04-مايو-2024
كاميرا المراقبة في تونس

كاميرا المراقبة في زمننا الراهن تتحدّد قيمتها وخطورتها حسب زوايا الاستعمال والتوظيف (pexels)

 

"عيون الرقباء" عنوان لم يعد من السهل نسبته إلى مرجعيّة مخصوصة أو مجال مُحدّد، ففي الشعر يشكو المحبّ عيون العذّال، وفي السياسة يتخفّى المعارضون من عيون الوشاة، وفي الرياضة لاسيما في كرة القدم باتت عيون "الفار" (VAR) ترصد بمنتهى الدقة التقنية أرجل اللاعبين وأيديهم،  فتفضح كلّ التجاوزات ما بدا منها لحكام الساحة وما خفي عنهم.

ظلّت عين الرقيب عبر كل الأزمنة موضوع ذمّ وكره وإدانة وتحقير، فقد اقترنت بمعاني الخسّة والوضاعة والتضييق والتقييد والمطاردة، وقد بلغت صورة "عين الرقيب" أخطر درجات الفضاعة والترهيب في كتاب 1984/ "الأخُ الأكبر" الذي صوّر فيه المبدع جورج أورويل بأسلوب فنّي قصصي معنى أن يكون المرءُ أمام عدسات ترقبه حيثما حلّ.

ما كان مجرّد خيال في رواية 1984 لجورج أورويل التي كُتبت في النصف الأوّل من القرن العشرين تحوّلَ إلى حقيقة، ولئن كان "الأخ الأكبر" في الرواية شرًّا محضًا فإنّ كاميرا المراقبة في زمننا الراهن تتحدّد قيمتها وخطورتها حسب زوايا الاستعمال والتوظيف

يقول السارد مصوّرًا هذا المشهد المفزع الخانق "كانت الشقة التي يقصدها "ونسون" في الطابق السابع.. راح يرتقي درجات السلم بخطًى وئيدة متوقّفًا للاستراحة عدّة مرّات، وعند كلّ منعطف من منعطفات السّلم السبعة وعند كلّ محطّة من محطّات المصعد وبمواجهة الباب كانت تنتصب صورة الوجه الضخم لتُحدّق في وجه كلّ قادم إنها واحدة من تلك الصور المرسومة على نحو يجعل المرء يعتقد أن العينين تلاحقانه أينما تحرّك وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول " الأخ الكبير يُراقبك".

ما كان مجرّد خيال في رواية الصحفي والروائي البريطاني التي كُتبت في النصف الأوّل من القرن العشرين تحوّل إلى حقيقة، ولئن كان "الأخ الأكبر" في رواية 1984 شرًّا محضًا فإنّ كاميرا المراقبة في زمننا الراهن تتحدّد قيمتها وخطورتها حسب زوايا الاستعمال والتوظيف.

 

  • هتك الأسرار وإلجام العفوية 

عبارة الأخ الأكبر في الرواية المذكورة تحيل رمزيًا إلى التضييق السياسيّ أمّا في الثقافة العربية عامةً والتونسية خاصةً فهي حمّالة لدلالة الرقابة الأخلاقيّة، فلا تَعْجبْ أن تخاطب "سيرين" حبيبها "سامي" قائلة لنعدل عن هذا الشارع إنّ أخي يرتاده باستمرار، همست له بهذا التنبيه وهي في طريقها معه لقضاء أمسية كرويّة تتابع فيها فريقها المفضل متخفية بين الجماهير الغفيرة بعيدًا عن أعين العذّال والرقباء، لكن هيهات!

عينُ المخرج نابت عن عين "الأخ الأكبر"، فنقلت في مشهد يملأ الشاشة لحظةَ عناق سرين وسامي فرحًا بهدف عانق الشباك، لحظةَ أحسّت هي وحبيبها بالفرحة والانعتاق شعر أخوها الأكبر وهو يشاهد المباراة من التلفاز باختناق، فتحسّس عنقه و"سدّد بقبضة يده في الهواء".

عبارة "الأخ الأكبر" في رواية 1984 لجورج أورويل تحيل رمزيًا إلى التضييق السياسي أمّا في الثقافة العربية عامةً والتونسية خاصةً فهي حمّالة لدلالة الرقابة الأخلاقيّة

في مقهى وسط العاصمة ضمّت حيّزًا واسعًا في الأسفل وفضاءً ضيّقًا في الأعلى، ورغم أنّ المساحة الأولى أوسع وأفضل تهوئةً وأدنى سعرًا، إلا أنّها لم تكن تستهوي إلا من يأتون فُرادى، أمّا الأحبة فتراهم أقرب إلى الصعود عبر سلّم ضيّق إلى الأعلى أو ما يسمّى في اللهجة العامية التونسية "السدّه" طلبًا للانزواء، ولأنّ هذا الفضاء مجهز من كلّ أركانه بالكاميرا المصوّبة على المجالس والطاولات فإنّ التجاوزات الأخلاقيّة حسب النادل "عماد" محدودة، فالحميمية لا تتعدّى لمسة يد أو مداعبة شعر.

مشهد العناق أو القبلة أو المداعبة المفضوحة بسبب الكاميرا في الملعب أو في الساحات العامّة أو في المساحات التجارية والترفيهية أو في المراكز الثقافية أقلّ حرجًا بالنسبة إلى "كلثوم " من وضعيّات أخرى تبدو بسيطة لكنها تجعل الجالس في هذه الفضاءات متحفّزًا متكلّفًا متصنّعًا كأنه في "جلسة تصوير"، كل شي فيها بحسبان، فقد تصدر منه  نظرة  أو حركة أو إيماءة غير مناسبة تلتقطها عدسة الكاميرا، فتُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي فتبدو ملامح المستهدف بسهام الكاميرا قبيحة أو مقزّزة أو مستفزة، هذا يغالبه النعاس في ندوة علمية وذاك يحرك لسانه أو يضع إصبعه في أنفه أو يفرك يده بانفعال أو يحكّ مكانًا من جسده وهو يتابع درسًا أو خطبة أو مداخلة.. إنّ الكاميرا المبثوثة في كلّ مكان إذ تسجّل كلّ حركاتنا وسكناتنا إنّما تحد من لذّة العفوية ومتعة التصرّف بتلقائيّة.

 

صورة
كاميرا المراقبة في زمننا الراهن تتحدّد قيمتها وخطورتها حسب زوايا الاستعمال والتوظيف (pexels)

 

  • الدور الوقائي والمسار القضائي

هذه الكاميرا رغم أنها تحدّ من عفويّة الحركة وتدفع نحو ضبط ردود الأفعال التي تمليها المشاعر أو الحالات المحرجة والطارئة فإنها لا تخلو في بعض المقامات من الفضائل والمزايا.

فهي بالنسبة إلى "معز"، صاحب مغازة تجارية بولاية بن عروس، لا تساهم فقط في الحدّ من جرأة بعض المنحرفين على السرقة وإنّما تتحوّل إلى قرينة يتمّ الاستناد إليها لفضّ الجدال مع الزبون عند الاختلاف حول خلاص فاتورة المشتريات أو عدمه سواءً بسبب السهو أو عند محاولة الإيهام والتحيّل.

كاميرا الرقابة رغم أنها تحدّ من عفويّة الحركة وتدفع نحو ضبط ردود الأفعال التي تمليها المشاعر أو الحالات المحرجة فإنها لا تخلو في بعض المقامات من الفضائل كالحدّ من جرأة بعض المنحرفين على السرقة أو اعتمادها كقرينة لفضّ جدال ما

تركيز الكاميرا بالنسبة إلى "معز" مزاياه أقرب إلى الحماية منها إلى معالجة المشكلة عند وقوعها، لأنّ التجاوزات في رأيه إن حصلت خاصّة من قبل القاصرين تحتاج عند التظلم والمتابعة الأمنية والقضائيّة إلى إجراءات معقّدة ومكلفة مالًا ووقتًا وجهدًا ذهنيًّا، كما تخلّف توتّرًا مع الزبائن والجيران. 

وفي كلّ الأحوال، يضيف معز أنّ الكاميرا لا تنوب العين الطبيعية، فالتفطّن إلى محاولة السرقة عندما يهمّ الفاعل بإتيانها يظلّ أفضل وأسرع في المنع وإحباط العملية من متابعة الأمر بعد وقوعه إثر تفحّص الكاميرا، ماذا تراني أفعل، يضيف معز في حيرة، إذا تفطّنت عبر الكاميرا إلى طفل في الثانية عشر قد سرق علبة شكولاطة أو أخذ قطعة حلوى ثمينة؟ 

"كريم" صانع في محلّ لصناعة الحلويّات يعتقد أنّ الكاميرا التي ركّزها "العرف" لا دور لها إلا مراقبة العمّال وتقييد حركاتهم وسكناتهم، فالمصنع الصغير الذي فيه يعمل أبعد ما يكون عن المخاطر من سرقة أو غيرها وفق تقديره.

"فاطمة" أم لطفلين في إحدى رياض الأطفال وجدت في كاميرا المراقبة المركزة في كلّ الأقسام ما جعلها قادرة على متابعة ابنيها عن بعد، وهو ما جعل الأولياء حسب تعبيرها يتدخلون في الإبان عند حدوث أي إهمال، في نفس السياق يدعو "شكيب" إلى تعميم هذا الأمر بالمدارس العمومية والمعاهد في الأقسام والساحات فهذا كفيل بجعل التلامذة والمربين أكثر انضباطًا عملًا وسلوكًا في ظلّ ما تواجهه هذه المؤسسات من تجاوزات.

 

صورة
يمكن أن تكون الكاميرا شاهدًا يقع اللجوء إليه عند حصول تجاوزات في مراكز الإيقاف وفي مواقف الدوريات وحتّى في السجون (pexels)

 

  • الكاميرا ودليل البراءة والإدانة

 في المقام الأمني والقضائي، الكاميرا ليست شرًّا محضًا وليست خيرًا محضًا، فهي بلا شكّ عنصر مساعد على انتهاك المعطيات الشخصيّة، وهي في المقابل شاهد يمكن اللجوء إليه عند حصول تجاوزات في مراكز الإيقاف وفي مواقف الدوريات الأمنية، وحتّى في السجون، لذلك تصاعدت مطالب العديد من المواطنين والحقوقيين الداعية إلى تركيز كاميرا مراقبة تكون بمثابة الشاهد التقني عند الاختلاف بين رجل الأمن والمواطن حول بعض التجازوات التي يؤكّدها الواحد وينكرها الآخر.

 في المقام الأمني والقضائي، الكاميرا ليست شرًّا محضًا وليست خيرًا محضًا، فهي بلا شكّ عنصر مساعد على انتهاك المعطيات الشخصيّة، وهي في المقابل شاهد يمكن اللجوء إليه عند حصول تجاوزات في مراكز الإيقاف وفي مواقف الدوريات الأمنية، وحتّى في السجون

وكم من قضيّة اعتداء أو ادعاء كاذب صادرة من هذا أو ذاك قد ساهمت في حسمها كاميرا المراقبة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك تداول لقطة فيديو تكشف تعرض محامية للاعتداء في أحد مراكز الشرطة بالمروج سنة 2020 وقد عدّها الكثيرون دليل إدانة، هذا فضلًا عن أحداث أخرى متفرقة كانت الكاميرا فيها ذات دور أساسي في تحقيق العدالة ومحاصرة المجرم بالأدلة سواءً كان قاتلًا أو سارقًا أو معتديًا أو مختلسًا أو متجاوزًا لسلطاته.

وقد يعمد المتضرر متى لم يتحقّق من هوية الجاني إلى نشر مقطع من الجريمة على شبكات التواصل داعيًا إلى الإبلاغ عن المجرم عند التعرفّ على ملامحه فيجد تفاعلًا هامًّا شهادة ونشرًا.

كم من قضيّة اعتداء أو ادعاء كاذب صادرة من هذا أو ذاك قد ساهمت في حسمها كاميرا المراقبة، ومن أشهر الأمثلة على ذلك تداول لقطة فيديو تكشف تعرض محامية للاعتداء في أحد مراكز الشرطة بالمروج سنة 2020

نخلص من خلال هذه المعطيات أنّ الكاميرا شأنها شأن جلّ التجهيزات التقنية والتكنولوجية تتخطّى أهميتها البعد الرقابي أو الوظيفي أو الأمني لتمسّ جوانب نفسيّة وذهنية وسلوكية وثقافية، فتساهم في تكييف حركاتنا وسكناتنا في المقامات العامّة، وهي بلا شكّ سلاح ذو حدّين، مخاطرها ومزاياه مشروطة بدرجات التمدّن والتحضّر، فلا الكاميرا قادرة على الحيلولة دون الإقدام على ارتكاب الجريمة، ولا القوانين كفيلة بمنع انتهاك المعطيات الشخصية فكلاهما لا يتخطّى دوره المساهمة في الحدّ من وقوع التجاوزات، وإنما الأمر موكول في كليته إلى القيم والأخلاق في مقام أوّل.