إنه ساحل المدينة الرومانية "ماركريون" بأقصى الشمال الشرقي التونسي. كتيبة من حرس الإمبراطور الروماني بمقاطعة أفريكا تحرس الجبل الصخري ومحيطه بعناية وانتباه شديدين. كان القمر منعكسًا من أعلى الفتحات الصخرية المبثوثة على المنبسطات الصغيرة للجبل، قمر مكتمل تنسكب أنواره على أديم تلك التجاويف الصخرية أسفل قلب الجبل ليمنح تغريبة العبيد وأسرى الحروب -المقيمين هناك لسنوات- بعض الأمل وبعض الخيال وبعض الأمان ويحول دون موتهم البطيء.
"الهوارية" أو "مركاريون" الرومانية أو "هرميا".. تعتبر من أجمل المدن البحرية التونسية المزدحمة بالتاريخ
القمر يوقّع أيامهم ويجعلهم في صلة بالحياة خارج هذه التجاويف. بعضهم نائم والبعض الآخر يتسامر إلا واحدًا كان ينظر بشغف وشوق وحنين إلى تلك الكوة المربعة التي أطل منها القمر، لقد حُمل إلى مراتع الحرية في جزيرة "كريت" اليونانية حيث ترك أهله قبل أن يتم أسره في معركة بحرية من قبل قراصنة تونسيين، والمجيء به لتنفيذ عقوبة السجن إلى هذه المقاطع الحجرية الخاصة بالإمبراطورية الرومانية.
كان اسمه "تترنيوس"، قصير القامة وصاحب بنية جسدية قوية، لذلك جيء به إلى هذه المقاطع لاستخراج الحجر وتربيعه حسب أحجام معلومة وترحيلها بحرًا إلى المدن الرومانية على غرار قرطاج وكركوان وتيسدروس وتيبوربوماجيس وميستي وأوتيكا وأوذنة.. وغيرها.
"تترنيوس" قرر الفرار عبر عوامة نقل الأحجار بحرًا في لحظة سهو من الجند وتواطؤ يشبه العطف من بعض العملة. وصل ميناء قرطاج وهناك تاه في الزحام. وبعد أسابيع معدودة، كان على سواحل "كريت" يعدو في اتجاه أحضان حبيبة انتظرته لأكثر من ثلات سنوات.
قصة "تترينوس" قد تكون محض خيال، لكن لو استندنا إلى المفهوم الفلسفي للكتابة والأدب نجد أنّ "كل قصة هي بالضرورة حقيقية". وهذا ما حدث عندما وقفتُ أسفل سلسلة جبال "الهوارية" -ذات زيارة تأملية للمكان الآسر والمزدحم بالقصص القديمة- ودخلت المغاور وتجولت في تجاويفها ونظرت إلى أعلى حيث الفتحات المربعة مازالت موجودة.
"مركاريون" الرومانية أو "هرميا" كما سماها الإغريق وذكرها المؤرخ اليوناني "سيلاكس" في كتبه كإحدى أقدم المرافئ في البحر الأبيض المتوسط واصفًا إياها بالمدينة أو "بوليس" أو "أكيلاريا" (بلاد الصقور والكهوف)، هي الآن تسمى "الهوارية" وتعتبر من أجمل المدن البحرية التونسية المزدحمة بالتاريخ ونشيج البحر أسفل السفوح الصخرية السحرية الضاجة بأصوات البحارة والقراصنة المحاربين والأحداث المثيرة وأحزان العمال تختلط بإيقاع الموج.
"الهوارية" التي يُجمع الكثير من المؤرخين أن البونيقيين هم من استوطنوها في البداية ثم احتلها الفينيقيون فالرومان، وتشير بعض الأبحاث التاريخية أن أصل تسميتها استمد اشتقاقًا من اسم الإله "هرمس ماركور" الذي كان سكان المنطقة يقيمون له معبدًا فخمًا مطلًا على البحر، ليس بعيدًا عن مكان المقاطع الحجرية الإمبراطورية.
يتفق الكثير من المؤرخين على أن البونيقيين هم من استوطنوا "الهوارية" في البداية قبل أن يحتلها الفينيقيون ثم الرومان
تقع "الهوارية" بولاية نابل وتبعد عن العاصمة تونس 110 كلم وعن مدينة "بلارمو" عاصمة صقلية الإيطالية 80 كلم، وقد كان التونسيون إلى حد قريب يطلقون عليها اسم "الرأس الطيب بالوطن القبلي" لوجودها بأقصى خارطة البلاد التونسية، وأيضًا لأن ولاية نابل كانت تسمى أيام البايات الحسينيين وقبل الاستقلال عن المستعمر الفرنسي بـ"الوطن القبلي".
"الهوارية" التي تطل على مضيق صقلية الاستراتيجي، والذي شهد أغلب الأحداث الكبرى التي عاشتها البشرية على امتداد قرون طويلة، تلوح قبالة شواطئها بشموخ السيرانات المغويات الفاتنات جزيرتي "زمبرة" و"زمبرتة" مشكلين معًا مشهدًا بديعًا، فريدًا لا مثيل له.
هذه المدينة التي عتّقها التاريخ وجعلها تطل بإجلال على مضيق جزيرة صقلية، تحولت مع الأيام إلى مدينة فلاحية صغيرة. لكن المغاور التي يفوق عمرها أكثر من ألفي سنة بقيت هي الشاهد الوحيد عمّا حدث في الماضي السحيق.
"المغاور" أو المحاجر الرومانية هي كهوف ذات تجاويف هرمية الشكل وعميقة على طول الجبل الصخري بـ"الهوارية" بارتفاع حوالي 15 مترًا ويفوق عددها 90 مغارة تروي قصص استخراج ونقل الحجارة الرملية بعد نحتها وتربيعها إلى مختلف المدن الرومانية بشمال إفريقيا ومنها ما وصل إلى روما عبر البحر بواسطة السفن والعوامات الشراعية الضخمة.
هذا الموقع الأثري الهام، حوّلته دولة الاستقلال إلى مزار للترفيه والتثقيف والاطلاع على ما فعله الإنسان في صراعه المتواصل مع الطبيعة. وقد شهد لعقود متتالية آلاف الرّحلات السياحية والمدرسية العلمية. لكن فجأة وخلال سنة 2007، اتخذ المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية التابعين لوزارة الشؤون الثقافية التونسية، قرارًا بغلق الموقع بداعي حماية الزوار وذلك بعد اكتشاف تصدعات خطيرة داخل المغاور الرئيسية الأكثر زيارة، والذي قد يعرضها للتداعي والسقوط في أي لحظة.
"المغاور" أو المحاجر الرومانية التي يفوق عددها 90 مغارة، هي كهوف مجوّفة وعميقة على طول الجبل الصخري بالهوارية بارتفاع حوالي 15 مترًا
وقد فتح الموقع لوقت وجيز وأعيد غلقه مجددًا، وإلى حد اليوم لم تتحرك الدولة التونسية في اتجاه ترميم الموقع وإعادة فتحه أمام الزوار والتصرف فيه على نحو جديد، الأمر الذي أثّر سلبًا على الأنشطة السياحية بالجهة، بل بكامل الوطن القبلي.
ما يحدث الآن بالموقع الأثري "المغاور" بالهوارية خلال السنوات الأخيرة، وفي ظل غياب الحراسة واللافتات والحواجز الواقية التي تمنع الزيارة والتنقل داخله، أن الزوار كسروا الحواجز البسيطة وباتوا يتجولون في الموقع من تلقاء أنفسهم ويدخلون الدّواميس المهددة بالسقوط أو تلك التي داهمها موج البحر ويلتقطون الصور التذكارية.
تم غلق موقع "المغاور" بعد اكتشاف تصدعات خطيرة قد يعرضها للسقوط، دون أن تتحرك الدولة في اتجاه ترميمه وإعادة فتحه أمام الزوار
كما انتشرت المطاعم العشوائية على تخوم الموقع الأثري متحدية القوانين التي تحول دون استغلال الآثار والمواقع التي توجد بها.
"الهوارية" فناء للتاريخ، وحالة أبدية من جمال الطبيعة، وسفر مع الموج يمحو بعضه البعض نحو أبواب الشعر فلا ندركه ولا نفتحه، وكون صغير أنضجته الأيام فجعلت منه كنزًا تونسيًا خالدًا تتطلب الآن وهنا، التفاتة جادة نحو إعادة إحيائها ثقافيًا وسياحيًا.