مقال رأي
"البلاد مقبلة على تحوّلات كبرى.. الأمر لم ينزل علينا من السماء.. هذا الأمر قد أعدت له القوى الديمقراطية منذ سنوات، كلنا ساهمنا في تمهيد السبيل إلى تغييرٍ غدا ضرورةً ملحّةً بنضالاتنا من داخل الجامعة وفي النقابات والجمعيات الثقافية والمنظمات الحقوقية. علينا فقط ألّا ندع الفرصة تمرّ. لماذا يتقوقع المناضلون والمثقفون اليوم على أنفسهم من جديد داخل المقاهي والفنادق والبيوت؟ - لكن من يضمن لك أنّ أصحاب القرار سيقبلون بمساهمتك ومشاركتك؟ أنا لا أثق في الانقلابيين أبدًا وفي العسكريين خصوصًا.." هكذا كتب علي مصباح في نصه الروائي "حارة السفهاء، طبعة دار منشورات الجمل، ص 52".
بمجرد الإعلان عن موعد الانتخابات الرئاسية في تونس في 6 أكتوبر 2024 لم تلبث طبول المناشدة أن باركت التاريخ المذكور واستعارت رمزية ذكرى العبور المصرية وذكرى انطلاق عمليات الطوفان الفلسطينية، وكأن البلاد خلت في تاريخها من الرمزيات
بعد طول انتظار وتأويلات وقراءات، تم مؤخرًا الإعلان، عبر صفحة رئاسة الجمهورية التونسية على فيسبوك، عن موعد الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها، يوم الأحد 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024. طبعًا لم تلبث طبول المناشدة أن باركت التاريخ المذكور واستعارت رمزية ذكرى العبور المصرية وذكرى انطلاق عمليات طوفان الأقصى الفلسطينية، وكأن البلاد خلت في تاريخها من الرمزيات فتم اللجوء إلى استيراد رمزيات تاريخية لشعوب أخرى. ثم عبور من وإلى أين؟ عبور من الديمقراطية إلى التسلطية؟ طوفان الاستبداد على الحريات؟ ثم ماهي شروط هذا العبور المزعوم ومقوماته، إن افترضنا جدلًا صحة ما يدّعيه أصحابه؟
-
أي دور لهيئة الانتخابات؟
"تتولى هيئة الانتخابات، إدارة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها، والإشراف عليها في جميع مراحلها، وتضمن سلامة المسار الانتخابي ونزاهته وشفافيّته، وتصرّح بالنتائج" (الفصل 126 من دستور 2014).
طبعًا حافظ الرئيس التونسي قيس سعيّد على صيغة هيئة الانتخابات وشكلها القانوني في الدستور الذي كتبه سنة 2022، تحديدًا في الفصل 134 منه، بما في ذلك صفتها المستقلة، لكنه نقّح قانونها الأساسي عدد 23 لسنة 2012 بمرسوم عدد 22 لسنة 2022 ليحيلها من هيئة منتخبة من طرف البرلمان إلى منصّبة بمرسوم رئاسي.
حافظ سعيّد على صيغة هيئة الانتخابات وشكلها القانوني في دستور 2022 بما في ذلك صفتها المستقلة، لكنه نقّح قانونها الأساسي ليحيلها من هيئة منتخبة من طرف البرلمان إلى منصّبة بمرسوم رئاسي
وبهذا أفرغت الهيئة من دورها السياسي والتنفيذي كهيئة مستقلة منظمة للعملية الانتخابية، إلى جسم تقني وظيفي يعمل وفق ما يضبطه الرئيس عبر مراسيمه وقراراته، أو ما يعبر عنه بـ "السياسات العامة التي يضبطها رئيس الجمهورية"، الذي بدوره كان قد توعّد مسبقًا، أثناء زيارته لقبر الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في ذكرى وفاته بتاريخ 6 أفريل/نيسان 2023: "أتحمّل المسؤولية ولن أتخلّى عنها.. لست مستعدًا لأن أسلّم وطني لمن لا وطنية له". للإشارة، لم يتوانَ سعيّد في توصيف معارضيه بالخيانة والتآمر، كحد أدنى، فضلًا عن نعتهم بالفيروسات ونعوت أخرى.
يذكر كذلك أنّ هناك مرشحين للانتخابات الرئاسية يقبعون في السجون أثناء كتابة هذه الأسطر وهم: عبير موسى عن الحزب الدستوري الحر، عصام الشابي عن الحزب الجمهوري ولطفي المرايحي عن الاتحاد الشعبي الجمهوري...(هذه القائمة قابلة للزيادة)، فقد صدر مؤخرًا، يوم 12 جويلية/يوليو 2024، حكم قضائي بالإقامة الجبرية ومنع من الظهور الإعلامي ضد المرشح الرئاسي المفترض عبد اللطيف المكي.
الأمر إلى حد ما كاريكاتوري، إذ يشبه السباق الرئاسي الذي هو بصدد الانطلاق، مشهدًا من فيلم "الديكتاتور (2012) The dictator" للمخرج لاري شارلز، أين يقوم الجنرال علاء الدين في الفيلم بتنظيم ألعابه الأولمبية الخاصة (الانتخابات)، وينطلق في السباق قبل إشارة البدء (حملات انتخابية مبكرة)، ثم يعطي هو إشارة البدء، ويطلق النار عمن يحاولون مسابقته، ثم عندما يتعب يقوم أعضاء الهيئة الأولمبية الخاصة بتقريب خط النهاية له ويتوجونه وحده وحيدًا على منصة التتويج.
-
شروط الترشح "على المقاس"؟
"كيف يمكنك أن تأمل في تغييرات حقيقية وإرساء سياسة نظيفة من واحد يأتي الحكم غصبًا؟ إنه مفتك ناهب ومتسلَط بالطرق غير الشرعية وهو لن يقبل بالقسمة التي تأمل فيها. إن المغتصب ليس بقصام أو مشارك" هكذا كتب علي مصباح في حارته ص 53.
تمت إضافة شروط أخرى للترشح للانتخابات الرئاسية في تونس، كضرورة الاستظهار بالبطاقة عدد 3 التي تسند من طرف وزارة الداخلية والتي من المتعارف عليه أنها تتلكأ في إصدار هذه البطاقة لكلّ من لهم قضايا جارية أو في مرحلة التحقيق
خلافًا للأعراف السياسية المعمول بها، تمت إضافة شروط أخرى للترشح للانتخابات الرئاسية في تونس، كضرورة الاستظهار ببطاقة السوابق العدلية، ما يعبّر عنه بالبطاقة عدد 3. طبعًا هذه البطاقة تسند من طرف وزارة الداخلية والتي من المتعارف عليه أنها لا تتعاون وتتلكأ في إصدار هذه البطاقة لكلّ من لهم قضايا جارية أو في مرحلة التحقيق.
يذكر كذلك أن المحكمة الإدارية رفضت من قبل، أيام المجلس التأسيسي، اشتراط البطاقة عدد 3 من بين شروط الترشح لأنها، وفق تعليل القاضي آنذاك، خارجة عن طائلة المترشح، وهو ما يحدث الآن بالفعل حيث عبّر مرشحون مفترضون للرئاسة أو ممثلين لهم عن عدم تمكينهم من البطاقة عدد 3 من ذلك ما قاله نجل السياسي غازي الشواشي الذي اصطحب عدل منفذ لمقر هيئة الانتخابات، لرفض الأخيرة مدّه بالاستمارة رغم استظهاره بتوكيل من موكله وفقه.
تشترط هيئة الانتخابات ضرورة الاستظهار بأصولات التزكيات وأن تكون بالقلم الجاف، ولا تقبل صور الأصول أو النسخ، ما يجعل شرط جمع التزكيات شاقًا ويفترض وجود فريق نشيط وتنظيم لوجستي لجمع التزكيات وتبويبهاوإيداعها في ظرف أسبوع واحد
أيضًا، هناك شرط التزكيات من النواب أو أعضاء مجالس الغرفتين النيابيتين أو المجالس الإقليمية والجهوية، الذين يعتبر سوادهم الأعظم أنهم أبناء ما يسمّى بمسار 25 جويلية، بالتالي ليس منتظرًا أن يتلقى معارضون تزكيات من المجالس النيابية.
يبقى شرط جمع 10 آلاف تزكية من المواطنين الذي تشترط الهيئة ضرورة الاستظهار بأصولات التزكيات وأن تكون بالقلم الجاف، ولا تقبل صور الأصول أو النسخ، ما يجعل شرط جمع التزكيات شاقًا ويفترض وجود فريق نشيط وتنظيم لوجستي لجمع التزكيات وتبويبها في ملف "أكسيل" وإيداعها في ظرف الأسبوع الذي أتاحته الهيئة للترشح.
في ظل مناخ عام يُحكم المرسوم 54 عليه الخناق و قضاء مدجّن وفي غياب محكمة دستورية، واندثار سلطة رابعة اختار مالكوها تجنَب "وجع الرأس".. كيف لعاقل أن يتصوّر "انتخابات حرة مباشرة نزيهة وشفافة؟"
في مناخ عام يُحكم المرسوم 54 عليه الخناق، صحفيون وسياسيون خلف القضبان، قضاء مدجّن وصار وظيفة بعد 6 فيفري/شباط 2022 (حل المجلس الأعلى للقضاء) و"مجزرة" 1 جوان/يونيو 2022 (عزل سعيّد لـ57 قاضيًا)، وفي غياب محكمة دستورية، وأخيرًا اندثار سلطة رابعة اختار مالكوها تجنَب "وجع الرأس" والاصطفاف بعد ما عاينوا سجن مالك صاحب "الإذاعة الأولى في تونس" في "أفريل/نيسان الفارط، كيف لعاقل أن يتصوّر "انتخابات حرة مباشرة نزيهة وشفافة؟".
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"