لم تكن نشأة الـ"فيفاك" وهو الاسم المختصر للتظاهرة السينمائية التونسية العريقة "المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية" سنة 1964، ترفًا ثقافيًا وفنيًا وممارسة إيديولوجية وسياسية ميّزت أنشطة "الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة"، بقدر ما كانت نواة لحركة ثقافية أصيلة تقيم في الهامش الذي غفل عنه بناة دولة الاستقلال أواسط القرن العشرين محاولين رسم سياسات ثقافية خاصة، وُصفت بـ"غير الجامعة" ومازالت تونس تتخذها منهاجًا إلى اليوم.
تأسس المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية (فيفاك) سنة 1964، فكان ضرورة ثقافية وجمالية ملحّة في تونس
لقد كان المهرجان تفجرًا خاصًا له طبيعته وقاموسه ومقايساته للتاريخ، وقلما كان يظهر داخله البعد الشخصي، فالسينما عبر الـ"فيفاك" هي عمليات بحث وتأسيس وتأصيل، إنها مخابر للتفكير بالسينما حول السينما، ورفع همم هواة السينما والتأكيد لديهم أن الهواية درب لا ينتهي، وأنّ البقاء فيه أجمل وأقرب إلى ذواتنا، وذلك من دون الحد من رغبتهم في العبور نحو سماء الاحتراف، وأن إبهاج الذات السينمائية الكامنة لدى الأجيال الحالمة بالثقافة البديلة والمغايرة يتطلب هذا النوع من المهرجانات.
لقد كان الـ"فيفاك" لدى تأسيسه ضرورة ثقافية وجمالية ملحّة في تونس، يمكن تنزيلها ضمن تيارات ومناخات ثورية أخلاقية وفنية وجمالية سادت في العالم نصرة للإنسان، يسري داخلها لهيب التمرد على السائد.. وكانت الصورة في ستينات القرن العشرين قد شرعت لتوها في هيمنتها على كل شيء، وكان التلفزيون في أوج اكتساحه للفناءات والفضاءات المجتمعية، وفتحت الفلسفة -ومختلف العلوم الإنسانية- ورشات للنقاش والتدبر الفكري من أجل إدراج وإدماج الصورة ضمن سياقاتها.
أسس الراحل حسن بوزريبة سنة 1961 "جمعية الشباب السينمائي" بداية، فكانت له الأسبقية التاريخية في الانفتاح على الفنانين السينمائيين العرب والأفارقة جنوب الصحراء
ولم تكن تونس بمنأى عما يحدث، فكان أن أسس الراحل حسن بوزريبة سنة 1961 "جمعية الشباب السينمائي" لتتحول سنة 1962 إلى "الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة"، شعارها المركزي هو "من أجل ثقافة وطنية ديمقراطية ملتزمة بقضايا أوسع الجماهير،" وهي تنظيم مدني وغير حكومي كانت له الأسبقية التاريخية في الانفتاح على الفنانين السينمائيين العرب والأفارقة جنوب الصحراء، وتشجيع هواة السينما على إنتاج أولى أفلامهم والتأسيس لحلقات نقاش وتفكير حول الأفلام وآليات الإنتاج والترويج، أثمرت العديد من الأسماء في مجالات النقد السينمائي والتصوير والإخراج والإنارة والتقطيع والمونتاج.
"المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية" عاد هذه السنة بعد غياب سنتين جراء تفشي جائحة كورونا في العالم ليحتفل بستينيته من خلال النسخة 35 التي امتدت من 13 إلى 20 أوت/ أغسطس 2022 وقد ساعدته وزارة الشؤون الثقافية بمنحة تعد شحيحة مقارنة بما يصرف من دعم للسينما عبر مسالك أخرى، لكنها في الوقت نفسه فسحت المجال لمؤسساتها المختصة مثل "المكتبة السينمائية الوطنية" (السينماتاك) و"مركز تونس الدولي للاقتصاد الثقافي الرقمي" و"المركز الوطني للسينما والصورة"، بأن تدعم المهرجان وتثري فقراته عبر دعم لوجستي وأرشيفي ووثائق، وإنجاز ورشات تهم سينما الواقع الافتراضي وفن الصورة الفوتوغرافية وكيفية الاشتغال على السيناريو وتطويره، فضلًا عن تلقيه بعض الدعم من قبل العديد من الجمعيات التونسية والأجنبية المختصة في السينما والفنون والآداب والثقافة.
الـ"فيفاك" ورغم الصعوبات التي يعيشها وتعيشها من ورائه الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، فإنه وفيّ لمبادئه الأساسية وهي: دعم الهواية في مجال السينما والصورة بإفراده لمسابقة دائمة خاصة بالمدارس، والانفتاح على سينماءات العالم وخاصة العربية والإفريقية التي تشتغل على القيم الإنسانية المشتركة والتي تحث على التفكير والنقد السليم لما يحدث داخل المجتمع، مع دعمه للقضية الفلسطينية وتذكير الشباب التونسي والعربي بحق الشعب الفلسطيني الذي سُلبت منه أرضه وحقوقه من قبل كيان غاصب ومستعمر وذلك عبر الاحتفاء بالسينما الفلسطينية ورموزها "سينما المقاومة"، واستضافتهم. وضمن هذا المبدأ الأساسي، خصت الدورة 35 لهذه السنة سهرة خاصة بالسينما الفلسطينية تم خلالها عرض شريط "بين الجنة والأرض" بحضور المخرجة "نجوى نجار" وذلك يوم 17 أوت/ أغسطس 2022.
المهرجان وطيلة أسبوع أنشطته المتنوعة من عروض وورشات ولقاءات وحلقات نقاش ومعارض، استقبل بدار الثقافة "نور الدين صمود" بمدينة قليبية التابعة لولاية نابل بأقصى الشمال الشرقي التونسي، أكثر من ألف متابع بحضور ما يناهز 200 فاعل سينمائي.
عادل عبيد مدير الـ"فيفاك" لـ"الترا تونس": المتغيرات الجيوسياسية في العالم واندلاع الأزمات الصحية والاقتصادية تنعكس سلبًا على الفعل الثقافي في تونس وخارجها
وقد باحت الدورة بجوائزها ومخرجاتها الفنية والمعنوية وتابعها "الترا تونس" في اليوم الختامي حيث تم إسناد جائزة الصقر الذهبي للجنة التحكيم لأنيس بلعيد (فرنسا) عن شريطه "دموع السين" وجائزة أفضل فيلم تحريكي نالها البولوني "ليبتور كالميرتزاك" عن شريطه "ذي هول"، أما جائزة أفضل فيلم تحريكي فقد تحصل عليها المخرج الإيراني "لايدي شيباني" عن شريطه "كاتوومن"، كما نال المخرج التونسي محمد عصمان كيلاني جائزة أفضل فيلم تجريبي عن شريطه "منسوخ "، وبخصوص جائزة أفضل فيلم وثائقي فقد كانت من نصيب "قريزغيستان" عن شريط "الأمان" للمخرج "إيليز شينياز، هذا فضلًا عن جوائز أخرى مسندة لنوادي سينما الهواة من قبل منظمات وطنية ودولية.
وعلى هامش اليوم الختامي للـ"فيفاك"، التقى "الترا تونس" مدير الدورة 35، عادل عبيد الذي أكد في بداية حديثه الصعوبات التي تعيشها الثقافة في تونس وخارجها في ظل المتغيرات الجيوسياسية في العالم واندلاع الأزمات الصحية والاقتصادية التي تنعكس سلبًا على الفعل الثقافي بشكل عام. مضيفًا أن عودة المهرجان الدولي للسينمائيين الهواة بقليبية في ظل المتغيرات المذكورة وانعكاساتها "أصبح تحديًا بالنسبة للجامعة التونسية للسينمائيين الهواة وللمهرجان ذاته" وفقه.
وأوضح عبيد أن "الدورة 35 راهنت على الجديد بمراجعتها لشكل الجوائز واستحداث أخرى جديدة، وبعث لجنة تحكيم خاصة بالصورة الفوتوغرافية، وأيضًا إصرار الدورة على أن يكون عرضا الافتتاح والاختتام بأفلام تعرض لأول مرة في تونس بحضور المخرجين كما سعت الدورة لتكريم السينما الفلسطينية معتبرين ذلك من ثوابت المهرجان ولا محيد عنه وفق قوله.
كما تحدث مدير المهرجان لـ"الترا تونس"، عن أهمية الندوة الفكرية في خلق أفق نقدي وفلسفي لدى صناع السينما والمهتمين والمتابعين، معتبرًا أن ذلك من الأهداف الأساسية لهذه التظاهرة الثقافية السينمائية الأصيلة.
يدعم المهرجان القضية الفلسطينية ويذكّر الشباب التونسي والعربي بحق الشعب الفلسطيني الذي سُلبت منه أرضه وحقوقه من قبل كيان الاحتلال
إن المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية الـ(فيفاك)، هو أعرق تظاهرة سينمائية في تونس ومن بعدها جاءت بقية التظاهرات والمهرجانات بما في ذلك "أيام قرطاج السينمائية"، وفضلها الرمزي يعد كبيرًا على السينما التونسية والعربية والإفريقية. وقد أسهمت تاريخيًا على مر نصف قرن من الزمن في نشر الوعي وصناعة الذوق وفهم متغيرات الفضاء العام في تونس، وخلق أجيال سينمائية مثقفة بالمعنى "القرامشي" للكلمة، قادرة على الكتابة والتفكير والحوار وفهم ما يحدث في محيطها بالكاميرا والصورة. لكن تبقى ضرورة دعم هذه التظاهرة والالتفاف حولها من قبل الجميع أمرًا حيويًا من أجل استمرارها.