12-سبتمبر-2020

كان حمودة في مهمة مصيرية وهي البحث عن إمكانية "حرقة" تشوّقًا لحياة أجمل (جون كروكس/ جيتي)

 

لنتفق منذ البداية أن هذا البورتريه هو لرجل حقيقي  من عامة التونسيين، يسير بيننا، نراه ولا نراه. جلست إليه لأكثر من عشر ساعات، في طريقنا من جرجيس إلى العاصمة كان نصفها بوحًا ونصفها الآخر تساؤلًا وبحثًا في أسئلة الوجود... وما يهمنا هنا هو النصف الأول والبعض من النصف الثاني.

في الأدب قد نستعير كل شيء لنرسم باللغة ما نشاء لكننا لا نستطيع أبدًا استعارة طيف دمعة على خدّ رجل خرّبته الأيام وطوّحت به الأحزان وتحطمت كل سفنه فتركته وحيدًا على شاطئ الحياة... وإن كل ما خطه الأدباء والشعراء هو مجرّد محاولات لتبرئة الذمة لأن حزن الرجال أعظم من الاستعارات وأعظم من الأدب.

نشأ "حمودة" كواحد من أبناء الشمس، كان ولوعًا بكرة القدم وكانت "ساحة العملة" ملعبهم المشتهى عندما تخفت الحركة بوسط البلد وتشرع العاصمة في النوم

لم يكن "نهج الملّاحة" بالعاصمة أو "ري دي سلين" كما يحلو للتونسيين تسميته، والذي يربط "الحفصية" آخر تخوم المدينة العتيقة  بالمدينة الحديثة، مكانًا شهيرًا لولا جغرافيته العجيبة التي تشبه جزيرة صغيرة في محيط واسع.

هنا في هذه المنطقة الخرافية المأهولة بالأسى والعنف حيث الفقر يقينًا ورفيقًا حميمًا، وحيث القلوب تعيش أيامها الصقيعية على أجنحة أحلام بسيطة بتغيير الحال. هنا يسكن أبناء الشمس ويركبون خيوطها المنعكسة في الأزقة الضيقة ويحولونها إلى خبز بلون الذهب.

في "ري دي سلين"  نشأ "حمودة" أو "بوحميد " كواحد من أبناء الشمس. كان ولوعًا بكرة القدم وكانت "ساحة العملة" ملعبهم المشتهى عندما تخفت الحركة بوسط البلد وتشرع العاصمة في النوم. وكان أبناء الحي يلقبونه بـ"فلكاو" نسبةً إلى اللاعب البرازيلي الشهير "روبرتو فلكاو" والذي صنع في سبعينات القرن الماضي أمجاد نادي روما الإيطالي، لكن الفتى "حمّودة" لم يذق مجد الملاعب مثل "فلكاو"، فانقطع مبكرًا  وسرح وراء القوت في أزقّة الحي وتوق عائلته للخروج من بيت السطح الذي ولد به منذ تسع وأربعين سنة وبقي يقطر إلى اليوم كلّما أمطرت. كان والده "حمّالًا" في أوج شبابه لكنه انتهى فارشًا لبسطة على رصيف الشارع الرئيسي يبيع فيها السجائر المهرّبة.

يقول حمّودة إنّه في "ري دي سالين" نهل من جوهر الحياة وتشرّب شيم الصبر والإصرار والمثابرة والمغالبة من عند الجدات الرائعات المكافحات اللاتي عشن بأنفة وكبرياء رغم الشقاء وقسوة الأيام. ويضيف:"أمّا قيم الشجاعة والمغامرة والرجولة فقد رسخت لدي من عند فتوّات الحي اللذين كنا ننظر لهم بانبهار شديد في الصغر وخالطناهم عندما تقتق الجسد بنيانه، لقد كانت لهم نظرة أخرى للحياة هي مزيج من العنف ضد السلطة والفقر وغطرسة الأغنياء، والصمت والحب والنّبالة والقوة. وخلاصة هذه القيم هي أن تتعلم كيف تموت واقفًا تمامًا كالأشجار".

 لم تكن رحلته رحلة استجمام بالشواطئ اللازوردية بأقصى الجنوب الشرقي التونسي، بل كان، حسب اعتقاده، في مهمة مصيرية وهي البحث عن إمكانية "حرقة" تشوّقًا  لحياة أجمل 

التقيت "حمّودة" ذا الجسد النحيل والعينين الزائغتين على متن قطار قابس في رحلة عودة من مدينة "جرجيس" إلى العاصمة... كان رجلًا حذرًا في جلسته، حركاته، نظراته من نافذة القطار إلى حقول الزياتين التي تملأ الفضاء الخارجي، إجاباته المقتضبة على مكالماته الهاتفية، تظاهره بالنوم، وحتى في تيهه من وراء النافذة كان حذرًا.

قضّى حمودة في جرجيس أكثر من أسبوع، لم تكن رحلته رحلة استجمام أو تمتع بالشواطئ اللازوردية هناك بأقصى الجنوب الشرقي التونسي، بل كان، حسب اعتقاده، في مهمة مصيرية وهي البحث عن إمكانية "حرقة" إلى الضفة الأخرى من المتوسط  تشوّقًا  لحياة أجمل بأوروبا بعد أن استحالت "الخبزة" في تونس ومال طعمها إلى المرارة.

لكن الغريب  في قصة "بوحميد" أنّه كان "يلوّج على خيط لولدو" أي لم يكن هو المعني بعملية اجتياز الحدود خلسة، بل ابنه البكر الذي يبلغ من العمر واحدًا وعشرين سنة والذي انقطع عن الدراسة منذ سنتين وتاه في أزقة المدينة "يلقّط في خبزة مرّة عند ناس ما تعرفش ربّي... الطفل كان يكمّل هكة يضيع  ويشد طريق بوه... ما نحبوش يعيش مرمد كيفي".

حمودة  يتابع أخبار "الحرقة" بدقة شديدة كما يتابع رجال الأعمال أخبار البورصة، فهو يعرف جيدًا كل التفاصيل: الرؤوس المدبّرة والوسطاء بأسمائهم الحركية وكنياتهم  وأماكن الانطلاق ونقاط الرّسو بالشواطئ الإيطالية ونقاط العبور...

"بوحميد" يتابع أخبار "الحرقة" و"الحرّاقين" بدقة شديدة كما يتابع رجال الأعمال أخبار البورصة، فهو يعرف جيدًا كل التفاصيل: الرؤوس المدبّرة والوسطاء بأسمائهم الحركية وكنياتهم  وأماكن الانطلاق ونقاط الرّسو بالشواطئ الإيطالية ونقاط العبور بالحدود الأوروبية والعصابات الفرنسية المختصة في نقل المهاجرين العالقين بإيطاليا... كما يتابع النشرة الجوية البحرية ليعرف استقرار الأمواج، وهنا يقول: "أنا قديم في الدومان" لأنه حسب تصريحه سبق أن "حرق"، وكان ذلك  قبل الثورة:  "وقت كانت الحرقة فال وما ينجموها كان الرجال الصحاح" واجتاز الحدود رفقة زمرة من أبناء حيّه انطلاقًا من ميناء تونس: "وسط  بابور كبير" في اتجاه إيطاليا ثم تحول إلى ألمانيا حيث قضّى سنة كاملة ليقبض عليه فيما بعد إثر جريمة قتل أحد التونسيين كانت قد جدت في المدينة حيث يقيم، وقد تمّت إعادة ترحيله عنوة إلى تونس رغم إلحاحه وتوسّله الطلب بالبقاء، "لقد قلت للقاضي الألماني إنني أريد أن أعيش بينهم ولا أريد العودة إلى جحيم الميزيريا".

 عاد مجددًا إلى مربّع الأجداد بنهج الملاّحة (ري دي سالين)، يسكنه الإحباط  وتتقاذفه أمواج الخذلان واليأس. اشتغل على الرصيف بائعًا لسلع شتّى ونادلًا وبائع غلال وموزع خبز بإحدى المخابز المدينة... ودخل السجن لتعنيفه بعض أعوان البلدية. لكنّه راكم تجربة حياتية متنوعة جعلته يتعلّم كيف يربي الأمل من جديد فتاقت مهجته مرة أخرى إلى تلك الضفاف البعيدة بأوروبا، لكن هذه المرّة رسم أحلامه مع ابنه الذي يعتبره صديقًا وأخًا وأبًا... وقرر أن ينحت لابنه مصيرًا غير المصير الذي عاشه هو.

"حمودة"، بعد أن نضجت في ذهنه فكرة "الحرقة" واستوفى جمع الأموال اللازمة لإتمام العملية، قام بالتنقل في الآونة الأخيرة إلى مدينة جرجيس التي يعتبرها حاليًا عاصمة من تقطعت بهم السبل من الشباب التونسي الطامح لتغيير حياته وحتى من غير الشباب. لقد كانت الرحلة لاستكشاف الأمر وترويض المكان و "ربط كل الخيوط اللازمة مع الحراقة". أكّد أنّه ستليها رحلة أخرى رسمية لتنفيذ العملية والمرور إلى جزيرة الإغواء  "لمبيدوزا".

حمودة الأب الذي تحطمت كل سفنه في تونس يريد أن ينقذ ابنه بمجازفة تشبه رمية النرد 

الأيام التي قضاها هذا الأب بمدينة جرجيس اشتغل خلالها بأحد النزل كعامل حراسة وذلك بترتيب من أحد الوسطاء من العاصمة.

ليس بعيدًا عن مقرّ العمل وبإحدى الشواطئ المهجورة والوعرة، التقى ذات ليلة مقمرة "حرّاقًا" ومعاونيه وتحدث إليهم في الأمر ووقف بحدسه الأبوي وخبرته وتجربته الحياتية القاسية على مدى إمكانية نجاح المهمة من عدمها وأهم المواعيد القادمة لقطع البحر خلسة فأعلموه أن هناك نوعان من الحرقة: واحدة بشراكة مع المافيا الإيطالية وهي الأغلى ثمنًا، وأخرى يتمّها تونسيون وهي أقل ثمنًا مع وجود نسبة لفشلها سواء جراء المداهمات الأمنية البحرية التونسية أو الإيطالية  أو جراء العوامل المناخية أو المفاجآت الميكانكية التي يمكن أن تطرأ على "الشقف".

وأكّد حمودة أنّه شهد في ذات الليلة عملية حرقة ضمن مشهد درامي محمول على إيقاع صمت البحر ودموع ووداعات المغامرين وشجاعة وصلابة الحراقة.

حمودة الأب الذي تحطمت كل سفنه في تونس يريد أن ينقذ ابنه بمجازفة تشبه رمية النرد فربّما قد تتجمل حياته ويصبح لها معنى غير ذاك الذي رتبته له الأقدار منذ تسع وأربعين  سنة.

أكيد أن "بوحميد" الآن هو بصدد ترتيب حقائب الذكرى وإعداد تمائم السفر والجلوس للمرة الأخيرة بمقهى روما بالعاصمة لسرد التوصيات الأخيرة لابنه البكر في انتظار المكالمة الهاتفية الأولى من "لمبيدوزا"، فتتبدّد مرارته ويونع الأمل في قلبه من جديد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الحرقة" في تونس: بين انتشارها كثقافة شبابية جديدة.. وظاهرة "الفراريزم"

بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"