27-مايو-2024
مهدي زقروبة المحامي

تتعزّز الحاجة لتكون حادثة "التعذيب" محطة توقّف لأنّ تجاوزها لا يعدّ فقط مواصلة لتكريس الإفلات من العقاب، بل يعدّ إيذانًا بدخول مرحلة جديدة من الانحرافات الخطيرة (صورة أرشيفية)

 

مثلّت القرائن المتظافرة حول تعرّض المحامي مهدي زقروبة، عضو المكتب التنفيذي لجمعية المحامين الشبان، لأفعال تكيّف في خانة "التعذيب" وذلك خلال فترة الاحتفاظ به، عنوانًا صاعقًا يعيد للأذهان ممارسات عرفتها تونس زمن ما قبل الثورة. تنذر هذه الحادثة بانحراف خطير في مسار تردّي الوضع الحقوقي بالبلاد، وهي بقدر ما تستوجب يقظة المجتمع الحقوقي، بقدر ما تستلزم أيضًا من السلطة النأي بنفسها عنها عبر اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لعزل الحادثة وضمان عدم تحوّلها إلى لبنة لسلسلة انتهاكات ممنهجة.

 

  • مسؤولية القضاء

كشفت معاينة قاضي التحقيق للوضعية الصحية التي مثل بها مهدي زقروبة أمامه عن أضرار جسدية بليغة كانت تفترض عرضه على الفحص الطبي لإعداد تقرير في الغرض. طلب تقّدمت به هيئة الدفاع ولكن رفض قاضي التحقيق الاستجابة له لـ"أسباب أمنية". ولم يكن لهيئة الدفاع، والحالة تلك، إلا المبادرة بإيداع شكاية جزائية على معنى الفصل 101 مكرّر من المجلة الجزائية أمضى عليها أكثر من 1600 محامٍ في مقدّمتهم عميد المحامين ورئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس. شكاية لا تزال في رفوف النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس، ولا يزال طلب العرض على الفحص الطبي مؤجلًا لأجل غير معلوم. 

رفض العرض على الفحص يتعارض مع القانون المحلّي ويتناقض مع المعاهدات والمواثيق الدولية، كما أن  المبادئ تقتضي أن تتكفّل الدولة بالتحقيق فورًا وبفعالية في الشكاوى والتقارير المتعلقة بالتعذيب وسوء المعاملة

رفض العرض على الفحص، ناهيك عن تعارضه مع القانون المحلّي، فهو يتناقض مع المعاهدات والمواثيق الدولية وفي مقدّمتها بروتوكول إسطنبول الذي يقدّم دليلًا للتقصّي والتوثيق الفعّالين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة الذي يوجب، بدرجة أولى، إجراء فحص طبي كامل يقوم به طبيب مؤهل وفق قواعد المهنية والنزاهة. 

والنقطة الثانية من المبادئ تقتضي أن تتكفّل الدولة بالتحقيق فورًا وبفعالية في الشكاوى والتقارير المتعلقة بالتعذيب وسوء المعاملة، بل حتى في صورة عدم وجود شكوى، ينبغي إجراء تحقيق.

امتناع النيابة العمومية على النظر في الشكاية وتحديدًا عرض زقروبة على الفحص الطبي بالنظر إلى أنّ آثار الأضرار البدنية في جسده تتلاشى عبر الزمن هو فعل سلبي يتعارض مع موجبات الإنصاف والمساءلة. 

امتناع النيابة العمومية عن النظر في الشكاية المتعلقة بتعذيب مهدي زقروبة، وتحديدًا الامتناع عن عرضه على الفحص الطبي بالنظر إلى أنّ آثار الأضرار البدنية في جسده تتلاشى عبر الزمن، هو فعل سلبي يتعارض مع موجبات الإنصاف والمساءلة

 

  • مسؤوليات متعددة من أجل المساءلة

والمسؤوليات متعدّدة لا تقف عند الجهات القضائية وبالخصوص قاضي التحقيق أو النيابة العمومية، بل تمتدّ للسلطة السياسية التي يُفترض أن تأذن بإجراء الأبحاث الإدارية والتأديبية اللازمة وذلك إن ما كانت توجد إرادة لكشف الحقيقة والمساءلة. إن الاكتفاء بالنفي دون المضي في استتباع إجراءات التحقيق، على جميع مستوياته، يجعل النفي مجرّد دفعًا قوليًا لإخلاء المسؤولية. 

المسؤوليات متعدّدة لا تقف عند الجهات القضائية وبالخصوص قاضي التحقيق أو النيابة العمومية، بل تمتدّ للسلطة السياسية التي يُفترض أن تأذن بإجراء الأبحاث الإدارية والتأديبية اللازمة وذلك إن ما كانت توجد إرادة لكشف الحقيقة والمساءلة

الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب مطالبة بدورها بالقيام باتخاذ الإجراءات اللازمة، ويُطرح السؤال حول عدم إصدارها لبيان صحفي بالنظر لفداحة الحادثة واستتباعاتها، خاصة وأنها لطالما أدانت، في مناسبات عديدة، سياسة الإفلات من العقاب وضرورة محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات ضمانًا لعدم تكرارها وإنصافًا للضحايا.

 

 

استحقاق المساءلة بدوره محمول على الهيئة الوطنية للمحامين من زاوية لزوم التمسّك به بشكل جدّي وصارم خاصة أمام ضغط الوقت بخصوص مطلب العرض على الفحص. إذ لا يعدّ إضافة أسماء عميد المحامين ورئيس الفرع الجهوي لشكاية أعدّتها هيئة الدفاع عن زقروبة إخلاءً للمسؤولية للقيام بما يجب للدفاع عن حق أحد منظوري الهيئة، وهو، للتذكير، عضو مكتب تنفيذي بجمعية المحامين الشبان، وبما يحمله من ذلك من رمزية وتمثيلية في جسد المحاماة. 

تقاعس هيئة المحامين عن ممارسة الضغط المؤسساتي المشروع للعرض على الفحص الطبي قد لا يُفهم إلا عنوان تخاذل، وهو ما يزيد في إشاعة الشكوك حول جديّة موقف الهيئة في التصدّي للانحرافات المسجّلة

التقاعس عن ممارسة الضغط المؤسساتي المشروع للعرض على الفحص الطبي قد لا يُفهم إلا عنوان تخاذل، وهو ما يزيد في إشاعة الشكوك حول جديّة موقف الهيئة في التصدّي للانحرافات المسجّلة.

 

  • التعذيب في ذاكرة ماضي الانتهاكات

لطالما كان التعذيب، في الأثناء، أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان جسامة في التاريخ المعاصر للبلاد زمن الاستبداد، على نحو ما عكسته شهادات الضحايا في الجلسات العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة التي بيّنت آثاره التي لا تقف عند المستوى البدني المحض، بل تمتدّ، في العمق، للمستوى النفسي بما يحمله من امتهان لكرامة الإنسان.

 يعدّ هذا الانتهاك مؤشرًا خطيرًا على الانحراف في سلوك أجهزة الدولة تجاه المعارضين. والتصدّي له يقتضي فرض استتباع إجراءات المساءلة، من الجهات القضائية والسياسية والإدارية وذلك كي لا تتحوّل الحادثة إلى فاتحة انتهاكات ممنهجة

 يعدّ هذا الانتهاك مؤشرًا خطيرًا على الانحراف في سلوك أجهزة الدولة تجاه المعارضين. والتصدّي له يقتضي فرض استتباع إجراءات المساءلة، من الجهات القضائية والسياسية والإدارية كلّ في نطاقه، وذلك كي لا تتحوّل الحادثة إلى فاتحة انتهاكات ممنهجة تخرج عن نطاق الحادثة الفردية أو المعزولة.

وإن الخطر الجسيم في صورة عدم مساءلة المتورّطين هو أيضًا فيما يعنيه ذلك من رسالة ضمنية لأعوان الدولة لتكرار نفس الممارسة مع المشتبه بهم، وبنطاق أوسع. وبذلك، تتعزّز الحاجة لتكون الحادثة محطة توقّف لأنّ تجاوزها لا يعدّ فقط مواصلة لتكريس الإفلات من العقاب، بل يعدّ، في السياق الراهن، إيذانًا بدخول مرحلة جديدة من الانحرافات الخطيرة في البلاد.