مقال رأي
لم يفهم متابعون كثيرون سر الحماس الذي ما انفك يبديه رئيس الأرجنتين "خافيير مايلي" لإسرائيل ومزايدته في تبني الأفكار الصهيونية الأشد تطرفًا. لقد كانت إسرائيل أولى مهماته الخارجية وهو المنتخب حديثًا والفائز على منافسه وزير الاقتصاد المتخلي "سيرخيو ماسا"، الذي كان يبدو قبل بضع أسابيع أكثر منه حظوظًا للفوز بالرئاسيات.
رئيس الأرجنتين المنتخب حديثًا خافيير مايلي، أنفق حياته المهنية في الأوساط الليبرالية، وعداؤه للأفكار الشيوعية والاشتراكية أمر معلن منذ مدة طويلة، بل كان أحد عناصر خطابه الانتخابي أصلًا
والحقيقة أن "خافيير مايلي" هو أيضًا رجل اقتصاد درّس المسائل الاقتصادية لأكثر من عشرين عامًا بالجامعة، لكن ما أهله للفوز كانت بالذات طبيعة أفكاره الاقتصادية التي وجدت رواجًا في ظل التضخم الذي تشهده البلاد والذي تجاوز المائة والأربعين بالمائة في خضم الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة.
وبالفعل، فإن أهم ما يطرحه "خافيير مايلي" في هذا الخصوص هو ما يسمى بـ"دولرة "الاقتصاد، أي تعويض العملة الأرجنتينية بالدولار، ذلك أنه يعتقد أن أهم سبب للتضخم يعود إلى السياسة النقدية السيئة للحكومات المتعاقبة والتي تعمدت طبع العملة لمواجهة الأزمة، ما أدى إلى نسب تضخم نقدي قياسية في البلاد.
في نظر "مايلي"، فإن المرور إلى استعمال الدولار بدلًا من البيزو، يعني عدم قدرة الحكومة، أي حكومة، في المستقبل على اللعب بالبنك المركزي وبمطبعة النقود لإخفاء عجزها عن حل الأزمة الاقتصادية. أما الوجه الثاني من السياسة الاقتصادية التي وعد الرجل بإرسائها فيتمثل في بناء تحالف اقتصادي قوي مع الولايات المتحدة وإسرائيل. يمكن أن نفهم بسهولة المصلحة من الارتباط بالاقتصاد الأمريكي، ولكن فهم وجود إسرائيل في الخطط المستقبلية للرجل مثير للتساؤل.
"الدولرة" التي ينادي بها "خافيير مايلي"، ستنهي وجود البنك المركزي الأرجنتيني إذا ما وقع المضي فيها، إذ تعني القضاء على السيادة النقدية للأرجنتين على أراضيها، وهو مبدأ مناقض تمامًا للشعبوية
يصنف كثيرون "خافيير مايلي" كسياسي يعبّر عن أفكار أقصى اليمين، ولكن الأمر يحتاج للتدقيق. صحيح أن الرئيس الجديد قد صنع سمعته كخبير ومستشار اقتصادي لدى عدد من المؤسسات المالية المحلية والدولية وآخرها مجموعة العشرين، وأن له أفكارًا اقتصادية تقترب من الليبرالية، لكن تصنيفه في أقصى اليمين يأتي من سوء فهم وخلط بين توجهين، وهو نفس الخلط الذي يجعل الكثيرين يصنفون رئيسة الحكومة الإيطالية "ميلوني" كممثلة لأقصى اليمين. منبع هذا الخلط هو عدم القدرة على تبين الفوارق بين الليبرالية والشعبوية، ذلك أن المختصين في الدراسات الشعبوية يميلون إلى تصنيف "ميلوني"، مثل "ميلاي"، كزعيمين شعبويين أكثر من كونهما من أقصى اليمين.
من المهم التأكيد على أن "خافيير مايلي" قد أنفق حياته المهنية في الأوساط الليبرالية، وأن عداءه للأفكار الشيوعية والاشتراكية أمر معلن منذ مدة طويلة، بل كان أحد عناصر خطابه الانتخابي أصلًا، حيث اعتبر أن انتماء الأرجنتين لمبادرة "البريكس" مجرد عبث، وأنّه ضد مصلحة الشعب الأرجنتيني. لكن الرجل يحمل في الوقت نفسه جملة من المبادئ التي تبدو توليفة عجيبة بين الأفكار الليبرالية والشعبوية.
يؤمن خافيير مايلي بفكرة الفوضوية الرأسمالية، وهي أقصى مراحل الليبرالية، يدفعه ذلك إلى القول بتحرير تجارة الجنس والمخدرات والسلاح وزواج المثليين واختيار المولود لجنسه، لكنه في الوقت نفسه يرفض الإجهاض والقتل الرحيم
إن "الدولرة" التي ينادي بها "خافيير مايلي"، والتي ستنهي وجود البنك المركزي الأرجنتيني إذا ما وقع المضي فيها، تعني القضاء على السيادة النقدية للأرجنتين على أراضيها، وهو مبدأ مناقض تمامًا للشعبوية التي تعتمد في الغالب فكرة السيادة الوطنية، بل وتعتقد أن الليبرالية تؤدي في نهاية الأمر إلى تقويضها، ما يعني خطرًا على وجود الأمة القومية. يؤمن "خافيير مايلي" أيضا بفكرة الفوضوية الرأسمالية، وهي أقصى مراحل الليبرالية. يدفعه ذلك إلى القول بتحرير تجارة الجنس والمخدرات والسلاح وزواج المثليين واختيار المولود لجنسه، لكنه في الوقت نفسه يرفض الإجهاض والقتل الرحيم. هذا خليط فريد بين المبادئ الكاثوليكية والليبرالية المتوحشة.
لكن "خافيير مايلي" يعتبر أن الخيارات الليبرالية هي التي أدت لاستشراء الفقر وتصاعد التضخم إلى نسب غير معقولة في الأرجنتين، بل إنه يدعو لإعادة النظر في قانون العرض والطلب الذي يشكل عمود النظرية الاقتصادية الليبرالية. ينطلق "مايلي" من كل ذلك لإعطاء مضامين شعبوية لرؤاه السياسية والاقتصادية، من حيث رفع شعار مكافحة فساد الطبقة السياسية، والتخلي عن "الوظائف غير اللازمة" في الحكومة.
يدافع خافيير مايلي عن "العلاج بالصدمة" للاقتصاد، وهو ما يعني مبدئيًا سياسات موغلة أكثر في الليبرالية من شأنها زيادة تفقير الأرجنتينيين
يرى "مايلي"، مثل كل الشعبويين، أن الطبقة السياسية تختفي وراء دورها لاستغلال الشعب وتفقيره، في حين أنه لا ضرورة لها. ولإعطاء المثل فقد وعد الناخبين بالتخلي عن أجره كرئيس جمهورية في حالة انتخابه. بين 2021 و2023، تميز أداء "مايلي" كنائب في البرلمان بخطاب شعبوي محرج للحكومة والأحزاب الأخرى، مضفيًا على تدخلاته طابعًا خاصًا تميز بالمشاكسة ومحاولة تقديم نفسه كمدافع وحيد حقيقي على مصالح الشعب.
هذا فعلًا نموذج فريد من الشعبوية، حيث يأتي الفاعل من نواة المؤسسات الليبرالية، ويطرح نفسه كليبرالي متطرف، في حين تتمسك الشعبوية في الغالب بنقد الليبرالية، بل تأتي كرد عليها يفضح مساوءها وتقترح إصلاحات تؤدي في النهاية إلى كبح جماح السياسات الليبرالية. على العكس من السلوك الشعبوي المنتظر، فإن "خافيير مايلي" يدافع عن "العلاج بالصدمة" للاقتصاد، وهو ما يعني مبدئيًا سياسات موغلة أكثر في الليبرالية من شأنها زيادة تفقير الأرجنتينيين. ينبغي أيضًا الإشارة إلى أن "مايلي" قد طرح نفسه كمعارض للسياسات البيرونية، إحدى أول الشعبويات في العالم، والتي حكمت الأرجنتين بطريقة أو بأخرى حتى الانتخابات الأخيرة.
لا يتعلق تعاطف خافيير مايلي مع إسرائيل بوجود قتلى "أرجنتينيين" في عملية 7 أكتوبر.. لقد أعلن أكثر من مرة أن اليهودية أقرب الأديان إلى قلبه، وأنه يفكر في التحول لليهودية
ما علاقة إسرائيل بكل ما سلف؟ يحتاج الأمر إلى الإشارة لبعض الحقائق العامة. تعد الأرجنتين سابع جالية يهودية في العالم بما يناهز الخمسمائة ألف نسمة، يحملون الجنسية الأرجنتينية، ولكن عددًا معتبرًا منهم يحملون أيضًا الجنسية الإسرائيلية، وهو ما يفسر أن عددًا من "الأرجنتينيين" سقطوا في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول بالمستعمرات الصهيونية في محيط قطاع غزة. لا يتعلق تعاطف "مايلي" مع إسرائيل بوجود قتلى "أرجنتينيين" في عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل بمسألة أكثر تعقيدًا. تربط الرجل بحاخام الأرجنتين علاقة شخصية وثيقة، حيث يبدو الأخير أكثر المؤثرين على سياساته تجاه إسرائيل واليهودية بشكل عام. لقد أعلن "خافيير مايلي" أكثر من مرة أن اليهودية أقرب الأديان إلى قلبه، وأنه يفكر في التحول لليهودية (يقتضي ذلك تحويرًا في الدستور الأرجنتيني الذي يفرض أن تكون ديانة الرئيس هي الكاثوليكية في بلاد أكثر من تسعة أعشار سكانها كاثوليك). هناك أيضًا خليط فريد بين الأفكار المسيحانية والبروتستانتية واليهودية تظهر مثلًا في تأكيد "مايلي" أنه يتلقى الوحي "أحيانًا" وأن فوزه بالانتخابات يعود إلى مساندة "رب اليهود" له وحمايته لمسيرته.
لا يجب أن نغفل جملة من المعطيات التاريخية حول الوجود اليهودي في الأرجنتين، حيث بدأت الهجرة أولًا باليهود الأندلسيين الفارين من إسبانيا بعد حرب الاسترجاع، لكن سرعان ما سيطر اليهود الأشكناز على الجالية اليهودية (يمثلون ثمانين بالمائة من الجالية) بفضل مساعي الباروين سيمون دي هيرش منذ بدايات الهجمات ضد اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية في ثمانينات القرن التاسع عشر. شجع دي هيرش، رجل المال اليهودي الألماني، طائل الثروة والمالك لعدة بنوك، الهجرة اليهودية نحو الأرجنتين وموّلها بسخاء كبير من أجل إنقاذ اليهود المطاردين من القتل والجوع، ولكن أيضًا لمنعهم من الوصول لأوروبا الغربية حيث كانت موجاتهم تهدد باندلاع العداء لهم في أوساط المجتمع الغربي حيث كان أثرياء اليهود يعيشون بسلام.
قدمت حملة خافيير مايلي الانتخابية دليلًا على وجود ارتباط وثيق بين المؤسسات الليبرالية الدولية، والممارسة الشعبوية، وخدمة إسرائيل
كان "خوان دي بيرون"، مؤسس الشعبوية الأرجنتينية، من أول المعترفين بقيام دولة إسرائيل في سنة 1949 (بعد سنوات اعتبر فيها متعاطفًا مع النازيين)، وكان ذلك مقدمة لعدد من السياسات التحررية التي منحت الجالية اليهودية فضاءات تأثير اقتصادي ومالي وإعلامي متصاعد منذ ذلك الحين. ظهر تأثير الشبكات اليهودية بوضوح في الانتخابات الأخيرة حيث لعبت كل من قناة "لاناسيون" و"أ 24" التلفزيتان دورًا رئيسيًا في انتخاب "مايلي" عن طريق دعاية مكثفة له وتقديمه كمنقذ للأرجنتين. هذا أول مثال عن استخدام دوائر التأثير الصهيوني للشعبوية في تصعيد مرشحين موالين لإسرائيل حيث قدمت حملة "مايلي" الانتخابية دليلًا على وجود ارتباط وثيق بين المؤسسات الليبرالية الدولية، والممارسة الشعبوية، وخدمة إسرائيل. إن نفس القناتين اللتين يدين لهما "مايلي" بانتخابه هما ذات القناتين اللتين تقودان اليوم حملة العلاقات العامة الصهيونية في الأوساط الأرجنتينية بمضامين لا يضاهيها في تطرفها وعنصريتها إلا الإعلام الصهيوني في إسرائيل نفسها.
يبدو "خافيير مايلي" اليوم موضوع رهان ناجح لعقدة التقت حولها مجموعة من المصالح المخترقة للكيان الأرجنتيني، جغرافيًا وتاريخيًا. هذا الرجل الذي جاء من خضم المؤسسات الليبرالية الدولية، والذي يدين لدوائر التأثير الصهيوني في الأرجنتين وخارجها بإيصاله للرئاسة رغم حداثة عهده بالعمل السياسي، والكاثوليكي المولد الذي صار أكثر ميلًا للمسيحانية البروتستانية وطريقها السريع نحو الصهيونية، والمستعمل لأدوات السياسة والاتصال الشعبويين، هو نموذج سياسي جديد. لكن الخاسر الأساسي في الأرجنتين اليوم هو ما بناه الأرجنتينيون منذ عقود عديدة حول فكرة السيادة الوطنية.
تتحول الأرجنتين مع خافيير مايلي إلى دولة على النموذج الذي تسعى إلى نشره الليبرالية المتوحشة اليوم: دولة بلا سيادة في خدمة مراكز اقتصادية خارجية وفي خدمة مشروع سياسي استعماري عنصري يسمى الصهيونية
تتحول الأرجنتين مع "خافيير مايلي" إلى دولة على النموذج الذي تسعى إلى نشره الليبرالية المتوحشة اليوم: دولة بلا سيادة في خدمة مراكز اقتصادية خارجية وفي خدمة مشروع سياسي استعماري عنصري يسمى الصهيونية. هنا، لا تمثل الشعبوية سوى المسلك الأكثر أمانًا، باعتبار التقاليد التي أرستها الشعبوية في المزاج العام منذ "بيرون" قبل ثمانين عامًا. هذا نجاح مزدوج وخارق للثنائي الذي تمثله اليوم الليبرالية والصهيونية. تتحول الشعبوية بسهولة، باعتبارها نظرية سائلة، إلى محمل آمن لأكثر الأفكار التي جاءت أصلًا كتعبير عن رفضها، وهي الليبرالية. إنها في مثال "مايلي" لا تحمل تحت عباءتها الليبرالية فقط مع كل وعود التفقير وفقدان السيادة، بل الصهيونية أيضًا كنظام أفكار استعماري عنصري.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"