الدكتور أحمد بن مسعود الشتوي هو ابن محافظة "دوز" في الجنوب التونسي، كان من أوائل التونسيين الذين اختصوا في علوم السمع وخلل التواصل، وهو متخرج من جامعة كاليفورنيا وجامعة أريزونا بالولايات المتحدة الأميركية، وقد استمرت رحلته العلمية والاستكشافية من سنة 1990 إلى غاية 2005 فيما يشبه الاستقرار أو الغربة الواعية الممجدة للعلم والمعرفة والشعر والتاريخ، التحم من خلالها مع السكان الأصليين اللذين يُسمّونَ خطأً "الهنود الحمر" ، فدرس حضارتهم وتأمل اغترابهم على أرضهم والتقى رموز قبائلهم على سفوح الجبال البعيدة، ثم عاد إلى تونس مشبعًا بتاريخ أمم تعددت المحاولات من قبل الرجل الأبيض لطمسها وتشويهها وتزييف ثقافتها والسطو عليها.
الدكتور أحمد بن مسعود كان من أوائل التونسيين الذين اختصوا في علوم السمع وخلل التواصل، التحم خلال رحلته إلى أميركا مع السكان الأصليين اللذين يُسمّونَ خطأً "الهنود الحمر" فدرس حضارتهم وتأمل اغترابهم على أرضهم
ويعد الدكتور أحمد بن مسعود من أبناء جيل نشطاء جامعة نوادي السينما خلال سبعينيات القرن العشرين، إذ انتمى في البداية لنادي سينما العاصمة ثم عاد لبلدته "دوز" من أجل تركيز نادي سينما المكان ونجح في ذلك مع ثلة من النخب المحلية، وقد ساعدته تلك التجربة على نحت شخصيته وتأهيل وعيه الفكري والسياسي والثقافي والذوقي ما مكنه من الحضور على نحو مختلف.
وتميزت تجربة الدكتور أحمد بن مسعود مع الهنود الحمر وخاصة رؤية وجهه منعكسًا على أنهارهم المقدسة والاستماع إلى نوتات شجنهم بفهم مبكر لفلسفة الخير والشر وثقل المعاني المتخارجة منها، فتضامن معهم شعريًا وفكريًا وحمله كل ذلك إلى التضامن مع كل الشعوب والأمم التي تعرضت إلى الإبادة والاحتلال بما في ذلك القضية الفلسطينية.
تحدث الدكتور أحمد بن مسعود المختص في علوم السمع والمثقف التونسي لـ"الترا تونس" عن رحلته تلك كما لو أنها حدثت بالأمس القريب فكان هذا اللقاء وهذا التنافذ حول قضايا جوهرية تهم اختصاصه العلمي والشعوب المقهورة.
الدكتور أحمد بن مسعود المختص في علوم السمع والمثقف التونسي تحدث لـ"الترا تونس" عن تفاصيل رحلته إلى مجاهل أميركا واختصاصه العلمي المتعلق بعلوم السمع وخلل التواصل
- ما هي الظروف التي قادتك إلى أرض أميركا؟
رحلتي إلى مجاهل أميركا كان قادحها ملتقى علميًا وفكريًا عالميًا بالعاصمة الأميركية واشنطن حول قضايا الصم والمشاكل التي تعترضهم دام شهرًا كاملاً، كنت قد شاركت فيه سنة 1988 ممثلاً للدولة التونسية، حيث كنت مدرسًا للأطفال الصم بأحد المدارس التونسية المختصة، كما قمت بعدة تربصات علمية بفرنسا ويوغسلافيا، وهناك على أرض أميركا أدركت أن هذا المجال رحب وأن تونس تنقصها هذه المعارف وكان لا بد من إدراك المعرفة، فقررت الهجرة من أجل التعلم.
كما حثني انخراطي لسنوات في نوادي السينما على أن أستزيد وأتوغل في هذا الفن الذي بات أداةً للتفكير والنضال من أجل زرع جملة من القيم الإنسانية العظيمة، فخصصت وقتًا لدراسة السينما استمر سنتين بجامعة أريزونا، وضمن هذا الرافد تنقلت لأكثر من مرة إلى حواضر السينما الأميركية على غرار "هوليود" و"لوس أنجلس" واطلعت هناك على جوانب من تاريخ الصناعة السينمائية الأميركية والعالمية والتقيت بسينمائيين ونقاد مرموقين، وبالتوازي كنت مهتمًا باللغة الأنقليزية فبادرت إلى تعلمها، لكنني تيقنت في النهاية أن ميدان السينما في الولايات المتحدة الأميركية تتحكم فيها الطغمات المالية والتجارية وهو ملوث بالسياسة وليس من السهل التوغل فيه كما كنت أحلم، فاكتفيت بما حصّلت وحولت وجهتي كاملةً نحو علوم السمع التي تتميز بها أنظمة التعليم الأنغلوفونية، وأيضًا الأنثروبولوجيا المحلية واكتفيت بذلك سبيلاً معرفيًا.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس": ميدان السينما في الولايات المتحدة الأميركية تتحكم فيها الطغمات المالية والتجارية وهو ملوث بالسياسة وليس من السهل التوغل فيه كما كنت أحلم
- ما هي علوم السمع التي تخصصت فيها؟
هي من العلوم الحديثة التي جاءت لاحقةً للعلوم الطبيعية والعلوم الفيزيائية والعلوم الطبية وقد نشأت بين الحربين العالميتين، لكنها ترسخت بعد الحرب الثانية أي بعد سنة 1945، بعد أن تبين أن الأسلحة القتالية الثقيلة والقنابل الانفجارية المتطورة التي تم استعمالها في جبهات القتال خلفت أضرارًا لدى الجنود وحتى المواطنين العاديين في مستوى آذانهم من قبيل الطنين الحاد وآلام في الرأس خاصة وأن الأذن هي من الأجهزة المعقدة جدًا ومسؤولة على توازنات الذهن والجسد من خلال الجهاز العصبي.
فكثرت الدراسات العلمية وتطورت أجهزة القياس والتشريح وتخصصت بعض الجامعات الأنقليزية والأميركية في هذا الموضوع وانفرد هذا العلم بنفسه متخارجًا من شقوق الطب والفيزياء يدرس وظيفة الأذن ولا علاقة له بأمراضها وله متطلباته وأدواته وأجهزته وتكوينه الخاص. كما يتقاطع هذا العلم الجديد بالجوانب النفسية والتواصلية والثقافية والاجتماعية للفرد من فاقدي السمع والصم واللذين يتعرضون إلى حوادث شغل.
- متى انخرطت تونس في تدريس هذه العلوم الجديدة؟
تونس لم تحدث بعد شعبة جامعية لهذا الاختصاص الفريد رغم حاجة المجتمع لذلك، بل استحدثت بداية من سنة 2015 جزءً منه يتعلق بتقويم السمع عن طريق تركيب السماعات بالمعهد العالي للتقنيات الطبية بتونس ورغم ذلك تعتبر تونس من الدول العربية والإفريقية الرائدة التي اهتمت بهذه العلوم إلى جانب مصر ودولة جنوب إفريقيا ويعود ذلك إلى أن هذين الدولتين تحاكيان في برامجها التعليمية أنظمة الدول الناطقة باللسان الأنقليزي.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس": لم تحدث تونس بعد شعبة جامعية لاختصاص علوم السمع وخلل التواصل الفريد رغم حاجة المجتمع لذلك ورغم ذلك تعتبر من الدول العربية والإفريقية الرائدة التي اهتمت بهذه العلوم
- يبدو أنك الوحيد في تونس الذي اختص بهذا العلم الدقيق؟
لست الوحيد بل هناك مجموعة قليلة من الزملاء الذين لا يتجاوز عددهم الخمسين مختصًا إلى حدود اليوم، وإنما أنا الوحيد في تونس المتحصل على الدكتوراه في هذا المجال ومن جامعة عريقة مشهود لها بدقة وصرامة التكوين وهي جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية.
- ما الذي ينقص هذا الاختصاص في تونس اليوم؟
رغم المحاولات البطيئة لإنبات اختصاص علوم السمع في الجامعة التونسية إلا أن ذلك غير كاف إذ ينقصنا مسألتان أساسيتان وهما الجانب القانوني على غرار القانون الأساسي والبروتوكلات الأخلاقية، ومن جهة ثانية الاعتراف والتعريف بهذا الاختصاص لدى عموم الناس عن طريق وزارة الصحة العمومية عبر استراتيجية اتصال خاصة بعلوم السمع واعتبارنا خبراء معتمدون لدى المحاكم والمستشفيات ووزارة التربية.
- هل عرضت عليك جامعات أجنبية الانضمام إليها؟
اتصلت بي مؤسسة جامعية في الإمارات العربية المتحدة وأخرى في أستراليا من أجل الانضمام إلى مخبرها العلمي المعروف عالميًا، ولكن ظروفي العائلية منعتني من الخروج مجددًا من تونس وإعادة تجربة الغربة من جديد.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس":رغم المحاولات البطيئة لإنبات اختصاص علوم السمع في الجامعة التونسية إلا أن ذلك غير كاف إذ ينقصنا مسألتان أساسيتان وهما الجانب القانوني والتعريف بهذا الاختصاص لدى عموم الناس
خلال رحلتك الأميركية والتي دامت ما يزيد عن 15 سنة كان لك التحام مع الحضارة الأصلية للقارة الأميركية قبل غزوها من قبل الرجل الأبيض وأقصد بذلك قبائل الهنود الحمر لو تحدثنا عن تلك الدهشة الحضارية وأنت الذي تدربت داخل نوادي السينما في تونس على هذا النوع من القضايا الفكرية والحضارية؟
صحيح لم أكتف بالدراسة في جامعتي كاليفورنيا وأريزونا بل كنت مستكشفًا لما حولي من علامات ثقافية، وانتبهت سريعًا لذاك الزخم الحضاري والثقافي المعتم عليه من قبل آلة الإعلام الأميركي والمتعلق بحضارة الهندي الأحمر، فخلال رحلتي تلك درست الأنقليزية بمعهد يحمل اسم علم "كوتشيز"، ولما سألت عنه قيل لي إنه قائد هندي وأيضًا سكنت إحدى القرى المتاخمة للحدود المكسيكية وقد لفت انتباهي الحضور الطاغي للهنود والأميركيين الأصليين وللمكسيكيين بهذا المكان ويعود ذلك إلى أن المكسيك باعت جزءًا من أراضيها وتحديدًا من مساحة نيو مكسيكو إلى البريطانيين الغزاة للأراضي الأميركية بعد رحلة كريستوف كولومب واللذين وحولوها إلى ولايتي كاليفورنيا وأريزونا.
- هل استطاع الرجل الأبيض صاحب الإمكانيات والآلات طمس حضارة وثقافة السكان الأصليين المعروفين بالهنود الحمر؟
حضارة الهنود الحمر تمتد لآلاف السنين وضاربة في التاريخ ولها دورها في بناء الحضارة الإنسانية ولا يمكن بشكل من الأشكال طمسها، فما شدني فعلاً هو تفانيهم في الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم، فهم يلبسون لباسهم المصنوع من جلود الحيوانات ومن الطبيعة ويأكلون أكلات بيولوجية يكون مصدرها الجبال والأودية في معظم الأحيان، ويقيمون في الغابات في خيام تراعي كل الفصول، وطيلة رحلة اكتشافي لهذه الثقافة اندهشت لارتباط هذه الشعوب بحركة الكون في مستويات رمزية يتداخل فيها العقدي بالمعيش اليومي، لقد كان الهنود الحمر يعتذرون للشجرة قبل قطعها ولا يفرطون في استهلاك خيرات الغابة.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس": حضارة الهنود الحمر تمتد لآلاف السنين وضاربة في التاريخ ولها دورها في بناء الحضارة الإنسانية ولا يمكن بشكل من الأشكال طمسها، فما شدني فعلاً هو تفانيهم في الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم
- هل هناك حركات هندية تطالب بالحقوق والأرض على اعتبار أنهم السكان الأصليون؟
التقيت العديد من الطلبة الهنود في الجامعة التي درست فيها وكانوا على درجة عالية من الوعي بما حدث سابقًا وبما يحدث الآن وسلاحهم الموحد هو ثقافتهم بكامل تفاصيلها فهم يتوارثونها وتمرر عبر الجينات، فلا تسامح مع من يمس من ثقافتهم، إنها جوهر وجودهم، حتى أن بعض الهنود اللذين كنت أجلس إليهم وأسافر إلى قراهم البعيدة على سفوح الجبال همسوا لي بأنهم تفوقوا على الرجل الأبيض بالثقافة وأجبروه على الاعتراف بذلك بعد صمود أجيال وزعماء من قبائل الهنود على طول القارة الأميركية بقسميها الشمالي والجنوبي.
- ألا توافقني الرأي بأن السياسة الأميركية تتعامل مع السكان الأصليين على أساس أنهم فلكلور ومادة سياحية قابلة للتسويق؟
ليس إلى ذاك الحد، لأن الحركات الهندية في الولايات المتحدة الأميركية لا تسمح بذلك في إطار اتفاقيات قديمة ومحيّنة وأخرى جديدة تضمن المزيد من الحقوق للهنود الحمر وخصوصًا التمسك بالهوية الثقافية، وهم يتعاطون مع ذلك على أساس وعيهم الشديد بما اقترفه الرجل الأبيض تجاههم، وإلى اليوم مازالت هناك محاولات لتمسيحهم من قبل الكنيسة وطمس لغتهم الأصلية "النفاهوو" ومنعها من المدارس.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس": الحركات الهندية في الولايات المتحدة الأميركية لا تسمح بالتعامل مع السكان الأصليين على أنهم فلكلور ومادة سياحية قابلة للتسويق
- لماذا لم تصلنا فنونهم رغم جمالها وقدمها؟
الهنود الحمر لديهم فنون عديدة في علاقة بالشعر والرسم والموسيقى والنحت والكساء، وهي منجزة يدويًا وبأساليب قديمة ومتوارثة متأتية من الطبيعة ومليئة بالمعاني والرموز والدلالات التي تروي معتقداتهم وأشكال الإقامة على الأرض، لكنها لا تصل إلينا لأنهم لم يفكروا في تسويقها إيمانًا منهم بأنها صرخة غضب في وجه الرجل الأبيض وكل من يزورهم من الخارج يكتشف ذلك بسرعة، هم يقدمون نوعًا من السياحة المحلية دون التفكير في ذلك مسبقًا، وفي نفس الوقت ما وصلنا هو عدة دراسات أنثروبولوجية وتاريخية أنجزت حول السكان الأصليين لأميركا.
- ماذا قدمت السينما الحرة والمفكرة حول مأساة الهنود الحمر وما تعرضوا إليه من ظلم وإبادة في القرون الأولى من غزو الرجل الأبيض؟
السينما لم تقدم شيئًا منصفًا لتلك الحضارة القديمة بالقارة الأميركية التي كانت تضم أكثر من 470 أمة، بل إن السينما التجارية الهوليودية والأوروبية قدمت الهنود الحمر كهمج ولنا في أشرطة رعاة البقر التي راجت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مثالاً، وكنا خلال أنشطة نوادي السينما بتونس ننتقد ذلك ونناقش الأفكار التي روجت حول انتصارات الرجل الأبيض.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس": السينما التجارية الهوليودية والأوروبية قدمت الهنود الحمر كهمج ولنا في أشرطة رعاة البقر التي راجت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مثالاً
- هل طالب الهنود الحمر بالاستقلال؟
سألت نفس السؤال لبعض أصدقائي من الهنود الحمر فكان ثمة اعتقاد سائد بينهم بأنهم مستقلون وأن الرجل الأبيض هو مجرد عابر على أرضهم.
- هل ثمة اختلاف بين قضية الهنود الحمر وقضية الشعب الفلسطيني؟
بالعكس هناك عديد النقاط المشتركة بين القضيتين إذ نجد نفس العناصر ونفس المسارات، من ذلك حضور الرجل الأبيض المتغطرس، افتكاك الأرض، تغيير اسم الأرض، تغيير أسماء المدن والقرى، الاستيلاء على الفنون والأماكن المقدسة، الاستيلاء على التراث والمقدرات، التهجير القسري للسكان من الأرض الأصلية، وضع جزء من السكان فيما يشبه المحتشدات، تشويه المقاومة ونعتها بالإرهاب.
الدكتور أحمد بن مسعود لـ "الترا تونس": هناك عديد النقاط المشتركة بين قضيتي الهنود الحمر والشعب الفلسطيني من ذلك افتكاك الأرض، وتغيير أسماء المدن والقرى، والاستيلاء على الفنون والأماكن المقدسة، والتهجير القسري للسكان من الأرض الأصلية
أما نقاط الاختلاف فتتمثل في أشكال المقاومة وتوجهاتها وأنساقها، فالفلسطينيون ذهبوا إلى رفع مظلمتهم إلى منظمة الأمم المتحدة والقضاء الدولي وأيضًا رفع السلاح الشرعي في وجه العدو الإسرائيلي، أما الهنود الحمر فخيروا في هذه اللحظة التاريخية بعد أن رفعوا السلاح في السابق أن يدافعوا عن وجودهم بحماية هويتهم الثقافية وتذكية فكرة أنهم الأصل على تلك الأرض مهما كانت أفعال الرجل الأبيض.