مقال رأي
كنا على وشك التسليم بأنّ الانتخابات الرئاسية 2024 لن تكون تنافسية وجدية واقتربت من أن تكون سباقًا بمنافس وحيد مقابل منافسين قليلين إمّا موالين أو غير معروفين للعموم. اجتمعت ظروف عديدة لذلك، لكن ربما بعض زوايا التقاليد المؤسسية وأيضًا بعض الحظ فقط مسؤولان على إمكانية السماح بانتخابات تنافسية. بداية من شهر سبتمبر/أيلول سيتّضح الأمر أكثر. ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع المتأرجح، وكيف يمكن أن تكون تنافسية وجدية؟
كنا على وشك التسليم بأنّ الانتخابات الرئاسية 2024 لن تكون تنافسية وجدية واقتربت من أن تكون سباقًا بمنافس وحيد، لكن ربما بعض زوايا التقاليد المؤسسية وأيضًا بعض الحظ فقط مسؤولان على إمكانية السماح بانتخابات تنافسية
ليس هناك شك أنّ القانون الانتخابي وخاصة الإجراءات التراتبية صعّبت شروط المنافسة. إذ أنّ 500 مزكٍّ في 10 دوائر انتخابية أصغر من دوائر انتخابات 2019، والسيف المسلط باسم "البطاقة عدد 3" الذي ترك مجالًا للإدارة للتدخل خلق شكوكًا حقيقية حول إمكانية ترشح العديدين.
المؤكد أيضًا أنّ المناخ السياسي العام وخاصة "المرسوم 54" الذي تمت على أساسه ملاحقة عديد الناشطين السياسيين من الأسباب المباشرة للوضع الراهن.
يبقى أنّ قلة جدية من طيف مهم من المعارضة لم تباشر التهيؤ للانتخابات سواءً بداعي قراءة خاطئة اعتقدت أنه لن تكون هناك انتخابات أصلًا، وكان دافع بعض هذه القراءات تصور طهوري لا يريد أن يختلط بالباطل من أي جهة كانت، ويبقى في موقع الربوة في موقف آمن. وهناك من خشي ربما من الالتحام بالناس وخوض حملة صبورة طويلة الأمد لا تنتظر شروط السلطة. هناك دروس كثيرة للاستخلاص، لكن من الواضح أنه كانت هناك صعوبات جمة للحصول على التزكيات، وأنّ البدء بشكل متأخر في ذلك أحد الأسباب الرئيسية فيه.
كان الإعلان عن المترشحين الثلاث المقبولة ملفاتهم في البداية مؤشرًا عن سباق في اتجاه واحد لكن شيئًا فشيئًا بدأت تظهر مؤشرات على سباق أكثر احتدامًا من المتوقع، بدءًا بدا الرئيس متوترًا أكثر من اللازم في تصريحاته ثم بدا المغزاوي أكثر جرأة في نقده للرئيس
كان الإعلان عن الثلاثي، الرئيس المتخلي قيس سعيّد ورئيس حركة الشعب الناصرية الموالية لـ"مسار 25 جويلية" زهير المغزاوي والنائب السابق عن "تحيا تونس" غير المعروف شعبيًا العياشي زمال، مؤشرًا في البداية عن سباق في اتجاه واحد.
لكن شيئًا فشيئًا بدأت تظهر مؤشرات على سباق أكثر احتدامًا من المتوقع، بدءًا بدا الرئيس متوترًا أكثر من اللازم في تصريحاته خاصة في أحد اللقاءات مع وزير الداخلية الذي تم حذفه لاحقًا. ثم بدا أنّ المغزاوي أكثر جرأة في نقده للرئيس باعتباره لا يمثل مضمون "المسار"، وارتفعت وتيرة النقد هذا الأسبوع حيث وصل الأمر إلى وصف الوضع الراهن بـ"الخراب" وانتقد بشكل غير مسبوق الدستور الذي ساند التصويت إليه في السابق، وأيضًا مراسيم الرئيس وأهمها "مرسوم 54".
بدا الخطاب الأخير مفاجئًا حتى أنّ المعارضة الأكثر جذرية وجدت أنّ الرجل يزايد عليها وطاله نقد كثير من أنصارها، خاصة أن تصريحاته مختلفة في الدرجة والتموقع عما كان يصرح به سابقًا.
المتغير الأبرز قرارات المحكمة الإدارية اللافتة التي قبلت طعون كل من عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي.. علمًا وأنّ المكي بقي في استطلاعات الرأي من القيادات الإسلامية القليلة التي تحظى ببعض الشعبية وأنّ الزنايدي سيجد جزءًا كبيرًا من الدساترة في الانتظار
كذلك، أصبح المرشح العياشي زمال محط اهتمام المعارضة بما أنه عبّر عن موقف نقدي من الرئيس مباشرة بعد 25 جويلية، وأصبح كأنه محط اهتمام الإسلاميين والدساترة أيضًا، رغم أنّه لا يزال غير معروف بشكل واسع لدى التونسيين.
بيد أنّ المتغير الأبرز قرارات المحكمة الإدارية اللافتة التي قبلت في البداية طعن المرشح عبد اللطيف المكي القيادي النهضوي السابق ومؤسس حركة عمل وإنجاز. المحكمة الإدارية المعروفة تاريخيًا بنزعة استقلالية أثبتت توجهها في الجلسة العامة بحضور معظم قضاتها، وأسقطت الشروط التفصيلية الكثيرة في التزكيات التي قامت بها الهيئة.
نحن بصدد مؤشرات انتخابات تنافسية.. المانع الوحيد سيكون تدخلًا مباشرًا من السلطة بمنع أيٍّ من المترشحين. حينها سيصبح من غير الممكن نفي تدخلها في المسار الانتخابي
هذا القرار مهم لأن المكي بقي في استطلاعات الرأي المنشورة إلى حد سنة 2022 من القيادات الإسلامية القليلة التي تحظى ببعض الشعبية، خاصة قياسًا بقيادات الإسلاميين التاريخية. فترته كوزير صحة جاد ونشيط سحت بإظهاره شخصًا ناجعًا وليس فقط إسلاميًا. المكي قادر الآن على تنشيط قواعد الطبقة الوسطى المحافظين المتذمرين من أداء الرئيس.
قرار المحكمة الإدارية بخصوص المكي، تلاه آخر بقبول طعن منذر الزنايدي وتأجيل التصريح بالحكم لعماد الدايمي. كلاهمها يمكن أن يثمل اختراقًا، ولو أن الدايمي في تنافس مباشر مع المكي، فإنّ الزنايدي فسيجد أوسط الدولة العميقة والدساترة وأعلى الطبقة الوسطى في الانتظار.
نحن إذًا، وبشكل مفاجئ نوعًا ما، بصدد مؤشرات انتخابات تنافسية. المانع الوحيد سيكون تدخلًا مباشرًا من السلطة بمنع أيٍّ من المترشحين. حينها سيصبح من غير الممكن نفي تدخلها في المسار الانتخابي. مأزق حقيقي ستظهر مؤشراته إن زادت مظاهر التوتر.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"