو نشدان كل أوجه المطلق أو البحث عن أزهار الحرية النابتة على قمم الجبال.
أما الفلسفة القديمة، فتعتبر أن "الطريق الحق" هي تلك التي تقودنا نحو التفكير والبراعة في التفلسف والسفسطة.. والتفكير بدوره يقودنا نحو حسن العيش وحسن البقاء والتخلص من الوحشية القابعة في لا وعينا.
الحضارات، نعم كل الحضارات البائدة والقائمة تعتبر هي الأخرى أن الطريق هو رمز قوتها وتواصلها وفتوحاتها في اتجاه صناعة أمجادها وصناعة تاريخها.. فنجد "طريق الحرير" و"طريق الذهب" و"طريق الحج" و"طريق الأنبياء" و"طريق الثروة" و"طريق الفتوحات".. وهي كلها طرق للحياة وحسن البقاء.
في تونس، ثمة طريق ليست ككل الطرق.. طريق زاخرة بالتاريخ وعامرة بالقصص والحكايا التي نقلها الرواة والرّحالة والكتاب والشعراء.. رسمها الأجداد في البحر كما يرسم الرسام غيمة تستحم في الضياء تحت زرقة سماء شديدة الصفاء والنقاء.
بأقصى الجنوب الشرقي التونسي، على تخوم الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، هناك درب ساحر يُعرف بـ"الطريق الرومانية" التي تربط مدينة جرجيس بجزيرة جربة
هذا الدرب الساحر هو ما يُعرف بـ"الطريق الرومانية" التي تربط مدينة جرجيس بجزيرة جربة. هناك بأقصى الجنوب الشرقي التونسي، على تخوم الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهي أمكنة بحرية ساحرة وفاتنة، تقول الأسطورة إنّ "أوليس" استظلّ بظلّها وهو يجوب البحر هربًا من قسوة أهل طروادة وبحثًا عن ثمرة "اللوتس" التي علمت الإنسان النسيان.
الطريق الرومانية تهمز بين منطقتي "شمّاخ" الجرجيسية و"سدويكش" الجربيّة وهي تمتدّ على طول ثمانية كيلومترات.. شيّدها الرومان من أجل كسر عزلة الجزيرة وربطها بالبرّ وتعميرها في القرن الثالث ميلادي بأمر من الإمبراطور الروماني "ثيودوسيوس الأول" وهو من المشاريع الإنشائية الكبرى التي أقدمت عليها الإمبراطورية الرومانية في ذلك العهد، فتم استقدام البناة والمهندسون مباشرة من روما.
ولم يكن الأمر بالسهل والهيّن لأن هذه الطريق ليست برية أو هي بالمعلقة، بل هي ستشق البحر شقًا، فتم استجلاب الحجارة من مقاطع صخرية مازالت بقاياها إلى اليوم في أرض جرجيس الرابضة على طرف سهل جفارة العظيم.
وتثبت البحوث التاريخية والعلمية بخصوص هذا المعلم الفريد، براعة الهندسة الرومانية التي راعت خارطة التيارات البحرية بالمكان وجعلت تحت الماء قناتين لمرور الماء وخروجه من حوض شبه جزيرة البيبان، كما ركزوا جسرًا معلقًا يرفع بالسلاسل عند الحاجة كمرور زوارق الصيد وتنقلات الترفيه والتريّض البحري.
لم يغير العرب المسلمون تسمية "الطريق الرومانية" إلى اليوم اعترافًا وإذعانًا للتاريخ، لكنهم طوروا الطريق ففي سنة 835 هجرية أي بين 1431 و1432 ميلادية قام أبو فارس عبد العزيز المتوكل حاكم إفريقية في العهد الحفصي والذي يصفه المؤرخ "روبار برنشفيك" بآخر عظماء السلاطين الحفصيين وبأنه كان محترمًا في الداخل ومهابًا في الخارج، بأشغال كبرى على الطريق التاريخية بعد أن فعل فيها الزمن وأسقطت الأمواج جزءًا منها فأغرقتها.. وقد أدرج المؤرخون تدخل عبد العزيز المتوكل ضمن سياسته المتمثلة في ربط شمال مملكته بجنوبها وتوفير الاستقرار الاجتماعي.
الطريق الرومانية شيّدها الرومان من أجل كسر عزلة الجزيرة وربطها بالبرّ وتعميرها في القرن الثالث ميلادي بأمر من الإمبراطور الروماني "ثيودوسيوس الأول"
وفي سنة 1551 ميلادية وخلال الفترة العثمانية، هدمت أجزاء من الطريق إثر معارك بحرية بين درغوث باشا وهو من أمراء البحر العثمانيين وأسطول الإمبراطورية الإسبانية.
أما في الفترة المعاصرة، ورغم صمود الطريق/المعلَم، فإن أشغالًا أحدثت في ردهاتها وجنباتها في سنة 1952 وهي فترة الاستعمار الفرنسي للمملكة التونسية زمن حكم محمد الأمين باي آخر البايات الحسينيين بعد قيام الجمهورية في 25 جويلية/ يوليو 1957 إثر قرار من المجلس القومي التأسيسي بالإجماع بإلغاء الملكية. وتتمثل هذه الأشغال في توسعة المداخل من الجهتين وصيانة التبليط وإنشاء قنطرة ثابتة بدل الجسر الحديدي المرفوع بالسلاسل الذي شيده الرومان. وقد شجعت الإدارة الفرنسية حينها على القيام بهذه الترميمات وذلك لمزيد استغلال ثروات البلاد خاصة وأن جزيرة جربة تزخر برصيد فلاحي هام والطريق تسهل نقل المنتوج ومن ثمة استغلاله وترحيله لفرنسا.
وخلال فترة الاستقلال، تدخلت الدولة التونسية الفتية سنة 1959 بأعمال صيانة للطريق الرومانية جرجيس جربة من محافظة مدنين، وذلك بسفلتته والقيام بمراجعات هيكلية للقنطرة التي أنشأها محمد الأمين باي، ومدّ قنوات المياه الصالحة للشرب في اتجاه الجزيرة. وقد سارعت دولة الاستقلال لأعمال الصيانة تلك على الطريق العتيقة على اعتبار اختيارها للسياحة كرافد أساسي للتنمية الاقتصادية الشاملة وتمييز تلك المناطق لتحوّزها على مقومات المناطق السياحية العالمية.
وبين سنتي 2004 و2006، تدخلت الدولة التونسية مجددًا بخصوص الطريق الرومانية وذلك بتشييد جسر جديد ارتفاعه 21 مترًا وطوله 160 مترًا مع إضفاء المزيد من الجمالية والصيانة واعتباره كأهم معلم أثري مازال مستغلًا إلى اليوم في تونس.
وفي السنوات الأخيرة، ومع بداية سنة 2012، انطلقت أشغال توسعة على الطريق تفاديًا للزحمة المرورية التي باتت تعرفها الطريق في المواسم السياحية والمناسبات الدينية كحج اليهود إلى معبد الغريبة بجربة أو عودة مواطنينا بالخارج عبر مطار جربة جرجيس الدولي.. وهذه الأشغال مازالت متواصلة إلى اليوم وقد شارفت على نهايتها، حيث ستجعل للطريق صورة أخرى.. أوضح وأجمل وأنفع لمصالح المواطنين بمدنين أو الوافدين بحثًا عن الترفيه والسياحة وراحة البال.
اليوم، ورغم صمود الطريق أمام الزمن والعوامل المناخية والفعل البشري، فإن خبراء بيئيون تونسيون ودوليون يطالبون بمراجعة الفتحات التي أحدثها الرومان وإنشاء أخرى جديدة وذلك بعد ملاحظة ضعف تيار وادي أجيم المعروف بالوادي الكبير وتراجع قدرته على رد الترسبات المعاكسة التي يأتي بها المدّ. هذا التراجع هو ما أحدث ما يعرف الآن بجزر شط حسي الجربي الموصوفة بـ"مالديف" تونس وهو من الشواطئ الأشد جمالًا بمدينة جرجيس.
خبراء بيئيون تونسيون ودوليون يطالبون بمراجعة الفتحات التي أحدثها الرومان وإنشاء أخرى جديدة وذلك بعد ملاحظة ضعف تيار وادي أجيم
الطريق الرومانية جرجيس جربة ورغم غياب علامات واضحة تبرز قصة إنشائها وتقدمها كمعلم أثري يستحق الزيارة والتوقف للتأمل -وهو دور لا بدّ للمعهد الوطني للتراث أن ينهض به فورًا- فإنها اليوم ومع مراكمة الزمن والحقب أصبحت شاهدة على جزء كبير من تاريخ تونس يمتد لقرون طويلة.. فقد أصبحت أيضًا شريانًا أساسيًا تربط مكانين بأقصى الجنوب التونسي في اتجاه الشرق. لكن حلم الأهالي هنا مازال متواصلًا بأن تتحول الطريق إلى مسار سيّار من دون المساس بقيمتها التاريخية أو إحداث قنطرة تكون جاذبة لمزيد السياح والزوار على غرار ما نشاهد من جسور مدهشة في العديد من المناطق في العالم.