04-يوليو-2023
جورجيا ميلوني وقيس سعيّد

الأمر يزيد تعقيدًا بخضوع أوروبا لعاصفة شعبوية ينتظر أن تسحق الكثير من الحقوق والحريات

مقال رأي 

 

لا ينفك الليبراليون التونسيون يتطلعون نحو البرلمان الأوروبي وبقية المؤسسات الأوروبية والغربية عمومًا  لمعرفة الموقف مما يحصل عندنا من إغلاق القوس الديمقراطي، وما يتبع كل ذلك من استيلاء السلطة التي يرأسها قيس سعيّد على كل المؤسسات، وسعيه الحثيث نحو تركيز سلطوية تعود بالوضع إلى ما كان عليه حتى قبل الانفتاحات الديمقراطية لنظامي بورقيبة وبن علي.

هناك عادة قديمة لدى الديمقراطيين التونسيين إذ يعتقدون أن موقفًا أوروبيًا مناصرًا للديمقراطية في تونس قد يغيّر الأمور، أو أنه قد يساعد في الحد الأدنى على إطلاق انفراجة ديمقراطية في السياق السلطوي الحالي في تونس

هذه عادة قديمة لدى الديمقراطيين التونسيين الذين يعتقدون أن موقفًا أوروبيًا مناصرًا للديمقراطية في تونس قد يغيّر الأمور، أو أنه قد يساعد في الحد الأدنى على إطلاق انفراجة ديمقراطية في السياق السلطوي الحالي في تونس. كان الأمر هكذا باستمرار، ولكن النتائج كانت أيضًا محدودة باستمرار. 

هناك إشكال في النظرة لأي موقف أوروبي تجاه الوضع في البلدان التي تشهد تركيزًا للسلطوية أو تخليًا عن المقاييس الديمقراطية. منبع هذا الإشكال هو في الاعتقاد بأن الديمقراطية أمر هام جدًا لأوروبا إلى الحد الذي يجعلها تغير أولويات علاقاتها الدولية. هذا ما يجعل الكثير من الديمقراطيين يلومون الأوروبيين اليوم على ما يسمونه خضوعًا للابتزاز في موضوع الهجرة غير النظامية بما يؤدي إلى جعل الديمقراطية في تونس في آخر سلم اهتماماتهم.

يشير الديمقراطيون عرضًا إلى موضوع المصلحة الأوروبية من وجود أنظمة استبدادية في معرض تعبيرهم عن هذا الاستياء. المشكل أن هذه المسألة غير عرضية إطلاقًا، بل أساسية، وهي تحدد باستمرار السياسات الأوروبية تجاه الدول الأخرى، بغض النظر عن وضعية الديمقراطية فيها.

منذ سنة 2010، أي منذ ما قبل الثورة في تونس، وأوروبا تقدم لنا درسًا بليغًا في علاقتها بالمسألة الديمقراطية ليس خارج حدودها فقط، وإنما أيضًا داخلها. هذا الدرس هو المجر حيث يحكم الشعبويون منذ ثلاثة عشر عامًا، وحيث لم يكن بإمكانهم الاستمرار في الحكم وفي قتل الديمقراطية وتوازن السلطات وحرية الإعلام واستقلال القضاء دون الصمت الأوروبي الفاضح.

منذ سنة 2010 وأوروبا تقدم لنا درسًا بليغًا في علاقتها بالمسألة الديمقراطية من خلال المجر حيث يحكم الشعبويون منذ 13 عامًا، في ظل صمت أوروبي فاضح

بل إن الأمر لم يتعلق بالصمت فقط: لقد مولت أوروبا ما يحصل في المجر ومنحت حكومة أوربان من التمويلات ما سمح لها بتحقيق نتائج نمو جعلت المزيد من المجريين يعتقدون أن سياسته الاقتصادية ناجحة، وأنهم يغنمون من هذه السياسة.

بل إن بولونيا نفسها قد دخلت نفس الطريق، وأصبح سياسيوها الشعبويون يرون في فيكتور أوربان نموذجًا ناجحًا يجب اتباعه. لقد أصبح التهديد الشعبوي للديمقراطية الليبرالية يتم من داخل أوروبا، ولا يقع فقط في أطرافها أو على حدودها. بل أكثر من ذلك، يبدو أن هناك نوعًا من التأقلم الأوروبي مع هذه التهديدات، وقبولاً بالخضوع لابتزازها.

لنذكر بما ميّز سياسات فيكتور أوربان في المجر منذ تشكيله أول حكومة أغلبية شعبوية بها في 2010، وسنفهم لماذا لا يثير الأوروبيين كثيرًا ما يقع في تونس، فضلاً عن سعيهم للحد من تأثيراته. لقد وقع أكثر منه في المجر، ويقع نفس الشيء اليوم أيضًا في بولونيا، ولا أحد يعلم ما سيقع قريبًا في بلدان أخرى حيث تحصد الشعبوية نجاحات يومية.

فمباشرة غداة فوزه بالانتخابات في 2010، أنشأ أوربان بتشريع خاص هيئة تشرف على الإعلام والاتصالات يعين رئيسها بنفسه مباشرة ما منحه سيطرة على كل المنصات الإعلامية بما في ذلك شبكة الإنترنت، فتحول كل الإعلام إلى ما يشبه الإدارة الحكومية تمامًا.

كما سيطر غداة انتخابه عبر حزبه على المحكمة الدستورية، إذ أصبحت كل الترشيحات لعضويتها تمر عن طريق الحزب، ووقع رفع يدها بالكامل تقريبًا عن المسائل التي تخص التصرف في المال العام. وهكذا اندثرت المحكمة الدستورية تمامًا من المشهد العام رغم بقائها هيكلًا رسميا للدولة.

أما باقي القضاة فقد أصبح بإمكان الحكومة نقلهم كما تريد، وتوجيه القضايا إلى القضاة المضمون ولاؤهم، بل وإحالة عدد كبير منهم إلى التقاعد عن طريق تخفيض سن تقاعد القضاة من سبعين إلى 62 عامًا. أصبح بإمكان الحكومة أيضًا عن طريق تشريعات جديدة حل البرلمان، والسيطرة على البنك المركزي الذي فقد كل استقلالية.

منع أوربان المعارضين من ولوج وسائل الإعلام التي سيطرت حكومته عبر تشريعات أخرى على الرخص الممنوحة لها للنشاط، وشكل إعلامًا حكوميًا استعمله فقط للدعاية لسياساته. الحقيقة أن فيكتور أوربان قد تمكن من ذلك أيضًا عن طريق وضع دستور جديد منذ تحقيقه الأغلبية البرلمانية التي سمحت له في 2010 بتشكيل الحكومة، وهو دستور أخضع كل السلطات له. كما أصدر قانونًا انتخابيًا جديدًا ضيّق على المعارضة، وتقسيمًا انتخابيًا جديدًا أيضًا منحه حظوظ تجديد الفوز بالانتخابات كل مرة، بل إنه خفض عدد مقاعد البرلمان إلى حوالي النصف.

يجب التذكير بأن الاتحاد الأوروبي قد قبل في 2004 بعضوية المجر فيه على أساس استجابته للمبادئ الأوروبية الديمقراطية، وأساسًا  الفصل التام بين السلطات والالتزام بقيم الديمقراطية الليبرالية.

استغل أوربان الاتحاد الأوروبي من أجل تمويل سياساته الشعبوية، ونالت المجر من تمويلات الاتحاد الأوروبي ما جعلها في أعلى ترتيب الدول الأعضاء الحاصلة على هذه التمويلات

استغل أوربان الاتحاد الأوروبي من أجل تمويل سياساته الشعبوية، ونالت المجر من تمويلات الاتحاد الأوروبي ما جعلها في أعلى ترتيب الدول الأعضاء الحاصلة على هذه التمويلات. بل إن حكومة فيكتور أوربان استعملت جزءا معتبرا من تلك الأموال في تركيز نظام محسوبية رسخ سيطرته على الناخبين.

فيما عدا بعض الدول المتشددة في المقاييس الديمقراطية مثل ألمانيا والدول الإسكندنافية، لقيت سياسات أوربان دعمًا من قبل دول أخرى مؤثرة داخل هياكل الاتحاد، مثل فرنسا التي قدمت باستمرار غطاء للابتزاز المجري. حصل ذلك في موضوع الهجرة بالخصوص، حيث استغل أوربان الهجمات الإرهابية في أوروبا لاتباع سياسة متشددة إزاء المهاجرين تتناقض مع مبادئ الاتحاد الأوروبي الذي اضطر إلى التأقلم معها تحت ضغط الدول الصديقة لأوربان (أقر البرلمان المجري قانونًا يعاقب بشدة أي تعاطف أو مساعدة للمهاجرين غير النظاميين). 

لن يبدأ الاتحاد الأوروبي في الضغط فعليًا على فيكتور أوربان إلا في ربيع هذه السنة، عن طريق اشتراط المساعدات الأوروبية إصلاحات ترسخ استقلال القضاء وحرية الإعلام. سيتوجب أيضًا انتظار آخر شهر ماي/أيار ليصوت البرلمان الأوروبي على قرار يطلب إعادة النظر في تسلم المجر الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الأول من السنة القادمة، وهي رئاسة يفترض أن تتبعها رئاسة بولونيا، مما يعطينا مبدئيًا سنة كاملة من تحكم الشعبويين في السياسات الأوروبية.

لقد استغرقت ردود الفعل الأوروبية حوالي خمسة عشر سنة إذًا لتبدأ في التعبير عن نفسها، وهي فترة استفاد منها الشعبويون في المجر كثيرًا من أجل ترسيخ حكمهم والإطاحة بالمؤسسات الديمقراطية وقتل حرية الإعلام وحقوق المعارضة.

فعليًا فإنهم مولوا معظم تلك الأنشطة بأموال الاتحاد الأوروبي نفسه. هذا درس بليغ للديمقراطيين التونسيين، وهو الدرس الألف في مسيرة التعويل على الضغوط الأوروبية لحماية الديمقراطية في تونس.

الدعم الأوروبي طيلة سنوات للمجر وحكم الشعبويين فيها، هو درس بليغ للديمقراطيين التونسيين، وهو الدرس الألف في مسيرة التعويل على الضغوط الأوروبية لحماية الديمقراطية في تونس

وبغض النظر عن المجادلة بالعلاقة بين المبدأ والمصلحة، فإن الأمر يزيد تعقيدًا بخضوع أوروبا لعاصفة شعبوية ينتظر أن تسحق الكثير من الحقوق والحريات في الفترة القادمة حتى في البلدان التي تعتبر قلاعًا لليبرالية الديمقراطية. يتوقع كثيرون أن تسفر اضطرابات فرنسا الحالية عن تدعيم المشاعر الشعبوية اليمينية لدى الجمهور الفرنسي الناخب، ما سيعطينا بلا شك مشهدًا مرسخًا "للبراغماتية" الأوروبية.

يفترض أن يجعل ذلك الديمقراطيين التونسيين يقتصدون في مساعيهم في هذا الاتجاه، وأن يدفعهم لطرح الأسئلة المزعجة حول طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد، وكذلك طبيعة الأدوات التي قد تسمح بمواجهة ما يحصل. هناك مرض مستفحل في الديمقراطية الليبرالية اليوم، وهذا المرض هو الذي أصاب تونس أيضًا.

الأمر يزيد تعقيدًا بخضوع أوروبا لعاصفة شعبوية ينتظر أن تسحق الكثير من الحقوق والحريات في الفترة القادمة حتى في البلدان التي تعتبر قلاعًا لليبرالية الديمقراطية، يتوقع كثيرون أن تسفر اضطرابات فرنسا الحالية عن تدعيم المشاعر الشعبوية اليمينية لدى الجمهور الفرنسي الناخب

لا ينتظر أن يبدأ شيء فعلياً قبل الإجابة على تلك الأسئلة المزعجة والمؤجلة: ما الذي كرهه الناس في الديمقراطية التونسية حتى نعيش اليوم كل هذا المد الشعبوي؟ وكيف يمكن إصلاح ذلك، أي تقديم نموذج يستجيب لطبيعة التشخيص.

حتمًا إن فشل الديمقراطية يستوجب مزيدًا من الديمقراطية. هذا شعار جميل، ولكن كيف؟ في كل الحالات ليس بالقول إن الأمور كانت على ما يرام، وإن انقلابًا مفاجئًا أطاح بكل البناء. هناك شيئ كبير لا يزال يفلت من شاشة الديمقراطيين اليوم في تونس، وهذا الشيء الكبير أصبح ساحقًا ومتصاعدًا، ما يعني أنه سيتواصل أيضًا لبعض الوقت. عدم رؤية الأمر من هذه الزاوية تقصير عظيم وهو في نظري خطيئة الخطايا.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"