عادة ما تهاجر الوقائع والأحداث والروايات الخالدة إلى أعالي التاريخ لتتوسد كل الأزمنة وتنام في أرض الخلود الأزلي وتتحول إلى ذاكرة وارفة تحملها عربات "إيكاروس" إلى أحلام الشعوب ليلاً وأهازيج الأطفال صيفًا، ولكن قلة من الأبطال من صنّاع الأحداث يتخارجون عن مدارات التاريخ تلك ويحيدون عن كل تلك اليقينيات الثابتة ويتحولون فجأةً إلى أساطير مدهشة تتدلى من عمق السماء مضيئة كقنديل أخضر وتنبت على الشفاه لغة من صمت الغابات وهي تتخفف من ضجيج الرعاة، وتنبت في أقاصي الليل كلمات بلا ريش تتحول إلى مرج من الأزهار البرية لا تستطيع رياح الشمال القاسية اقتلاعه فتكتفي بمراقصتهم زهرة زهرة.
محمد القمودي الذي حصد "ذهبًا أولمبيًا" جميلاً لم يستطعه أحد في ذاك الزمان عاش طفولته "بسيدي عيش" تلك القرية التي تنام على سفوح جبال قفصة المنجمية بالجنوب الغربي للبلاد التونسية
في تونس هناك أسطورتان فقط، أسطورة القائد القرطاجني حنبعل الذي حارب روما وهزمته غيلة في "زامة" لكن التاريخ توجه وشرب معه الأنخاب على ضوء القمر، فتحول إلى أيقونة ناصعة لا تبليها الأيام بل أصبح نبعًا خالدًا تشرب منه الإنسانية على مر العصور، فلا النبع ينضب ولا التاريخ يروي عطشه، ثم أسطورة ثانية مازالت مملوءة بالحياة، وتقيم بيننا فنراها أحيانًا تقف في الشرفات لتلوح للعابرين في أرض التاريخ فتقرأ لهم من كتاب الغيم بعض القصائد وتفك خيوط بعض التمائم، إنها أسطورة العداء الأولمبي محمد القمودي الذي تحولت سيرته إلى نص ملحمي ملهم في كل زمان ومكان.
محمد القمودي الذي حصد "ذهبًا أولمبيًا" جميلاً لم يستطعه أحد في ذاك الزمان هو كائن يجمع أضداده البسيطة في داخله كغزال بري يتوجس رفيف الغابة في كل لحظة، ويحفظ خيطه السري الممتد من طفولته "بسيدي عيش" تلك القرية التي تنام على سفوح جبال قفصة المنجمية بالجنوب الغربي للبلاد التونسية، هناك على تلك الأرض اليباب ولد القمودي في 11 فيفري/شباط من سنة 1938، وكانت سيدي عيش مغوية على العدو وكان الطفل القمودي منساقًا لا يلوي على شيء.
في تونس هناك أسطورتان فقط، أسطورة القائد القرطاجني حنبعل الذي حارب روما، وأسطورة العداء الأولمبي محمد القمودي الذي تحولت سيرته إلى نص ملحمي ملهم في كل زمان ومكان
التحق الشاب القمودي في سن 18 بصفوف القوات المسلحة التونسية وهي في أوج تشكلها مع بداية الاستقلال عن فرنسا سنة 1956، وكان من مؤسسي النواة الأولى للرياضة العسكرية، كان الوطن محمولًا على سردية البناء والتشييد، وكانت همم التونسيين هي رفع "الدرابو" كما يقول التونسيون في لغتهم العامية مشيرين للعلم، ضمن هذا السياق الحضاري التونسي انطلق "القمودي" في عدوه نحو أسطورته الخالدة كرمح يشق غبار القلب فينعشه.
ونال محمد القمودي بين سنوات 1962 و1968، ضمن بطولات المجلس الدولي للرياضة العسكرية 9 ميداليات منها 6 ذهبية، جعلته في أوج التماعه ونورانيته فدخل كل المضامير الدولية الأخرى مرفوع الهامة يعدو وعلى كتفيه أجنحة مطرّزة بأحلام دفينة تهمه هو وتهم الوطن النابت المتجدد.
كان الوطن محمولًا على سردية البناء والتشييد، وكانت همم التونسيين هي رفع "الدرابو" وضمن هذا السياق الحضاري التونسي انطلق "القمودي" في عدوه نحو أسطورته الخالدة كرمح يشق غبار القلب فينعشه
كانت تونس في تلك اللحظة التاريخية تنظر إلى الفتى النحيل القادم من فيافي الجنوب بإعجاب شديد خاصة بعد مشاركته المتميزة في ألعاب البحر الأبيض المتوسط التي احتضنتها مدينة نابولي الإيطالية سنة 1963، ودافع خلالها عن ألقابه القارية والمحلية في مجال الخمسة آلاف والعشرة آلاف متر، مما أهله لأولمبياد طوكيو سنة 1964 فحملته الألسن في كل بيت وفي كل مقهى وتعلقت به أفراح يحتاجها الإنسان التونسي في ذلك الوقت وكان في قرارة نفسه يدرك حجم الثقل فطار طيران الفراشة المراوغة لكل العقبات وتتالت التتويجات.
كان الذهب الأولمبي عزيزًا وصعبًا خلال أمجد تظاهرة لألعاب القوى في العالم وهي الألعاب الأولمبية، وكانت سماء العدو الرياضي مليئة بالأسماء والنجوم مثل رون كلارك من أستراليا وبيلي ميلس من الولايات المتحدة الأميركية ونفتلي تيمو من كينيا ومامو ويلدي من أثيوبيا، لكن القمودي التونسي العربي كان الأسرع في كل التظاهرات والسباقات العالمية تدفعه رياح لا مرئية إلى منصات التتويج، فنال أربع ميداليات هي أقمار لم ينضب نورها بعد.
كان الذهب الأولمبي عزيزًا وصعبًا خلال أمجد تظاهرة لألعاب القوى في العالم وهي الألعاب الأولمبية، وكانت سماء العدو الرياضي مليئة بالأسماء والنجوم لكن القمودي التونسي العربي كان الأسرع
وحاز القمودي على فضية أولمبياد طوكيو سنة 1964 وذهبية وبرونزية أولمبياد ميكسيكو سنة 1968 وفضية أولمبياد مدينة ميونيخ الألمانية، لم تكن هذه التتويجات الأولمبية فردية من صنع القمودي لوحده، لقد كانت وحيًا تونسيًا صميمًا، إنها كيمياء صيحة الأجداد في صدر الفتى النحيل القادم من أعالي الجنوب التونسي، لقد كانت ميداليات برائحة سرو جبل أولمب بأثينا القديمة.
وإلى اليوم لم ننسى قول القمودي لحظة تتويجه: "لحظة صعودي على منصة التتويج لتسلم الميدالية الذهبية لسباق الخمسة آلاف متر وحال سماعي للنشيد الوطني التونسي راودتني مشاعر غريبة وجياشة وقوية، لقد حملتني تلك الأحاسيس إلى تونس بكامل زخمها التاريخي، فرأيتها تلمع كنجمة وضاء، لقد مرّ كل ذلك في رمشة عين وأنا أمام قصف عدسات المصورين الفوتوغرافيين".
ونال محمد القمودي خلال كامل مسيرته الرياضية العالمية المتوجة بكل ألوان المعادن النبيلة وبكل محبة التونسيين، 51 ميدالية موزعة بين الألعاب الأولمبية الصيفية وألعاب البحر الأبيض المتوسط وبطولة العالم للعدو الريفي والبطولة المغاربية لألعاب القوى والبطولة المغاربية للعدو الريفي والمجلس الدولي للرياضة العسكرية وبطولة تونس للعدو الريفي وبطولة تونس لألعاب القوى.
وتحول محمد القمودي إلى أسطورة حية ملهمة للأجيال الرياضية التونسية والعربية والعالمية يكرّم أينما حلّ، إنه أغنية تونسية لا تهدأ أبدًا.