يعيش عدد من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس تجارب إنسانية تجمع بين الألم والأمل، غير أن هذه التجارب سواء كانت فاشلة أم ناجحة فإنها تخلق انطباعًا يدوم وربما يعمم، فإن كانت التجربة ناجحة فيرى الكثيرون من زاويتها ويبنون عليها آراء ومواقف، وإن كانت التجربة فاشلة تتشكل خلالها صورة سلبية يصعب محوها من أذهان الناس، لكن مرافقة التجارب الشخصية لهؤلاء الأشخاص يمكن أن تقلل من التصنيفات الجاهزة والتي لا تخلو من رائحة العنصرية خاصة عندما يتعلق الأمر بشبان من دول جنوب الصحراء الإفريقية.
- مانويل.. شاب يتسول
يقف الشاب الإفريقي تحت غطاء ظلام دامس يشقه ضوء خافت أمام متجر يبيع المواد الغذائية، في ضاحية رادس جنوب العاصمة التونسية، يمد يدًا ويخفي الأخرى، ترى شفاهه تتحرك بنسق سريع يتمتم بكلمات لا يفهم منها بأي لغة بين الفرنسية والإنجليزية ولهجات أخرى، لا ينتبه المارة إليه وربما لا يعيرونه اهتمامًا فقد استفحلت ظاهرة التسول كثيرًا في السنوات الأخيرة. استوقفتني الصورة وأنا أمر أمامه إلى المتجر قبل أن أغادره، وأقف أمامه لينظر إلي بنظرة حزينة تستجدي المال، توقفت وحولي هالة من الأسئلة تبحث عن إجابات، فما الذي دفع بهذا الشاب أن يقف هنا في هذا المكان يبحث عن مال وكيف جاء إلى تونس؟ أيعقل أن يكون طالبًا ولِمَ لمْ يتواصل مع المنظمات المعنية بشؤون اللاجئين؟
"مانويل" شاب قدم إلى تونس هربًا من جماعات إرهابية قتلت والده القسّ في نيجيريا ثم من جماعات مسلحة اختطفته في ليبيا ليلجأ إلى تونس ويقضّي يومه في التسوّل في شوارعها
عندما اقتربت منه وقبل أن تخرج كلماتي المتعثرة باللغة الإنجليزية، رفع صوته وبدأ يسرع الكلمات وعندما نطقت بالحرف الأول سكت، سألته عن سبب وقوفه في هذا المكان وما دفعه للتسول. صمت كأنه لم يفهم سؤالي، لكنه كان يبني بداية جدار رفض إلا أنني أسعفته بتقديم نفسي على أنني صحفي، بعدها تفتحت ملامح وجهه ربما لأنه اطمأن إليّ وتحدث لي عن قصة الشاب النيجيري الذي شق الصحراء هربًا من جماعة "بوكو حرام" الإرهابية التي قتلت والده القس في الكنيسة عندما كان يدرّس في مكان بعيد عن قريته وكيف قرر الهروب من بلاده عبر الحدود من مالي إلى الجزائر وليبيا وكيف اشتغل هناك لكنه تعرض إلى اختطاف من قبل مجموعة مسلحة إلى أن تمكن من الهروب ودخول التراب التونسي.
كان لقاؤنا في اليوم الموالي للحديث عن أسباب قتل والده القس وعن اختطافه في ليبيا، لكنه لم يكن مستعدًا للحديث بإطناب عن هذا الموضوع، كان شيء ما في داخلي يحدثني عن أمر خاطئ فذهابه إلى مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تونس وإثبات تعرضه إلى انتهاك جسيم لحقوق الإنسان يمكنه من صفة لاجئ أو طالب لجوء، لكن مانويل كان يريد فقط جمع المال إما بالعمل او عن طريق التسول، ربما ليقدمها إلى من سيتولى تنظيم عملية هجرة غير نظامية إلى أوروبا، لقد ظل قرابة عام من هذه الحادثة يسلك نفس السلوك يجوب الأسواق، يقف في محطات القطارات ويتسول المال أمام المتاجر.
تجربة الشاب النيجيري تحيل إلى ما يمكن أن يحدث مع الكثير من القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء الذين يلجؤون للبحث عن أي طريقة للوصول إلى أوروبا حتى وإن كانت غير نظامية ولا تحترم قانون البلد
تحيل تجربة مانويل الشاب النيجيري إلى ما يمكن أن يحدث مع كثير من الأشخاص القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، حيث يلجأ عدد منهم إلى البحث عن أي طريقة للوصول إلى أوروبا حتى وإن كانت غير نظامية ولا تحترم قانون البلد، وتخفي وراءها أسئلة عديدة عن ارتفاع عدد محاولات الهجرة غير النظامية عبر الحدود البحرية التونسية، لكنها تخلق رأيًا عامًا رافضًا لوجود الجنسيات الإفريقية في تونس بما يرافق ذلك من تصرفات عنصرية.
- ليدوفيك.. حياة جديدة
لكن للصورة زاوية أخرى يمثلها ليدوفيك، وهو لاجئ من إفريقيا الوسطى وأب لثلاثة أطفال، وصل إلى تونس هاربًا من إمكانية اضطهاد سياسي بعد قيام ثورة في بلاده بسبب انخراطه في حزب سياسي. اختار تونس كمحطة لبداية حياة جديدة بعد استئجار منزل في شارع شعبي في تونس، حيث كان ليدوفيك ينام على أرضيته الباردة زمن الشتاء، يقول ليدوفيك إنه لن ينسى تلك الأيام لأنها كانت تمثل بداية جديدة بلا عمل ولا مال.
يبدو ليدوفيك مفعمًا بالحيوية وهو يتحدث عن الحاضر ومترددًا يتجنب التطرق إلى الماضي ربما لشدة قسوته. يقول إن خطواته الأولى في البستنة بدأت في مقر سكناه الأول، الذي طرد منه بسبب تخلفه عن سداد الإيجار في الاثناء تحصل على صفة طالب لجوء، وآوته عائلة تونسية كان يوفر لها صيانة حديقة منزلها، وكان يقوم بمساعٍ للحصول على صفة لاجئ بما يتطلب ذلك من تدريب مع منظمات المجتمع المدني منها المجلس الدنماركي لمساندة اللاجئين، لكن ومع بداية شق ليدوفيك طريقه نحو التكوين في مجال البستنة تعرض إلى حادث مرور كاد أن يودي بحياته و تسبب في كسر بيده.
يقول، في هذا السياق، إنه كان يبكي بينما كان أعوان الحماية المدنية يحملونه إلى المستشفى لأنه شعر بأن كل أحلامه توقفت عند ذلك الحادث، كيف لا وبفضل يديه يحصل على قوته ويجمع قليلًا من المال يرسله إلى عائلته في إفريقيا الوسطى، لكن الحادث قدم إلى ليدوفيك فرصة جديدة للحصول على صفة لاجئ ويتعرف على القائمين على جمعية التصرف والتوازن الاجتماعي التي وفرت له التكوين واقتنت له معدات البستنة العصرية وبفضل جديته ومهنيته جمع ليدوفيك حوله حرفاء يثقون في إتقانه لعمله، يقول ليدوفيك ضاحكًا: "لقد بدأت حياتي في تونس من لا شيء والآن أنا أشتغل وأستعد لاستقدام عائلتي، زوجتي وأبنائي".
ليدوفيك لاجئ من إفريقيا الوسطى لجأ إلى تونس هربًا من إمكانية اضطهاد سياسي محتمل، يقول إنه بدأ حياته في تونس من لا شيء وهو الآن يشتغل ويستعد لاستقدام عائلته بعد أن تحصل على صفة لاجئ
إن قصة كل من مانويل وليدوفيك تجعلنا نقف على طرفي نقيض من تجربة حياة تختزلها معاني البحث السريع عن المال والرفاه من جهة والمثابرة من أجل تحقيق ذلك من جهة أخرى.
فقد ثبت لنا من خلال متابعة نسق أفكارهما وتطابقها مع طريقة معالجتهما لما يخفيه المستقبل أن الانطباع العام السائد ليس هو الحقيقة بالضرورة، فبعد مدة من التعرف على مانويل مازلت أصادفه في الشارع يمد يده إلى المارة طالبًا المال في وقت شق فيه ليدوفيك طريقه لبناء حياة جديدة بعد بعث مشروعه الخاص، لكنها تجربة يمكن أن تلخص تجارب مماثلة لأشخاص قدموا إلى تونس كمحطة تنقلهم إلى أوروبا وهو تفكير يتقاطع فيه مع عدد من شباب البلد الذين يفضلون شق البحار من أجل الوصول إلى الأرض الموعودة، بينما تتقاطع تجربة ليدوفيك مع تونسيين أيضًا يبحثون عن أمل موجود في مكان ما على هذه الأرض، فهي بالتالي تجارب شخصية كأي تجارب إنسانية لا يمكن بأي حال من الأحوال تعميمها والبناء عليها لاتخاذ موقف تجاه أي شريك لنا في الإنسانية.