30-يوليو-2024
انتخابات

وجب التمييز بين المقاطعة المنظمة كخيار سياسي وبين العزوف الانتخابي (صورة أرشيفية/ ياسين القايدي/ الأناضول)

مقال رأي 

 

في الانتخابات الرئاسية عاميْ 2014 و2019، كان السؤال الرئيسي المطروح على الفاعلين السياسيين والمدنيين وأيضًا الناخبين، عن اختيار المرشّح الأنسب، بحسب توجهاتهم وأولوياتهم، باعتبار أن المشاركة مسألة محسومة لا غبار بشأنها. ولكن في الانتخابات الرئاسية 2024، السؤال الرئيسي الأوّليّ بات عن مبدأ المشاركة من عدمه. 

اختلاف السؤال مردّه تباين سياق تنظيم كل انتخابات. الرئاسيات المنتظرة تأتي بعد إيقاف قسري لانتقال ديمقراطي معطوب إثر انقلاب رئيس الدولة على دستور 2014 من بوابة التدابير الاستثنائية صيف 2021 وفرض مرحلة تأسيسية جديدة انتهت بتركيز نظام سلطوي قوامه أساسًا تركيز السلطات بيد الرئيس ونسف استقلال القضاء واستهداف ممنهج للحريات العامة ووضع اليد على الإعلام العمومي وتغييب الهيئات التعديلية.

من البيّن أن الخيار النهائي للمشاركة أو مقاطعة الانتخابات الرئاسية، مرتبط بديناميكية السباق الرئاسي وبمشهد المرشحين النهائيين الذين تم قبول ترشحهم

جلّ الأحزاب النشطة زمن الانتقال الديمقراطي قاطعت، في الأثناء، مسار الاستفتاء على الدستور الجديد عام 2022 الذي لم يكن إلا شرعنة شكلية لدستور كتبه الرئيس بنفسه لنفسه، كما قاطعت الانتخابات التشريعية المبكرة وانتخابات المجالس المحلية، باعتبارها سليلة خارطة طريق فرضها الرئيس دون تشاركية تنزيلًا لمشروعه الفردي، وخارج سقف نظام ديمقراطي منشود. فيما كانت الأنظار تتوجّه أساسًا للاستحقاق الرئاسي خاصة في ظل حالة الغموض بشأنه مع اكتفاء الرئيس بالتأكيد على احترامه للآجال دون حسم صريح، وفي ظل عدم مبادرة الحكومة لتنقيح القانون الانتخابي ليكون متلائمًا مع الشروط الدستورية الجديدة المتعلقة بالجنسية التونسية للأصول والسن والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية. 

غموض زاد من إرباك المشهد السياسي إلى حين إصدار أمر رئاسي يتعلق بدعوة الناخبين للانتخابات الرئاسية بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 وذلك قبيل انتهاء الآجل الأقصى للأمر المذكور. باتت البلاد على سكة سباق رئاسي في سياق إعلان الرئيس عزمه تجديد عهدته الرئاسية مقابل تصاعد العوائق ضد بقية المرشحين.

توجد خشية من المشاركة بغاية المشاركة المحضة لإكمال مشهد تنافسي وهمي يستفيد منه الرئيس فقط، على غرار مشهد الانتخابات الكاريكاتورية زمن ما قبل الثورة

مرشحون في السجن مثل عصام الشابي وغازي الشواشي وعبير موسي لم يتمكنوا من سحب استمارة جمع التزكيات عبر وكلائهم، وتدابير قضائية بمنع عبد اللطيف المكي مغادرة منطقة الإقامة والظهور في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وإثارة تتبّع ثم صدور بطاقة إيداع بالسجن ضد لطفي المرايحي، وحكم غيابي ضد الصافي سعيد. وكلّ ذلك مع صعوبات في تحصيل بطاقة السوابق العدلية بشكل بات كاريكاتوريًا أحيانًا على نحو إعلان القاضي مراد المسعودي -الذي شملته مجزرة الإعفاءات، والذي أعلن نيته الترشح- أن رئيس مركز الشرطة بمقر إقامته اتصل به ليطلب منه استعادة بطاقة السوابق التي كان قد تسلّمها في وقت سابق. مناخ انتخابي غير صحّي في أبسط التوصيفات خاصة في ظلّ واقع تغييب المعارضة عن الإعلام العمومي الذي تحول لآلة دعاية لصوت الرئيس فقط.

تباعًا السؤال الجوهري المطروح على المعارضين للرئيس هو: هل انتخابات 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024، هي محطة انتخابوية وفق قواعد الرئيس لتجديد عهدته على نحو يجعل المشاركة فيها مساهمة في شرعنته، أم فرصة ممكنة لإحداث تغيير على رأس السلطة التنفيذية؟ الرئيس، في تصريح سابق، انتقد تدافع شخصيات معارضة لإعلان عزمها خوض الرئاسيات والحال أنها قاطعت المحطات الانتخابية السابقة وبالخصوص الانتخابات التشريعية. الغاية من ذلك تبيان تناقضها من جهة واهتمامها بالسلطة في مستوى رئاسة الدولة من جهة أخرى. ولكن قول الرئيس مردود عليه باعتبار أن مقاطعة المحطات الانتخابية بعد 25 جويلية/يوليو 2021 أساسها رفض المسار التأسيسي الجديد والمشاركة لا تعني إلا الموافقة على هذا المسار والمساهمة في إنجاحه. في حين أن المحطة الرئاسية هي فرصة لإنهاء المسار بنفسه بإحداث تغيير على رأس السلطة السياسية. الرهان مختلف كليًا. 

المقاطعة التي تم اختيارها في استفتاء دستور الرئيس والانتخابات التشريعية، غير قادرة في الانتخابات الرئاسية على إنتاج حراك نضالي يستهدف شرعية المنتخب

من جانب آخر، قيس سعيّد تقدّم للاستحقاق الرئاسي عام 2019 ولم يكن معنيًا بالاستحقاق التشريعي سنتها، لأنه غير معني به. وهو للتذكير كان قد قاطع انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011، ولكن للتذكير شارك في أعمال صياغة دستور 2014، الذي قام بتعليقه بل اعتبره دستور نتاج تدخلات أجنبية، ليفرض دستورًا كتبه وصاغه بنفسه متجاوزًا حتى مشروع اللجنة التي اختار بنفسه أعضائها.

قبل أشهر، طرح الحقوقي المخضرم ورئيس الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية العياشي الهمامي مبادرة موجهة للمكونات الحزبية والمدنية المعارضة للانقلاب تقوم على خوض مسار نضالي من أجل الانتخابات الرئاسية عبر برنامج عمل للإصلاحات المطلوبة ويتضمن تقييمًا جديًا لسنوات الديمقراطية المعطوبة مع الاتفاق على مرشح وحيد مع تنظيم اجتماعات في كل البلاد لينتهي المسار النضالي باتخاذ قرار نهائي بالمشاركة في الانتخابات أم المقاطعة، وذلك بحسب مدى توفر مناخ انتخابي يؤمن حد أدنى من النزاهة والتنافسية والشفافية. مبادرة لم تحقق اختراقًا داخل المنتظم الحزبي الذي لازالت خلافات ما قبل الانقلاب وما خلفته من تراجع منسوب الثقة بينها دون عن اختلاف الأولويات وكشف حساب عن سنوات العشرية تحول دون تحفيز أي عمل مشترك فيما بينها.

القرار الحاسم في المشاركة أو المقاطعة لجلّ الفاعلين السياسيين في تونس لن يتحدّد بشكل قاطع إلا بعد تبيّن مدى تنافسية السباق الانتخابي أي بعد إعلان القائمة النهائية للمرشحين

الموقف من المشاركة أو المقاطعة متباين داخل الأحزاب. اختار مثلًا حزب العمال المقاطعة المبدئية، وأعلنت أحزاب داعمة للمسار الرئاسي مثل حركة الشعب مشاركتها وتقديم مرشح عنها. أحزاب معارضة أيضًا أعلنت توجهها المبدئي لخيار المشاركة على غرار الحزب الجمهوري الذي حاول أمينه العام المعتقل عصام الشابي الترشح من داخل أسوار السجن. لكن لازالت أحزاب النهضة والتيار الديمقراطي على وجه الخصوص لم تحسم بشكل واضح. من البيّن أن الخيار النهائي مرتبط بديناميكية السباق الرئاسي وبمشهد المرشحين النهائيين الذين تم قبول ترشحهم، خاصة في ظل الغموض أمام العوائق المتتابعة التي تخفض من التنافسية.

توجد خشية من المشاركة بغاية المشاركة المحضة لإكمال مشهد تنافسي وهمي يستفيد منه الرئيس فقط، على غرار مشهد الانتخابات الكاريكاتورية زمن ما قبل الثورة. والمقاطعة، في المقابل، والتي تم اختيارها في استفتاء دستور الرئيس والانتخابات التشريعية، غير قادرة على إنتاج حراك نضالي يستهدف شرعية المنتخب.

يجب التمييز بين المقاطعة المنظمة كخيار سياسي وبين العزوف الانتخابي لشرائح واسعة من الناخبين، إذ لا يعني عزوفهم عن الاقتراع تقاطعهم مع المقاطعة السياسية المنظمة

من الجدير هنا التمييز بين المقاطعة المنظمة كخيار سياسي وبين العزوف الانتخابي لشرائح واسعة من الناخبين، إذ لا يعني عزوفهم عن الاقتراع تقاطعهم مع المقاطعة السياسية المنظمة. وهل يمكن لمقاطعة واعية أن تؤمّن ديناميكية لحراك نضالي نشط بعد 6 أكتوبر/تشرين الأول في مواجهة السلطة؟ الأمر موقوف على تأمين هذه المقاطعة بذاتها شعبيًا تباينًا عن العزوف المحض من جهة، وعلى ضمانات هكذا ديناميكية في ظل حالة الجمود في الساحة السياسية الحزبية، وعدم تحقيق أي اختراق جدّي صلبها وذلك منذ تكوين جبهة الخلاص التي تضم النهضة وحلفائها من جهة وتنسيقية الأحزاب الديمقراطية من جهة أخرى.

يوجد معيار في الأثناء قد يفيد في الخيار بين المشاركة والمقاطعة وهو معيار طبيعة النظام طبق مؤشر الديمقراطية العالمي. غادرت تونس بعد انقلاب 25 جويلية/يوليو نادي الأنظمة ذات الديمقراطية غير المكتملة والتحقت بنادي الأنظمة "البين بين" أو الهجينة (ليست استبدادية وليست ديمقراطية)، وهي أساسًا أنظمة فيها عادة انتخابات شفافة في الاقتراع في مسار سياسي غير نزيه أو على الأقل لا تكتمل صلبه مؤشرات النزاهة الانتخابية.

إعلان القائمة النهائية للمرشحين، وحده سيؤشر على مدى تمثّل الانتخابات مجرّد فسحة سريعة للرئيس لتجديد ولايته بعد إبعاد معارضيه، أم فرصة ممكنة لفرض التداول السلمي على السلطة

تونس حاليًا تتشارك ذات التصنيف مع دول مثل تركيا والسنغال والمكسيك والبيرو وزامبيا، والمطلّع على المسارات الانتخابية في هذه البلدان بما في ذلك الانتخابات الرئاسية يعاين أن المعارضة الديمقراطية غالبًا ما تشارك فيها في الوقت الذي تسعى السلطة غالبًا إلى عرقلة ذلك، واستطاعت المعارضة في عديد المناسبات تحقيق النصر على نحو يجعل السلطة في نهاية المطاف ترضخ للنتيجة بغض النظر عن تباين التفاصيل داخل السلطة في كل بلد، بما يشمل طبيعة التوازنات داخل السلطة، وقوّة المعارضة الديمقراطية في الشارع.

بالنهاية، أعتقد أن القرار الحاسم في المشاركة أو المقاطعة لجلّ الفاعلين السياسيين في تونس لن يتحدّد بشكل قاطع إلا بعد تبيّن مدى تنافسية السباق الانتخابي أي بعد إعلان القائمة النهائية للمرشحين لأنه لوحده سيؤشر على مدى تمثّل الانتخابات مجرّد فسحة سريعة للرئيس لتجديد ولايته بعد إبعاد معارضيه، أم فرصة ممكنة لفرض التداول السلمي على السلطة. فبالرغم من أن الرئيس أظهر عدم تحفّزه لأي تنافسية على نحو القضايا المتلاحقة ضد عديد المرشحين الجديين، وتراجع مؤشرات النزاهة الانتخابية، فالمآل ليس محسومًا في نهاية المطاف. ننتظر

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"