مقال رأي
السؤال المركزي الذي يؤرق المعارضة التونسية بأقسامها المتعارضة هو المشاركة أم المقاطعة في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ الانتخابات بلا شك تفتقد إلى الجدية المطلوبة أو الأدق التي تعودنا عليها بمعايير رئاسيات 2014 و2019. لكن من الصعب مقارنتها بانتخابات بن علي الشكلية تمامًا والتي كان بعض المرشحين فيها يدعون إلى اختياره رئيسًا والبعض الآخر يقوم باحتشام بحملة تصل حتى إلى شبه اعتذار على معارضة بن علي أصلاً.
لدينا في رئاسيات 2024 مرشح في السجن يدعو علنًا في برنامجه إلى حل كل المؤسسات المنتخبة لدستور 2022، والآخر تراجع عن مساندته المطلقة السابقة ويدعو لمراجعة الدستور وينتقد بوضوح السلطة. لكن هل أن السؤال المعنية به المعارضة التونسية هو فعلاً المشاركة أو المقاطعة من أجل هزيمة المرشح قيس سعيّد؟ نعتقد أن ذلك هو السؤال الخطأ، أو فلنقل إنها الإشكالية الخاطئة.
ما من شك أنه بعد مرحلة حيرة وارتباك -انظر مقالنا السابق "حيرة نظام"-، وإن خلطت المحكمة الإدارية الأوراق وأجبرت هيئة الانتخابات، المعينة من السلطة التنفيذية، على التدخل المباشر من أجل "تشخيص مصلحة النظام" وتحديد سقف وهوية المرشحين، وخاصة بعد المبادرة الاستعجالية لمنع المحكمة الإدارية المختصة بداهة وقانونًا من البت في النزاعات الانتخابية قبل أسبوعين من الانتخابات نفسها، فإن النظام الحالي اختار موضوعيًا ضرب المشروعية السياسية للانتخابات الرئاسية وأفصح للرأي العام عن تخوفه من الذهاب إلى صناديق الاقتراع والاحتكام للشعب. لا يجب نسيان ذلك: السلطة ترفض إجراء انتخابات تنافسية جدية.
بعد المبادرة الاستعجالية لمنع المحكمة الإدارية المختصة من البت في النزاعات الانتخابية، النظام الحالي في تونس اختار موضوعيًا ضرب المشروعية السياسية للانتخابات الرئاسية وأفصح للرأي العام عن تخوفه من الذهاب إلى صناديق الاقتراع والاحتكام للشعب
ورغم ذلك فإننا إزاء ثلاثة مرشحين، ولا يمكن وصف منافسي الرئيس بأنهم مجرد بيادق. رغم إصرار الخطاب السياسي للسلطة على أننا إزاء استفتاء، خاصة في ظل التأكيد على أننا في مرحلة "حرب تحرير وطني" بما يعني أن انتصار مرشح الدولة ومن ثمة الحفاظ على الاستقلال حسب هذه السردية يعني بقاء الاستقلال، وهزيمته تعني فقدان استقلال البلاد، فإن هذه السردية هي رأي يلزم الرئيس وأنصاره. وإلا فلا داعي أصلاً لإجراء انتخابات. إذ لا ندعو الناس للانتخابات أو الاستفتاء على بقاء استقلال البلاد من عدمه.
نحن إزاء تصور يعتبر الرئيس غير معني أصلاً بطرح برنامج أو منافسة. وهي عمليًا لا تعني فقط إمكانية تصديقه لسرديته حول "التحرر الوطني" بل هي عمليًا وموضوعيًا منهجية حملة انتخابية، تتجنب مرة أخرى التقيد ببرنامج واضح يمكن مساءلته أو محاسبته عليه باستثناء العنوان العام حول "البناء والتشييد"، وأيضًا تتجنب الخوض في أي تقييم للحصيلة، ومن ثمة تجنب حملة الرئيس أي ظهور إعلامي، حتى في "التلفزة الوطنية" (العمومية) حيث الخط التحريري المهيمن موال تمامًا للسلطة، كما يظهر بوضوح من خلال اللون الواحد الذي تتم استضافته من المعلقين في البرامج السياسية والإخبارية.
نحن إزاء تصور يعتبر الرئيس غير معني أصلاً بطرح برنامج أو منافسة.. وهي منهجية حملة انتخابية، تتجنب مرة أخرى التقيد ببرنامج واضح يمكن مساءلته أو محاسبته عليه وأيضًا تتجنب الخوض في أي تقييم للحصيلة
الارتباك والحيرة بل أيضًا التوتر يعكس خوفًا حتى ممن تبقى من المرشحين، رغم محدودية إشعاعهم ورغم أنه من غير الممكن وصفهم بالراديكالية. البعض في المعارضة يرى في ذلك مدخلاً للتشجيع براغماتيًا على المشاركة على أمل هزيمة الرئيس قيس سعيّد فيها، وقسم آخر يستعرض كل المؤشرات أعلاه للقول إن الانتخابات مضيعة للوقت وإن السلطة ستتدخل حتمًا لمنع أي محاولة لانتصار مرشح معارض للرئيس. لكننا نعتبر أن الإشكالية خاطئة. وهو ما فسرناه في مقالات سابقة تعود إلى أكثر من عام قبل موعد الانتخابات الرئاسية في تونس.
وبناء على سرد للتجارب المقارنة انتهينا إلى أنه: "بعرضنا لهذه التجارب لا نعني ضرورة أن الانتخابات الرئاسية القادمة فرصة لإحداث تغيير في السلطة وهزيمة الرئيس الحالي وانتصار مرشح معارض، لكن في اتجاه التأكيد أن قرار المشاركة أو المقاطعة لا يجب أن يرتكز فقط على "ضمانات" انتخابية "حرة ونزيهة"، لأن ذلك لن يكون مضمونًا في ظل نظام تسلطي هجين حتى. بل يجب أن يرتكز أيضًا على مدى أن تكون الانتخابات، فرصة لحالة "تعبئة سياسية" مثلما توضح الدراسات أعلاه، فحتى إذا انهزمت المعارضة، يمكن أن تمثل لاحقًا فرصة لترسيخ قطب معارض جدي خاصة عندما تفتقد البلاد إلى بديل معارض منافس جديًا للسلطة مثلما هو الحال في تونس الآن".
هذه الإشكالية التي نراها لا تزال مطروحة. كيف يمكن الاستثمار في حدث الانتخابات كي تتم إعادة الديناميكية السياسية في البلاد، وإعادة ترتيب موازين القوى بما يسمح بمنع إقامة نظام تسلطي كامل، وبناء معارضة وازنة ومسؤولة معنية بالتعبئة من أجل التغيير والاصلاح وضمان حق التداول السلمي، ومن ثمة إبقاء إيمان الناس بالعملية السياسية؟
السؤال هو كيف يمكن الاستثمار في حدث الانتخابات كي تتم إعادة الديناميكية السياسية في البلاد، وإعادة ترتيب موازين القوى بما يسمح بمنع إقامة نظام تسلطي كامل، وبناء معارضة وازنة ومسؤولة؟
حتى الآن ما نراه هو التالي، اتهامات متبادلة للاجتهادات المختلفة، ومحاولات تسجيل مواقف، وعودة من تسبب في الوصول إلى 25 جويلية/يوليو 2021 ممن كانوا في السلطة وساهموا بعمق في اهتراء إيمان الناس بالديمقراطية لتنصيب أنفسهم لجنة تحكيم ثورية، للغربلة وإعلان من هو الديمقراطي ومن ليس كذلك، في تجاهل تام لأهم عامل، وهو محاولة استعادة اهتمام عموم المواطنين بالعملية السياسية، وضرب الخمول والركود العامين، وسعي الجميع للخلاص الفردي. إذا كان هناك عبث سلطوي فلا يضاهيه سوى عبث طيف مهم من المعارضة، يعيش ضمن قوقعته ويحب عن الرضا والطمأنينة من الأنصار.
لا يوجد أي تصور استراتيجي لدى هؤلاء لحل المعضلة الأساسية، وهي كيف يمكن تغيير موازين القوى؟ مظاهرات الشارع الأخيرة مهمة، خاصة وأنها سمحت لجزء من المعارضة أي "الديمقراطية الاجتماعية" -أو كما يسميها البعض "التقدمية"- بجذب أعداد إلى الشارع تضاهي أعداد المشاركين في مظاهرات الشارع "الإسلامي" أو الدستوري".
لكن في كل الحالات نحن إزاء "بضعة آلاف" –مختلف التقديرات تتراوح بين ثلاثة وأربعة آلاف متظاهر على الأقصى- وفي النهاية يكون التغيير إما عبر تعبئة الناس في سياق حملة انتخابية وصناديق الاقتراع أو في الشارع. والصيغة الأولى هي أساسا تعبئة سياسية لا يجب أن تتوهم "الانتصار"، بل من الضروري أن تبني على "ما بعد الانتخابات".
مظاهرات الشارع الأخيرة مهمة وعمليًا الآن، المطلوب من أي معارضة جدية هو تقدير المرشح المعارض الأوفر حظًا للحد من "تغول انتخابي" للرئيس الذي يسعى لتحقيق فوز "ساحق" من الدور الأول
عمليًا الآن، من المطلوب من أي معارضة جدية تقدير المرشح المعارض الأوفر حظًا للحد من "تغول انتخابي" للرئيس الذي يسعى لتحقيق فوز "ساحق" من الدور الأول، يؤدي إلى إحباط عام من السياسة في المستقبل المنظور. ومن ثمة فرض دور ثان يوفر في الحد الأدنى حالة ديناميكية انتخابية استقطابية ثنائية.
وهنا الإجابة يجب أن تستند إلى معطيات براغماتية بحتة وليس على أساس "طهورية" تطمئن ظاهريًا الضمائر لكن لا تغير الواقع. فكل حجج معارضة لمرشح معارض قريب من 24 جويلية/يوليو أو مرشح معارض قريب من 25 جويلية/يوليو، على أساس القرب والبعد تاريخيًا من هذا أو ذاك هو فخ سياسي بامتياز يضيع بوصلة أي معارض جدي، وأي تغيير لموازين القوى لصالح ديناميكية سياسية تحفظ ماء وجه البلاد ودولة القانون والمؤسسات، وتسمح خاصة بحماية التداول السياسي السلمي والآمن على السلطة بعيدًا عن المغالبة والفوضى.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"