كلّما أزور المتحف الوطني بباردو بالعاصمة تونس، تأخذني قدماي مهرولًا بلهفة عاشق ومهجة أمّ تريد رؤية وليدها القصيّ المبعد إلى الطابق العلويّ حيث لوحة "فسيفساء فرجيل" المتفرّدة، متفقدًا اللوحة المشتهاة التي لا تشبع منها العين، أقف أمامها مطوّلًا منبهرًا من جديد بدقّة ترصيف وتنضيد حجارتها الصوّانيّة الصغيرة الملساء وخطوطها المنكسرة وألوانها البنّية الطبيعية.
تصّور اللوحة التونسية النادرة "فسيفساء فرجيل" الشاعر العظيم"فرجليوس مارو" أو "فرجيل" وهي لا تقدّر بأيّ ثمن بل ثمّة من يذهب إلى أنّها الفسيفساء الأغلى ثمنًا في العالم
وتصّور اللوحة التونسية النادرة "فسيفساء فرجيل" الشاعر "فرجليوس مارو" أو "فرجيل"، وهو آخر عظماء الشعر الوثنيين على حدّ عبارة صاحب "الكوميديا الإلهية" الشاعر الملحمي "دانتي أليغيري". وهي كنز تونس الفريد لا يقدّر بأيّ ثمن بل ثمّة من يذهب إلى أنّها الفسيفساء الأغلى ثمنًا في العالم لأنّها اللوحة الوحيدة في العالم التي تصوّر وجه "فرجيل" وهيئته.
وعُثر على هذه الفسيفساء البديعة سنة 1896 في موقع أثري بـ"حضرموت القديمة" بجهة سوسة بالساحل التونسي، وهي تقدّم الشاعر "فرجيل" مرتديًا جلبابًا أبيضًا مطرّزًا خطّطًا بخيوط بنّية، يجلس على مقعد وثير يقرأ شعر "الإنياذة" في حضرة صديقه الامبراطور الروماني "أوغسطين"، وعلى يمينه ملهمة فنّ التاريخ "كليو" وعلى شماله "ديمونة" المسرح التراجيدي، وهما ملائكة الإلهام وربّتا الفنّ حسب الميثولوجيا اليونانية القديمة.
واكتسبت هذه اللوحة الفسيفسائية الرومانيّة المنجزة بعناية ودقّة فنية عالية أهميتها وقيمتها الثقافية والحضارية والمتحفية العالمية بتقديمها لصورة شاعر ملحمي روماني كان له التّأثير البالغ في الحياة الثقافية الكونية بفضل كتاباته الشعرية الملحميّة والخالدة التي تعود إليها الإنسانية إلى اليوم للتمتع بما جادت به القريحة الفذّة لـ"فرجيل" من أفانين الصور والبلاغة وفهم معانيها والتلذّذ بشاعريتها العالية.
اقرأ/ي أيضًا: بالصور: فسيفساء الجم.. بالحجارة تتشكل الصورة ويصنع الجمال
من هو الشاعر العظيم "فرجيل"؟
وُلد "فرجليوس" أو "فرجيل" بريف إيطاليا قرب "مانتوفا" سنة 70 قبل الميلاد، وانتقل للعيش بروما مع بداية شبابه حيث ذاع صيته كشاعر مجيد مع انتشار أولى مجاميعه "قصص ريفيّة"، ثم أصدر بعد عشر سنوات مجموعة أخرى وهي "العمل في الأرض".
فيما يبقى عمله الشعري الخالد "الإنياذة" الذي عرفه الناس بعد سنتين من وفاته هو الأبهى والأجمل على الإطلاق، وقد صدر في 12 مجلّدًا وترجمه عن اليونانية القديمة الشاعر الأنجليزي "جون درايدن" أواسط القرن السابع عشر ثم تتالت ترجمته إلى كل لغات الدنيا بما فيها اللغة العربيّة، وتناقلته الثقافات ودرّسته الجامعات باعتبار "الإنياذة" تراثًا أدبيًا إنسانيًا ملهمًا لشتّى الفنون.
تظل "الانياذة" العمل الشعري الخالد لـ"فرجيل" الذي صدر في 12 مجلدًا وتُرجم إلى كل لغات العالم بما فيها اللغة العربية
وتروي "الإنياذة" بأسلوب ملحمي آسر قصّة هروب الأمير "آيناس" إلى أراضي إيطاليا، وهو أحد أبناء "بريام" ملك "طروادة" المنهزمة لتوّها في الحرب مع "إسبارتا" سنة 1200 قبل الميلاد. وتصوّر آلاف الأبيات الشعرية من "الإنياذة" ملحمة هروب الأمير من المجازر الرهيبة ومن ثمّة تأسيسه لروما وعظمتها، حتى أن الرومانيين يعتبرون الأمير "آيناس" هو الجدّ المؤسس للإمبراطورية الرومانية استنادًا لما خلّده "فرجيل" من أشعار.
وقد سمّى "فرجيل" الإنياذة بهذا الاسم تأثرًا وصل إلى حدّ التطابق مع "الإلياذة" و"الأودسّة"، وهي أشعار ملحمية كتبها "هوميروس" في القرن الثامن قبل الميلاد، كما كان "فرجيل" معجبًا أيضًا بشعراء آخرين من بينهم "ثيوقريطس".
لوحة برتبة سفيرة فوق العادة للثقافة التونسية
ويرجع علماء الآثار وجود هذه اللوحة المخلّدة لصورة "فرجيل" في تونس إلى كون تونس الرومانية شهدت أزهى فتراتها مع الإمبراطور "أوغسطين" الذي قرّب إليه الشاعر "فرجليوس" وجعله صديقًا وأحد جلاّس بلاطه بروما، وهو ما حدا بالمستعمرات الرومانية آنذاك إلى إنجاز أعمال فنيّة خالدة بالأدوات الفنيّة التي كانت رائجة في ذاك العصر كالنحت والفسيفساء.
الشاعر "فرجيل" على يسار الصورة (Getty)
شاهد/ي أيضًا: فيديو: فن الفسيفساء.. حرفة بعبق التاريخ
وكانت هذه اللوحة الفسيفسائية ولا زالت سفيرة فوق العادة للثقافة التونسية منذ الاستقلال إلى اليوم، فهي تتقدّم على الوزراء والسفراء ورؤساء البعثات الثقافية في الخارج لتمثّل تونس في كبرى التظاهرات الأدبية والفكرية والسياحية العالمية راوية العمق الحضاري وتاريخية الفنون والثقافة في البلاد التونسية.
وتتقدّم "فسيفساء فرجيل" منذ اكتشافها الى اليوم مجموعة الفسيفساء الفريدة والأهمّ في العالم التي تملكها تونس، وقد اُعيرت لأكثر من متحف عالمي بطلبات ملحّة من الأكاديميين والباحثين المختصّين وعلماء المتحفية، وكانت تسافر ببطاقة هويّة وجواز عبور وشهادة تأمين وتستقبل بحراسة أمنيّة مشددّة وتغلق الطرقات المؤدية لمكان عرضها. ويقضي الناس الساعات الطّوال في الصفوف أمام المتاحف من أجل رؤية وجه الشاعر "فرجيل العظيم" وتأمل فخامته وقراءة ورقة من لفافة من "الإنياذة " يحملها بيده اليسرى.
يرجع علماء الآثار وجود هذه اللوحة المخلّدة لصورة "فرجيل" في تونس إلى كون تونس الرومانية شهدت أزهى فتراتها مع الإمبراطور "أوغسطين"
وآخر إعارة كانت سنة 2011 لمتحف "قصر تي" بمدينة "مانتوفا" الإيطالية قرب ميلانو حيث أُقيم معرض خاص بالشاعر "فرجيل" في مسقط رأسه وذلك بمناسبة الذكرى 150 للوحدة الإيطاليّة، وقد نقلت اللوحة النادرة عبر القنوات الدبلوماسية بتأمين قدره 4 مليون يورو وتحت حماية أمنية خاصّة.
كما استنسخت تونس من كنزها الفسيفسائي النادر نسخًا شبيهة أشرف عليها خبراء المعهد الوطني للتّراث لتقدّم في شكل هدايا ثقافية رمزيّة تمنحها الدّولة التونسيّة، وكان آخر إهداء إلى مملكة هولندا لتكون شاهدًا على عراقة الإرث الحضاري والقانوني لتونس.
وقد ثُبتّت النسخة المهداة من الفسيفساء التونسية في بهو المقرّ الجديد الدائم للمحكمة الجنائيّة الدوليّة بلاهاي مع ترجمة للمحتوى ما هو مكتوب على أوراق "الإنياذة" التي يمسكها "فرجيلوس" في حضرة ربّتا الفنّ ودوّن عليها من شعر بطولي يتغنّي بحقوق الإنسان وبالسلم والتآخي بين الشعوب إذ يقول: "يا ملائكة الإلهام ذكّريني وقولي لي.. لأرى أيّ أسباب لانتهاك الحقوق المقدّسة".
ويمكن اعتبار اللوحة الفسيفسائية التي تقدّم وجه "فرجيل العظيم" وهو يقرأ شعرًا بطوليًا إنسانيّا والتي حبا بها التاريخ أرض تونس، تجوّزًا تراثًا إنسانيًا بل كونيّا لجمالها الفنّي ولمحتواها الشعري الحقوقي، لكن لم يُستغل هذا التّراث الذّهبي بالقدر الكافي لضمان مردود مادّي وكذا أدبي لتونس.
نسرين نصر (باحثة في المعهد الوطني للتراث): لزوم خطة ترويجية تليق بالفسيفساء النادرة
تؤكد الباحثة في التاريخ في المعهد الوطني للتراث نسرين بن نصر، لـ"ألترا تونس"، أن لوحة "فرجيل" تأتي على رأس المجموعة النادرة التي تمتلكها تونس ضمن رصيدها المتميّز من الفسيفساء الرومانية والتي يقسّم علماء الآثار مواضيع هذا الرصيد إلى أربعة مواضيع وهي: الميثولوجيا والحياة اليومية والهيلينستية والثقافية.
وأضافت أن فسيفساء "فرجيل" تتنزّل ضمن المواضيع الثقافية، مبينة أنها اكتشفت بجهة سوسة سنة 1896 بموقع هو منزل لأحد الأرستقراطيين في فترة قرطاج الرّومانية. وأوضحت أن هذه الفسيفساء تكتسب أهميتها من تقديمها للعالم لصورة الشاعر الفذّ فرجيل الذي يخلّد بطريقة ملحمية وأسطورية ميلاد روما وقرطاج ضمن أشعار "الإنياذة" التي نقرأ منها بعض الأسطر على لفافة الأوراق التي تبينها الصورة.
نسرين نصر (باحثة في المعهد الوطني للتراث): لوحة "فسيفساء فرجيل" موجودة في الأدلّة السياحية التي ترّوج للتاريخ الحضاري التونسي
اقرأ/ي أيضًا: قصر الجم.. صراع البقاء في حلبة الدهر
وعن كيفية استغلال اللوحة متحفيًا وثقافيًا، أكّدت الباحثة نسرين نصر أن اللوحة تحظى بعناية خاصة فهي معروضة بالمتحف الوطني بباردو في مكان متميز وبطريقة عصرية تليق بها وهي موجودة في الأدلّة السياحية التي ترّوج للثقافة والتاريخ الحضاري التونسي، لكن هذا لا يمنع من وضع خطّة ترويجية واستغلاليّة جديدة تليق بهذه الفسيفساء النادرة في عصرنا اليوم.
الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يكشف عن لوحة "فرجيل"
وتدعو، في حديثها معنا، لاستنساخ اللوحة مثلًا عبر مخابر وخبراء المعهد الوطني للتراث ووضع هذه النسخ على ذمة شبكة المتاحف العالمية في نطاق تبادل أو ما شابه وتجنيب اللوحة الأصليّة من السفر والتنقّل خوفًا عليها حتى وإن تمّ تأمينها بالأموال الطائلة. وأشارت إلى إمكانية استغلال الأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي لصالح هذه اللوحة عبر التفكير في الزيارات الإلكترونية المدفوعة الثمن.
كما حثّت الباحثة في التاريخ بالمعهد الوطني للتراث السياسيين على رأس وزارات الثقافة والسياحة والتربية والتعليم العالي على مزيد العناية بالرصيد العالمي من الفسيفساء الذي تمتلكه تونس وخاصة لوحة "فرجيل"، والاهتمام بملف التراث لفوائده على جميع المستويات، مؤكدة أنّ البشرية لن تنجو من مطاردة العولمة إلا بتثمين المجتمعات لإرثها الثقافي والحضاري وأن تونس معنيّة بذلك الآن وليس غدًا، وفق تعبيرها.
في ضرورة حسن استغلال اللوحة الكنز
عملت الدولة التونسية بعد الاستقلال على التوظيف الحسن للوحة "فرجيل" خاصّة في الفترة البورقيبية ولكن أهملتها ولم تلتفت إليها أبدًا في الفترة النوفمبرية بعد حفظها مع باقي مجموعة الفسيفساء الرومانية في المتحف الوطني بباردو بالقاعة التي تحمل اسم "فرجيل".
لازالت تبدو "لوحة فرجيل" إلى حدّ الآن غير مستغلّة بالقدر الكافي على مستوى الإعارات للمتاحف العالميّة وحضورها في التظاهرات الثقافية
ولازالت تبدو "لوحة فرجيل" إلى حدّ الآن غير مستغلّة بالقدر الكافي على مستوى الإعارات للمتاحف العالميّة، وأيضًا على مستوى حضورها في التظاهرات الثقافية والندوات الفكريّة واللقاءات السياسيّة الكبرى.
ولم تذهب جمهورية ما بعد الثورة بالقدر المطلوب إلى استغلال الفسيفساء الكنز، والاشتغال على شخصية فرجيل وترجمة "الإنياذة" وصيانة ذاكرته والتعويل عليها لتكون وسيلة ترويج سياحي وجذب استثماري، عدا اعتماد اللوحة شعارًا دائمًا لمعرض تونس الدولي للكتاب منذ 2018 تحت إدارة الجامعي والروائي شكري مبخوت.
ختامًا، يمكن القول إنّ العالم كلّه يرى وجه "فرجيليوس" يطلّ من تونس لينثر بذور الفنّ والأدب على أديم الحياة إلاّ أنّنا نحن التونسيّون يبدو أننا لا ندرك ذلك بعد.
اقرأ/ي أيضًا:
دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"