06-فبراير-2019

ارتفاع معدلات السرقة يدفع التونسيين لتفضيل الأبواب والنوافذ الحديدية لحماية منازلهم (Getty)

 

يتشكل الخوف سلوكيًا تخفّيًا وتقيّة، ويتجسّد لسانيًا من خلال الإعراض عن تناول الهموم الخطيرة القاصمة والإقبال على الخوض في "المشاغل اللطيفة الناعمة"، وقد يتجلّى الخوف في آيات أخرى، منها الحرص على اتّخاذ إجراءات الحماية والوقاية، كما يمكن أن يؤثّر التهيّبُ والاحتراس في بعض الاختيارات المتّصلة بالبناء والمعمار وبتصميم المنازل.

فلم تعد الأسوار العالية والأبواب والنوافذ الحديديّة في جلّ المدن التونسيّة مجرّد اختيارات جماليّة ذوقيّة على النحو الذي يشاهده السائح بسيدي بوسعيد، بل تحوّلت إلى سُبل للتوقّي من جرائم السرقة والخلع والسطو التي أفقدت المواطنين الإحساس بحرمة مساكنهم وحصانة ما فيها وجعلت مشاعر السكينة والأمان تهجر بيوت الكثير.

جرائم السرقة في تونس باتت خلال السنوات الأخيرة الأوسع انتشارًا والأكثر تواترًا، هذا المعطى يعدّ من الأسباب الموضوعيّة التي ساهمت في تحوّل الخوف من هذه الظاهرة الخطيرة إلى حالة مؤثّرة في سلوك المواطن واختياراته.

اقرأ/ي أيضًا: آخرها جريمة منزل كامل.. انتشار الجريمة يربك الأمن المجتمعي

المواطن والأربعون ألف سارق!

انعقد منذ حوالي شهرين مؤتمر حول الجريمة في تونس قدّمت فيه نجاة الجوّادي مديرة التنسيق الجهويّ بالإدارة العامّة للأمن العمومي أرقامًا مثيرة مفزعة ومعبّرة، منها تخطّي عدد جرائم السرقة الأربعين ألًفا خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2018، وقد بلغ العدد الجملي للجرائم وفق الأرقام التي أعلنتها الجوّادي 174 ألفًا، في حين بلغت 107 ألفًا سنة 2017، ولم تتخطّ المائة ألف سنة 2016.

بناء على ذلك، يمكن التسليم بأنّ المجتمع التونسي يواجه أزمة أمنيّة تشتدّ من سنة إلى أخرى، من أوكد علاماتها تحوّل السرقة إلى ظاهرة لا فكاك منها في ظلّ رعونة الدولة وتراجع التضامن الاجتماعي، هذه الأحكام رغم ما توحي به من موضوعيّة تبدو بالنسبة إلى فئة كبيرة من التونسيين مضخّمة تضخيمًا غير بريء تهدف في رأيهم إلى "تجريم الثورة" والإيهام بأن الحرية هي أصل البليّة الأمنية.

 تخطت عدد جرائم السرقة في تونس 40 ألًفا خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 2018 ما يطرح السؤال حول دور الدولة في توفير الأمان للمواطنين

لا شكّ في أنّ التونسيين متباينون في تقييم مستويات الأمن ودرجات الشعور بالأمان، إذ يصّر المنتصرون لشعار "بعد الثورة خير" على أنّ الإحساس بتعاظم الجرائم كَمًّا ونوعًا راجِعٌ إلى مناخ الحرية الذي أتاح للإعلاميين والمدوّنين نشر الوقائع القضائيّة والأمنيّة والتوسّع في تحليلها وإبداء الرأي فيها، فيكون العلم بهذه الأخبار والحقائق، اطِّلاعًا وفهمًا، قد عزّز حضورها العقول والأَفهام، ذلك أن "الوعي يقوّي الأزمة" في النفوس وفي الأذهان، وجهل الوقائع والنوازل أو الغفلة عنها أو تعطّل سريانها على الألسن يوحي بانعدامها، فالأشياء لا يتحقّق وجودها في ذاتها إنّما يتحقّق من خلال الناظر إليها والمعبّر عنها.

حتّى إن سلّمنا برجاحة هذه القراءة وزعمنا بأنّ تواتر الجرائم يكاد يتماثل كمًا ونوعًا قبل الثورة وبعدها وحَسِبْنا أن التباين مرجعه التعداد لا العدد، أي الاختلاف بين الأرقام المعلنة والأرقام الواقعية، هذا الحسبان وذاك الزعم لا يبيحان لنا نُكران عودة الخوف إلى نفوس التونسيين بصرف النظر عن كون الدافع واقعيًا موضوعيًا أو بسبب التزييف الإعلاميّ، فالتزييف في الخبر كما في الأوراق يقتضي وجود عيّنات أصليّة يُبنى عليها، فتوضع في خميرة المبالغة والتضخيم، فيتعاظم شأنها.

من الخوف العمودي إلى الخوف الأفقي

سواء كانت أسباب الإفراط في الخوف والحيطة واقعيّة موضوعيّة أو مَرضيّة عُصَابيّة يمكن الإقرار أنّ مصادر الخوف واتّجاهاته قد تغيّرت، فخفّ أو كاد يختفي الخوف العمودي الطاغي زمن الاستبداد ومن علاماته تعسّف السلطة على المواطن مراقبة وسجنًا وتعذيبًا واختفاءً قسريًا ومُصادرةَ ممتلكاتٍ وتضييقًا على آفاق التعبير وكسب الرزق.

تنتشر في تونس ظاهرة استنجاد المواطنين بالأبواب والنوافذ الحديدية لحماية منازلهم من السرقة والسطو

نما، في المقابل، بعد الثورة الخوف الأفقيّ بين أفراد ومجموعات تربطهم "صلة رحمٍ" اجتماعيّة أو مهنيّة أو دمويّة وتجمع بينهم مشاغل مشتركة وهموم متماثلة ومحن متطابقة في مجالات التعليم والنقل والصحّة والأمن وسائر وجوه الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: من بينها قانون الحرارة: باحث في علم الاجتماع يكشف عن أسباب تفشي ظاهرة الاغتصاب

يُعبّر التونسيون عن هذه الحالة بمَثل شعبيّ نصّه بالعاميّة "الفلّوس ما ينقب كان عين خوه" (لا ينقر فرخ الدجاجة غير عين أخيه) وهي عبارة تردّد صدى أمثال أخرى أبعد عن الإيحاء والترميز وأشدّ تصريحًا ووضوحًا منها " وٍينْ هَمِّكْ وِينْ دَمّْكْ"، و"صباح الخير يا جاري انت في دارك وأنا في داري".

تواصلَ اتّساع هذه الهوّة الأفقيّة، فخلّف ذلك فراقًا وريبة وإعراضًا عن التواصل، وهو ما ساهم في تعطيل مبدأ التضامن الاجتماعيّ في مواجهة المحن الماديّة والأمنيّة، من قبيل ذاك الذي مارسه جلّ التونسيين وعاينوه في الأحياء والأنهج بُعيد هروب بن على وحال التفطّن إلى عزم أنصاره على إحداث الهرج والمرج والفوضى وبث الرعب في نفوس التونسيين.

هذه الوضعيّة الأمنيّة والثقافة الاجتماعيّة جعلت التونسيين يستأنسون بقاعدة "احمِ نفسك بنفسك"، يتجلّى ذلك من خلال الصور والمشاهد والشهادات التي جمعتها "ألترا تونس" من بعض المدن والأحياء.

مدن الأقفاص

فيلا ذات أبواب ونوافذ متباينة شكلًا وحجمًا قُدّت من البلّور والألمنيوم والخشب الثمين ثمّ أُردفت بأبواب ونوافذ غليظة متينة كأنها المتاريس زمن الحرب، منظرٌ مثير دفعنا إلى تصويب عدسة "ألترا تونس" وعينيها إلى واجهات المنازل والعمارات والفيلات والمحلات التجاريّة في العديد من شوارع تونس الكبرى (منّوبة، وبن عروس، وأريانة والعاصمة) وأنهجها وأزقتها.

إفراط في التوقي من السرقة (أحمد الزوابي/الترا تونس)

كان المقصد في البدء السعي إلى التحقّق من انتشار هذه الظاهرة التي حوّلت المنازل إلى ما يشبه الأقفاص، فإذا الانتشار الواسع لهذه الظاهرة دفعنا إلى كدّ البصر بحثًا عن محلّ واحد يمثّل استثناءً يكون بلا أبواب ونوافذ حديديّة، فلم نظفر بهذا الاستثناء إلّا في الطوابق العلوية لبعض العمارات حتّى البنايات التي لم تكتمل سارع أصحابها إلى تأمينها بهذا الأسلوب الوقائيّ.

ذكر لـ"ألترا تونس" سبعة جيران من سكّان أحد الشوارع حديثة البناء بالمغيرة بمنطقة فوشانة بأنّ محلّاتهم قد تعرّضت للسرقة حالما شرعوا في وضع الأسلاك الكهربائيّة، وأعرب أحدهم على حسرته لأنّه لم يسارع بُعيد بناء الجدران بحماية منافذ المنزل بأبواب ونوافذ حديديّة.

أشار، في المقابل، فتحي ربّانة وهو من متساكني أحد الأحياء الشعبيّة بالعاصمة بأنّه قد استفاد من تجارب السابقين من الأصدقاء والجيران فاتّخذ كلّ الاحتياطات للتصدّي للسرقة، فشيّد سورًا عاليًا وحصّن بنايته بأبواب حديديّة مباشرة بعد رفع الجدران الخارجيّة غير أنّ ربّانة لم يخف قلقه من التكلفة الإضافيّة التي تقتضيها هذه الخطوة، فقد أصبح المواطن مُكرهًا على إنفاق حوالي خمسة آلاف دينارًا لتأمين منزل متوسّط القيمة بالأبواب والنوافذ الحديديّة في ظلّ الارتفاع المطّرد لسعر الحديد.  

المناعة قبل البراعة

"لا أطلب في الباب الحديديّ حُسنًا وبراعة ولا يعنيني في النافذة جمالًا وفخامة، لا أبغي غير الصلابة والمناعة"، هذه العبارة تتكّرر على مسمع الحدّادين كلّما استنجد بهم مواطن قد اكتوى بنار السرقة بعد أن نالت أبواب منزله ونوافذه الخشبيّة والبلورية ما نالت من الخلع والتكسير.

يحدثنا وليد المشراوي، حدّاد بولاية بن عروس، قائلًا: "الزبائن على ضربين منهم من يأتي قبل التعرّض إلى السرقة، فتراهم يتحلّون بالحكمة والهدوء، فيحرصون على التوفيق بين المنزع الجمالي والمقصد الوقائي، ومنهم من يهجم علينا  في اندفاع وتوتّر، فترى الواحد من هؤلاء يقصّ عليك محنة تعرّض بيته إلى السرقة عبر كسر إحدى النوافذ أو خلع أحد الأبواب، وتحت وطأة هذا المكروه تراه يبالغ في التأكيد على شرط صلابة الحديد وقرب أعمدة النوافذ ومتانة الوصل واللحام بين القفل والباب، فأردّ مازحًا ساخرًا مع من يقبل المزاح طبعًا "بَعْدْ مَا تْخِذْ شْرى مُكحلة" (أي بعد أن وقعت الطّامّة اشترى سلاحًا)، ثم أسعى إلى أستجيب إلى رغبة الحريف المَكْلُومِ".

وليد المشراوي (حدّاد): يبالغ الحريف الذي تعرض بيته للسرقة حين طلبه لصنع باب حديدي على شرط صلابة الحديد وقرب أعمدة النوافذ ومتانة الوصل واللحام بين القفل والباب

في المقابل أكّد على الخليفي وهو حدّاد له تجربة امتدّت على عقدين لـ"ألترا تونس" أنّه ينصت جيّدًا إلى الحريف الحريص على شروط السلامة، ويتفهّم خوفه وتوتّره، غير أنّه لا يقبل أن يكون عمله خاليًا من الجمال فيحاول أن يستجيب من جهة إلى رغبة المواطن، ويحرص من جهة أخرى على ضمان جودة إنتاجه، فالحدّاد ينبغي أن يوفّق على حدّ تعبير الخليفي بين البعدين الجمالي والوظيفي بصرف النظر عن رغبة الحرفاء.

إقبال المواطنين على تأمين بيوتهم بالأبواب والنوافذ الحديديّة جعل هذه الحرفة تشهد انتشارًا واسعًا، فقد عاينت عدسة "ألترا تونس" بالمروج الثالث بولاية بن عروس خمس ورشات حدادة في نهج واحد طوله لا يتعدّى ثلاثمائة مترًا.

هذا الانتشار من شأنه أن يشجّع الفتيان والشباب على التكوين المهني في اختصاص الحدادة، وهو أحد الأسباب التي حثّت بعض المعطّلين عن العمل منهم عبد الرحمان العبّاسي ذي العشرين ربيعًا على الدراسة بولاية الكاف أين تحصّل على شهادة لحّام بالقوس الكهربائيّ مكّنته من العمل بإحدى ورشات الحدادة وكسب رزقه بكفاءة واقتدار في بلد يشكو أزمة تشغيل خانقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضحايا الاغتصاب في تونس.. قصص الوجع الدائم

منها تونسية قتلت 6 من أبنائها.. قصص أمهات تحوّلن إلى سفّاحات