"أنا جنوبي يحنّ إلى الشمال والصقيع" هكذا كتب الطيب صالح على لسان مصطفى سعيد، بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال. ما يناهز الـ 16300 مهاجر تونسي غير نظامي وصلوا إلى السواحل الإيطالية حسب آخر تحيين للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى حدود آخر تحيين منذ 27 أكتوبر/تشرين الثاني 2022. رقم هو الأعلى منذ شتاء 2011 عقب سقوط نظام بن علي. بمعدلات تضخم ناهزت الرقمين وتعديلات آلية للأسعار، مع التلويح برفع الدعم، من المرجح أن الاتفاق المقبل مع الصندوق النقد الدولي ستكون له آثار سلبية على البنى الاجتماعية والاقتصادية، ما يعني مزيد تدفق قوارب الهروب نحو الشمال. هذا من وجهة نظر علم الاجتماع.
الباحث في علم النفس وائل القرناوي له طرح مغاير للسائد فيما يخص دوافع الهجرة عرضه في أطروحته التي ناقشها بداية سنة 2021 بعنوان "حرقة والرغبة في الغرب في زمن الجهاد" والتي صدرت مؤخرًا في كتاب بنفس العنوان عن دار نيرفانا للنشر
لكن الباحث في علم النفس وائل القرناوي له طرح آخر فيما يخص دوافع وأسباب الهجرة، سواء النظامية أو غير النظامية، عرضه في أطروحته التي ناقشها بداية سنة 2021 بعنوان "حرقة والرغبة في الغرب في زمن الجهاد"، والتي صدرت مؤخرًا في كتاب بنفس العنوان عن دار نيرفانا للنشر. نعرض فيما يلي ما جاء في حوار خاص لوائل مع الترا تونس حول ما جاء في الكتاب:
- غالبا ما يتم ربط عملية الهجرة غير النظامية بعوامل اقتصادية واجتماعية. لكن في أطروحتكم، تعرّضتم إلى المحفّزات النفسية لعملية الحرقة، ما أسميتموه بـ"مركّب عدم القدرة على التنقل". كيف توصلتم إلى هذا التشخيص؟ وماهي أهم تمظهراتها؟
ما توصلت إليه هو ثمرة بحث ميداني ولقاءات متعددة مع مهاجرين سواء نحو أوروبا أو بؤر التوتر. وتصادف أن تزامن انطلاقي في إعداد الأطروحة مع تأسيس "داعش" وصعود ظاهرة الهجرة للجهاد آنذاك. لقد كان ظرفًا استثنائيًا عاشه العالم بأسره، وهذا بين من عنوان الأطروحة. لفت نظري حينها أحد الشباب الذين أجريت مقابلة معهم، شاب لا تظهر عليه علامات التدين فعلًا أو مظهرًا، إلا أنه قال إنه لم يظفر بـ "حرقة"، فسيتوجه نحو داعش.
وائل القرناوي (باحث في علم النفس): حاولت توجيه أبحاثي نحو تفكيك الرابط بين الهجرة نحو أوروبا والهجرة نحو الجهاد وكانت النتيجة أن للحرقة أسبابًا أخرى منها الإحساس بعدم القدرة على الحركة خارج الحدود المرسومة لبلد شهد ثورة من أجل الحرية
وكان هذا مثيرًا للحيرة إذ ما الرابط بين الهجرة نحو أوروبا والتي لها مبررات مادية بالأساس، والهجرة نحو الجهاد، الذي عادة تكون دوافعه دينية؟ فحاولت توجيه أبحاثي نحو البحث عن إجابة لهذا السؤال، من خلال مقابلة أفراد يتبنون آراء متشابهة: الهجرة إما نحو أوروبا أو نحو داعش. وكانت النتيجة أن للحرقة بصفة عامة أسبابًا أخرى منها الإحساس بعدم القدرة على الحركة خارج الحدود المرسومة لبلد خاض أفراده غمار ثورة من أجل الحرية. فماهي الحرية من دون حرية تنقل؟ الحرية لا يمكن أن تكون محدودة.
هناك حالات أخرى أيضًا تعرّضت لها منها حالة كتبت عنها في الأطروحة، أحد الشباب الذي كان يقوم بجمع المال للهجرة نحو أوروبا، لكنه تعرّض لحادث يمنعه من ذلك، فصار يعتزم الهجرة نحو داعش. يعني داعش أصبحت ربما خيارًا ثانيًا لهؤلاء المهاجرين. وبالمناسبة هناك الكثيرون ممن شدوا الرحال في البداية نحو بؤر التوتر وانتهى بهم المطاف كمهاجرين يعيشون حياة كحياة من هاجر مباشرة نحو أوروبا.
- من المفهوم أن المهاجر أو "الحارق" نحو أوروبا هو مهاجر باحث عن ظروف حياتية أفضل. لكن عما يبحث "الحارق" نحو بؤر التوتر؟
أولًا يجب علينا التنسيب. أنا لا أُشابه أو أربط بين الهجرة نحو أوروبا والهجرة نحو بؤر التوتر. لكن بالنسبة لي فقط هناك بعض الدوافع المشتركة كالحرمان من حق التنقل. كثير من حالات كان هدفها الأساسي هو "الهجة" ولا شيء غيرها والخروج من تونس نحو فضاء ربما يكون أرحب بالنسبة لهم.
وائل القرناوي: المهاجر بصفة عامة هو باحث عن ظروف أفضل بالنسبة له، لم تتحها له تونس على الأقل، والكثير من الحالات كان هدفها الأساسي هو "الهجة" ولا شيء غيرها والخروج من تونس نحو فضاء ربما يكون أرحب
المهاجر بصفة عامة هو باحث عن ظروف أفضل بالنسبة له، لم تتحها له تونس على الأقل. أيضًا كان لداعش في تلك الفترة "ماكينة" دعائية كبيرة. أتذكّر أيضًا مقطعَ فيديو دعائيًا بعنوان "بين الهجرتين"، وتطرّقت له في الكتاب، أين يعرض الفيديو صورًا من الظروف القاسية في أوروبا التي يعاني منها المهاجرون، وما تعرضه داعش في المقابل من ترحاب وإحاطة بهم، طبعًا مع عملية مفاضلة بين الموت في سبيل "الجهاد" والجنة بعده، أو الموت في سبيل أوروبا، وهو ما يعتبر إلقاء بأنفسهم إلى التهلكة يترتب عنه عقاب الآخرة. طبعًا نتيجة البحث مرتبطة أيضًا بالسياق والزمان الذي أجري فيه. داعش حينها كانت جاذبة للمهاجرين. ربما لو أجريت البحث في زمن وسياق آخرين ربما لتوصلت إلى نتيجة مختلفة.
- ربطتم في أطروحتكم بين الهجرة نحو الجنة الأوروبية والهجرة نحو بؤر التوتر، وتوصلتم، عبر ما عرضتموه من شهادات، إلى أن هناك رغبة لا تقاوم في "الهجة" لدى فئة واسعة من التونسيين، وكأن الغاية القصوى هي المغادرة فقط. ألا ترون أن هذا يوحي بوجود ربما حالة من الاغتراب لدى هؤلاء المهاجرين، أي ربما هي هجرة للبحث عن الذات من وجهة نظر التحليل النفسي؟
يقع استعمال كلمة "الهجة" كثيرًا في المتداول التونسي، أو "نهج ونخليهالهم واسعة وعريضة"، وهو تعبير عن حالة هيجان أو انتفاض ضد سائد ما أو واقع معيشي. تعني "الهجة" كذلك ذهابًا دون رجعة، ونوعًا من الرفض والتخلي نتيجة كره للذات وللمكان، ما ينتج عنه رغبة شديدة في التغيير ربما. وهذا بالمناسبة هو ما يجمع كثيرًا من المهاجرين سواء بطريقة نظامية أو غير نظامية.
القرناوي: التقيت الكثير من المهاجرين من أطباء ومهندسين كانت لديهم نية السفر للسياحة إلى أن اصطدموا بجدار "الفيزا" فتحوّلت الحدود لما يشبه الأسوار الخانقة وأصبح لديهم إحساس بأنهم محكومون أبديًا بالعيش في تونس، ما يولّد إحساسًا بضرورة الهروب
من بين المقابلات الميدانية التي أجريتها، تحاورت مع الكثير من المهاجرين من أطباء ومهندسين بفرنسا، الذين كان لديهم نية السفر ربما للجزائر للعمل أو أي بلد آخر للسياحة، إلى أن اصطدموا بجدار "الفيزا"، فتحوّلت الحدود إلى ما يشبه الأسوار الخانقة. وأصبح لدى هؤلاء إحساس بأنهم محكومون أبديًا بالعيش في تونس، ما يولد أيضًا إحساسًا بضرورة الهروب.
نرى هنا العملية الحسية والنفسية التي تسبق الهجرة. حتى لدى من يعيشون في ظروف اجتماعية جيدة، يهاجرون ويتشبثون بالهجرة. لا ننسى هناك التأثير الثقافي الأوروبي والترابط التاريخي بين تونس وأوروبا: نستمع إلى الراديو ونشاهد التلفاز الإيطالي منذ الصغر، لكن لا نستطيع السفر نحو بلد يبعد عنا أقل من ساعة؟ ما معنى هذا؟ يتابع الكثير من التونسيين الدوريات الرياضية الأوروبية لكنهم لا يستطيعون حضور المباريات في الملعب. صحيح أننا نتحدث عن كماليات وترف مادي، لكنها تبقى عوامل وأحاسيس تنتج عنها رغبة عارمة في الهجرة.
- تناولتم كذلك عملية السعي المحموم نحو ضمان البقاء، أو "هاجس الأوراق" كما شخصتموه في الكتاب، لدى المراهقين دون الـ 18. لكنكم كذلك أشرتم إلى وجود ذات الهاجس لدى المهاجرين بطريقة نظامية ممن قمت بلقاءات معهم. ماهي الآثار البعدية الأخرى لعملية الهجرة والحرقة.
أكبر الآثار هي الصدمة التي يعيشها المهاجرون فور وصولهم وما يتعرّضون له من صعوبات في العثور على عمل، خاصة للمهاجرين غير النظاميين، عندها يتحطّم صنم الحلم الأوروبي. لكن هناك من ينكر ويكابر ويتشبث بفكرة الجنة الأوروبية، رافضًا فكرة أنه هاجر وتكبد الصعوبات وضحى بحياته من أجل شقاء مضاعف. كذلك لا يمكن إنكار أنه يتوفر له اقتناء بعض الملابس أو استهلاك أشياء كانت تبدو له صعبة المنال في تونس. بالنهاية، ينتج عن ذلك، نعني الإنكار وبعض الأغراض الاستهلاكية كحذاء رياضي فاخر، إعادة إنتاج فكرة الحلم الأوروبي.
القرناوي: أكبر الآثار للهجرة هي الصدمة التي يعيشها المهاجرون فور وصولهم وما يتعرّضون له من صعوبات في العثور على عمل، خاصة للمهاجرين غير النظاميين، عندها يتحطّم صنم الحلم الأوروبي
طبعًا هناك من يواجه الحقيقة ويحاول أن يكون واقعيًا، إلا أنه يجابه من قبل أصدقائه، "أولاد الحومة"، بأنه يكذب ويخفي الحقيقة محاولًا ثنيهم عن الالتحاق به وبالتالي احتكار الحلم الأوروبي لنفسه. وهنا المفارقة، أي ما يشبه الحلقة المفرغة، والنتيجة هي مزيد تدفق القوارب والأعناق المشرئبة نحو الغد الأفضل وراء البحار. لا ننسى أيضًا أن هناك من ينجحون في تحقيق الحلم الأوروبي، وهم قلة. لكن نغض الطرف عن آلاف الجثث، والمرحلين، لأن التجارب الفاشلة لا ترى، ولا نتكلم عنها، لأن الطبيعة البشرية تصر على رؤية ما يسرها.
- ذكرتم أن المهاجرين، سواء النظاميين أو الحراقة، يعانون من هاجس التنظم والاندماج، ومن ضغط الحصول على الأوراق، كما أشرتم إلى وجود حاجز نفسي يمنع هؤلاء من العودة. ما هي موجبات وجود هذا الحاجز؟
في البداية وجب الفصل بين المهاجرين حسب السبب وطريقة الهجرة: هناك من يهاجر للدارسة وبالتالي يستغل فترة العطل إما للمعاملات الإدارية لتجديد الإقامة والتربصات والعمل، وهناك من لا يستطيع العودة لأنه سيكون عرضة إلى الترحيل القسري بلا رجعة ويتهدده السجن في تونس لاجتيازه الحدود بطريقة غير نظامية، ولا ننسى أن هناك آمالًا لدى أفراد عائلته مثلًا الذين ينتظرون عودته ظافرًا. كذلك المهاجرون من الإطارات الذين تضطرهم عقود عملهم إلى العمل سنتين أو ثلاث سنوات متتالية دون انقطاع ليتحصلوا على بطاقة إقامة طويلة الأمد نسبيًا.
وهنا، عند البقاء سنتين أو ثلاثة فما أكثر دون عودة، تنقطع كثير من أواصر الارتباط مع تونس، من علاقات وغيرها، ويبقى فقط الحنين أو الشوق، وتصير حالة من الغياب المزدوج le double absence، والعبارة للباحث الجزائري عبد المالك صيّاد: فالمهاجر ليس فرنسيًا، وبالتالي تقريبًا لا علاقة له بالشأن العام فيها وما يدور حوله، وبالنسبة لتونس فهو مهاجر وتقريبًا لا يعنيه مباشرة ما يحدث بها من سياسة أو غلاء، إذ لن تؤثر به مباشرة، على الأقل من وجهة نظر المجتمع نحوه. فينتج نوع من الاغتراب والإحساس المضاعف بالغربة.
القرناوي: عندما ترفض الفيزا لطالب هجرة، يحس بنوع من العنصرية وبأنه رفض لشخصه وهويته وأنه لا ينتمي ولا يمكن أن ينتمي للعالم الذي يطلب السفر إليه، خاصة حين يعلم أن أغلب سكان الشمال لهم الحق في السفر لبلاده دون فيزا أحيانًا
هناك أيضًا الإحساس بالدونية، بناء على نظريات فرانز فانون عند نقده للمدرسة الجزائرية للطب النفسي الاستعماري، أي أنه عندما ترفض الفيزا لطالب الهجرة، يحس بأنه رفض لشخصه وهويته، وبنوع من العنصرية وبأنه لا ينتمي ولا يمكن أن ينتمي للعالم الذي يطلب السفر إليه، خاصة حين يعلم أن أغلب سكان الشمال لهم الحق في السفر إلى بلاده بدون فيزا أحيانًا. وبالمناسبة، صحيح أن دراستي بالأساس حول التونسيين في علاقة بوجهتهم الأوروبية، لكن يمكن تعميم النتائج في علاقة بعالم الجنوب وعالم الشمال. أي أنه يمكن أن نجد تشابهًا كبير في الأسباب والنتائج لدى المهاجرين من البيرو مثلًا نحو الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا.
- يعيش المهاجرون في أوروبا، وخاصة في فرنسا، ضمن مجتمعات صغيرة معزولة داخل مجتمعهم الأوروبي. ألا يعني هذا فشل سياسات الإدماج في هذه البلدان؟ وربما غياب رغبة جدية في ذلك؟
حسنًا، أنا لدي انتقادات شديدة تجاه سياسات الإدماج ومصطلح "إدماج" تحديدًا. إذ لا يمكن الحديث عن الإدماج دون وجود إقصاء. فالإنسان اندماجي ويندمج بطبعه. ونفس الطرح بالنسبة إلى محاولات إدماج المهاجرين من جنوب الصحراء في تونس. فالأجدى معالجة أسباب الإقصاء قبل الحديث عن محاولات الإدماج.