لم تكن هذه القصّة من نسيج خيال شهرزاد ولا سطوة شهريار، إنما هي قصّة حيكت في ليلة ظلماء من إحدى الشواطئ التونسية، عزف خلالها الموج لحن العذاب لعائلة تونسية اختارت طوعًا "الحرقة ليلًا" فخلفت لوعة إنسانيّة.
طالعتنا الصحف الإيطالية مؤخرًا بصورة طفلة عمرها 4 سنوات هاجرت بشكل غير نظامي بمفردها بعد أن تخلفت بقية عائلتها ولم تستطع اللحاق بها
بين ضفّتي المتوسط، تحرّك قارب "الحرّاقة" بكل قسوة من شاطئ "الشرف" بسواحل مدينة البقالطة من ولاية المنستير بينما كانت الأمواج تتلاطم، وانشطر القمر مخترقًا السحب العابرة وقد أطلقت الرياح صفير الإنذار بأن لا أمان لكم في شق عباب بحر أكتوبر.
انطلق القارب وقد تراصّ داخله العشرات من الشباب والنساء والكهول وبينهم تقبع "إيلينا" ابنة الأربع سنوات (اسم مستعار) وحيدة، تنظر في الوجوه الفزعة ترهقها الظلمة الحالكة. كانت الأحضان تلتقطها رأفة بطفلة صغيرة غريبة في رحلة مجهولة العواقب، لا تفقه ما ينطق به القوم حولها، ولا ترى بين الوجوه المغبرّة أمها قمرًا ليضيء ليلها، ولا أباها شمسًا ينشر النور في قلبها، ولا أختها الصغيرة التي تسرّح لها شعرها وتضمها في غياب أمها.
رحلة الخمس وعشرين ساعة لـ"إيلينا" تواصلت حتى بلغ القارب جزيرة لمبيدوزا الإيطالية.. كل الجمع الذي حولها غادر البلاد في إطار الهجرة غير النظامية طوعًا إلا هي فقد هاجرت ولا تدري لمَ تركها الأب والأم، وانفصلت عنها أختها في غمار صياح وعويل وضجيج على الساحل التونسي!
صباح الأحد، بينما كان التونسيون يصطفون أمام مضخات البنزين المفقود، وآخرون يصطفون أمام "العطار" طمعًا في علبة حليب وحفنة سكّر، وأولئك المغرمون حديثًا بالسياسة يجمعون التزكيات في المقاهي من أجل مقعد في البرلمان، تطالعنا الصحف الإيطالية بصور "إيلينا" على أعمدة الصحف وقد احتضنتها ضابطة من حرس الحدود الإيطالية وإحدى الناشطات في إحدى جمعيات حماية الطفولة وقد أعلن الصحفيون عن طفلة ضحية عمليّة هجرة غير نظامية تورّط فيها أبواها اللذين تخلّفا عن الرحلة رفقة أختها ابنة السبع سنوات.
وضع الأب ابنته الصغيرة بين الجموع في القارب وعاد للشاطئ ليحمل زوجته وابنته الكبرى، لكن لاحظ منظمو "الحرقة" أضواء اعتقدوا أنها مركبة لخفر السواحل، فانطلقوا مخلّفين بقيّة العائلة
نزل الخبر كالصاعقة على التونسيين الذين قرؤوا هذا الخبر نقلًا عن مجدي الكرباعي النائب في البرلمان المنحل. كانت النقطة المضيئة أن الطفلة "إيلينا" وصلت سواحل لامبيدوزا في حالة صحية جيدة، ولكن بؤرة الضوء أحاطت بها هالة من الظلمة في الضفة الأخرى بعد أن حدثتنا الرواية الإيطالية عن ملابسات هذه "الحرقة".
لقد اصطحب الأب والأم طفلتيهما "إيلينا" (4 سنوات) وأختها (7 سنوات) ذات ليلة إلى الشاطئ بعد أن دفعا مبلغًا ماليًا كبيرًا لمنسق هذه الهجرة على متن قارب ينطلق من إحدى الشواطئ القريبة من مقر سكناهم بمدينة صيّادة الساحلية من ولاية المنستير. ولما بلغوا الشاطئ حمل الأب ابنته الصغيرة ووضعها بين الجموع في القارب ثم عاد للشاطئ ليحمل زوجته وابنته الكبرى ويعود إلى المركب. في الأثناء، لاحظ منظمو الهجرة أضواء فاعتقدوا أنها مركبة خفر السواحل النظامية، فانطلقوا وسط توتر كبير نحو البحر مخلّفين بقيّة العائلة التي انفصلت عن ابنتها "إيلينا".
الناشطة الإيطالية جيوفاني دي بينيديتو: نقلنا الطفلة إلى سيسيليا وتم إيواؤها بإحدى إقامات الرعاية الخاصة بالطفولة تحت العناية الكاملة ومعها أخصائي اجتماعي
كانت تلك اللحظات شديدة، وكانت المأساة أكبر لمّا طفت هذه الحادثة على سطح الأحداث لبعدها الإنسانيّ والحقوقيّ، إذ تلاقفت هذا الخبر كبريات الصحف الإيطالية ونشرت في موقع "الفاتيكان نيوز" واستأثرت الناشطة جيوفاني دي بينيديتو GIOVANNI DE BENEDETTO في جمعية لإنقاذ الطفولة "SAVE THE CHILDREN" بالأضواء في حماية وحفظ الطفلة "إيلينا"، وذلك بمتابعة وضعيتها الإنسانية بدرجة أولى والقانونية بدرجة ثانية، فتم نقل الطفلة إلى سيسيليا وإيوائها بإحدى إقامات الرعاية الخاصة بالطفولة تحت العناية الكاملة، وصاحبها أخصائي اجتماعي، كما تم إيواء 110 من المهاجرين غير النظاميين في مراكز أخرى.
وأشارت "جيوفني دي بينيديتو" في تصريح صحفي لإحدى وسائل الإعلام الإيطالية أنه "من بين الأطفال المهاجرين بطريقة غير نظامية الأحد الفارط، صبيّ أصمّ وأبكم وقد تمّ تقديم المساعدة له". وأوضحت الناشطة أن "فريق إنقاذ الطفولة بالجزيرة الإيطالية لامبيدوزا ضمن المساعدة والدعم للطفل بالترحيب والاستماع إليه والاستجابة لاحتياجاته وإبلاغ السلطات المختصّة عن حالته". وتعتقد جيوفني أن "رعايته الفورية أساسية لضمان حمايته وسلامته والتفعيل الفوري للإجراءات اللازمة لتسهيل لمّ شمله مع عائلته".
الناشطة الإيطالية جيوفاني دي بينيديتو: منذ بداية عام 2022، وصل 9200 قاصر إلى السواحل الإيطالية غير مصحوبين بذويهم
وتضيف لصحيفة فاتيكان نيوز: "ظاهرة الهجرة قضية طويلة الأمد وبالتأكيد ليست حالة طوارئ، وحتى فيما يتعلق بالأطفال الصغار هناك الكثير ممن هبطوا على شواطئنا، فمنذ بداية عام 2022 كان هناك 9200 قاصر غير مصحوبين بذويهم، وفي الشهر الماضي وحده لدينا ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 8 و11 سنة، هناك أمور حساسة في نظام الاستقبال، ونحن في منظمتنا نؤمن بأنه من المهم ضمان إطار قانوني وطرق آمنة وإنشاء نظام إنقاذ إيطالي أوروبي في البحر، فطريق البحر الأبيض المتوسط أصعب الطرق وأكثرها فتكًا بالمهاجرين" وفقها.
تلاقف الشارع التونسي هذه الأنباء المتواترة عن "الطفلة" والعائلة، وتفاعل الرأي العام مع هذه الحادثة الإنسانية المؤلمة أملًا في لمّ شمل العائلة التي آل عقدها العائليّ إلى التشتت بين يوم وليلة. غير الأنباء في تونس لم تكن بحجم المأساة، بل أعظم من ذلك لمّا تم الكشف على أن والدي الطفلة "إيلينا" قيد الاحتفاظ بعد أن تم إيقافهما على ذمة التحقيق في الحادثة لدى الجهات الأمنية بولاية المنستير.
عمّ الطفلة لـ"الترا تونس": كنا نعلم أن شقيقي يمرّ بصعوبات ولكن لم نتوقع يومًا أن يعتزم الهجرة بطريقة غير نظامية معرّضًا أسرته الصغيرة إلى الأخطار
وفي متابعة للموضوع، انتقل مراسل "الترا تونس" إلى مدينة صيادة من ولاية المنستير لكشف ملابسات هذه "الحرقة" وأسبابها متطلّعين في ذلك إلى الكشف عن جزء من الحقيقة.
بين مدينتي صيادة وقصر هلال الساحليتين، يقيم والدا "إيلينا" وقد امتهن الوالد بيع الأكلة السريعة "الشاباتي" واتخذ له عربة ثابتة على قارعة الطريق، مررنا أمامها وقد أوصدت أبوابها بعد إيقاف الأب من طرف السلطات الأمنية.
اتصلنا بوسام شقيق والد "إيلينا" الذي التقيناه في أحد أحياء مدينة قصر هلال عشية الخميس فحدثنا عن المصاب الذي حلّ بالعائلة قائلا: "نعلم أن شقيقي يمرّ بصعوبات ولكن لم نتوقع يومًا أن يعتزم الهجرة بطريقة غير نظامية معرّضًا أسرته الصغيرة المتكونة من زوجته وابنتيه إلى الأخطار المحدقة، وها هو اليوم محتجز في انتظار مثوله أمام العدالة، وإني أعتقد جازمًا أن روايته صادقة فيما يخص ابنته التي انطلق بها المركب نحو إيطاليا دونهم".
عمّ الطفلة لـ"الترا تونس": تشكو ابنة شقيقي الكبرى من مشكل صحي وتحتاج إلى تدخل طبي عاجل على القلب المفتوح، لكن تأخر إجراء العملية في المستشفيات التونسية بسبب التأجيل المتكرّر
ويقول وسام "تشكو ابنة شقيقي الكبرى ابنة السبع سنوات من مشكل صحي وتحتاج إلى تدخل طبي عاجل على القلب المفتوح الذي رافقها منذ الولادة، ومثل هذه التدخلات الجراحية ذات كلفة عالية وقد تأخر إجراؤها في المستشفيات التونسية بسبب التأجيل المتكرّر" وفقه.
وقد أكد النائب السابق مجدي الكرباعي من جهته، أن "ملفًا طبيًا يخص الشقيقة الكبرى لإيلينا تم العثور عليه في الحقيبة داخل المركب" وفق تدوينة نشرها على صفحته بفيسبوك.
وأصرّ وسام على الكشف أن شقيقه " قد مرّ بأزمة مادية، فالمحل الذي يعمل به على وجه الكراء وقد وفر مبالغ الهجرة غير النظامية عن طريق السلفة أو بيع بعض المصوغ على ملك زوجته وذلك من أجل عيش كريم يضمن له علاج ابنته في الخارج خاصة وأن قرينته عاطلة عن العمل".
عمّ الطفلة لـ"الترا تونس": وفر شقيقي مبالغ الهجرة غير النظامية عن طريق السلفة أو بيع بعض المصوغ على ملك زوجته وذلك من أجل عيش كريم يضمن له علاج ابنته في الخارج
وقد وجّه وسام نداء إلى السلطات بالإفراج عن أخيه وزوجة أخيه وتنسيق الجهود من أجل العودة الآمنة لطفلته ابنة الأربع سنوات.
كما اتصلنا بمعتمد مدينة صيادة الذي قال لـ"الترا تونس": "هذه (الحرقة) لم تكن في مرجع نظرنا، وحال إبلاغنا بإيقاف الزوج والزوجة من طرف فرقة الأبحاث والتفتيشات للحرس الوطني بالمنستير تبينّا أن هذه العائلة متوسطة الدخل ولديها استقرار مالي إلى حدّ ما، ولم تكن من ضمن العائلات التي ترتاد الوحدة المحلية للشؤون الاجتماعية لطلب مساعدات".
الناطق باسم محاكم المنستير والمهدية: رصدنا اتصالات بين الوالد وأحد الموجودين في إيطاليا للتنسيق معه حول وضعية البنت إلى جانب محادثات في وسائل التواصل تؤكد شبهة الاتجار بالطفلة
غير أنه فريد بن جحا الناطق الرسمي باسم محاكم المنستير والمهدية أصدر بلاغًا ذكر فيه أنه "على إثر ضبط عائلة بشاطئ الشرف البقالطة متكونة من زوجين وابنتهما البالغة من العمر 7 سنوات، وبالتحري معهم أفاد الأب أنهم كانوا ينوون اجتياز الحدود البحرية خلسة في اتجاه إيطاليا وأن المركب انطلق دونهم وكان على متنه ابنته البالغة من العمر 3 سنوات، وباستشارة النيابة العمومية بالمنستير من طرف فرقة الإرشاد البحري، أذنت بالاحتفاظ بالوالدين بعد أن تظافرت شبهة اتجار بالبشر وذلك من خلال تضارب تصريحات الأب ومن خلال عدم ملاءمة المبلغ المدفوع للمشاركة في عملية الاجتياز مع الوضعية الاجتماعية لتلك العائلة".
كما جاء في البلاغ أنه "تم رصد اتصالات بين الوالد وأحد الموجودين في إيطاليا والتنسيق معه حول وضعية البنت إلى جانب محادثات في وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد شبهة الاتجار بالطفلة، وينتظر عند إحالة الأبحاث على النيابة العمومية أن يقع فتح تحقيق في جرائم تكوين وفاق يهدف إلى اجتياز الحدود البحرية خلسة والاتجار بالبشر ضد طفل وباستخدامه طبق قانون 3 أوت/ أغسطس 2016 لكشف ملابسات وخفايا تلك الأفعال".
وبين الرواية الرسمية والشهادات المتداولة حول تشتت هذه العائلة بسبب محاولة الهجرة غير النظامية، يبدو أن هذه القضية تنحو بطريقة تثير الرأي العام بعد أن اشتد في المدة الأخيرة السخط الشعبي نتيجة التعامل القانوني والأمني والسياسي مع قضايا الهجرة غير النظامية وصولًا إلى حادثة ضحايا جرجيس التي تنتظر كشف ملابساتها. ولعلّ ما دعت إليه منظمات اجتماعية مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وأخصائيون اجتماعيون لإرساء استراتيجية وطنية لمكافحة الهجرة غير النظامية لم تبلغ نتائج مرجوة بسبب تفرّد السلطة بالرأي الأحادي واشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية بالبلاد.