30-أغسطس-2024
في البحث عن الأوشام السرية لدى المرأة التونسية

التونسيات اللاتي مِلن للوشم، كان مَيْلُهن لغايات جمالية شديدة الخصوصية (pinterest)

 

لم يكن الوشم أو "الوِشامْ" يومًا غريبًا عن الإنسان ذاك الكائن الرامز الناطق الحالم، الغنيّ بتفرّده وحريته وخياله الجامح وهو ما رسم له خَطيَّة زمن لا نظير لها داخل منظومة الزمن الكوني أو الكلي والتي توافقنا حولها بمُسمّى اصطلاحي هو "التاريخ الأنتروبولوجي"، وذلك على اعتبار أن هذا الإنسان هو الوحيد على هذا الكوكب الذي يقيم في الدلالة والمعنى مع نفس إقامته في الواقع المعاش، وهو ما حدا به إلى استعمال "الوشم" كمستلزم من مستلزمات الزينة أو كنوع من الحلي الدائمة الثابتة ضمن دائرة التّجمّل التي تبهج الجسد وتُلِذّهُ وترونق الروح وتدعوها إلى الاختلاف والسفر.

اللافت للانتباه هو انشغال العديد من النساء في تونس بظاهرة الوشم، وهو انشغال يميل إلى السرية والتكتم ويبعد على أن يكون علنيًا مكشوفًا

ويحضر الوشم أيضًا كنوع من تجليات العواطف والأحاسيس المؤبدة الخالدة التي ترافقنا حد الرميم فيُوشّم الفرد منّا ذاكرته ويجعلها فاكهة لعينه، يراها في كل وقت وحين، بل ويحولها لغة سرية لا يفك شفرتها إلا هو، كما يذهب الوشم بكل رمزياته إلى دوائر الانتماء القبلي أو الجغرافي أو الحضاري أو الديني..

وتؤكد الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية والحضارية التي تناولت موضوع الوشم أنه مادة خصبة لفهم ما حدث في أزمنة بعيدة، والعود إليه يغنينا أحيانًا عن مكتبة بأسرها، كما تفسر تلك الدراسات قدرة الوشم على الاستمرار والتسرب من شقوق الزمن وتحوّله إلى لغة على حدة نفهمها وتُفهمنا ما يحدث في وجدان الإنسان.

أصبح للوشم مراكز تدريب خاصة يتخرج منها وشامون محترفون يمارسون مهنة دق الوشم على الأجساد بمقتضى القانون وتصاريح تسندها السلط الصحية

الوشم.. هذه اللغة العابرة للأزمنة وللحضارات والتاريخ، عادت بقوة في هذه السنوات الأخيرة، فنجدها قد تحولت إلى ظاهرة قوية ولافتة لدى أغلب شعوب المعمورة وخصوصًا بأوروبا، فطبقة نجوم الرياضة يظهرون أمام وسائل الإعلام بأوشام مكثفة على مناطق مختلفة من أجسادهم وأيضًا نجوم الموسيقى والسينما، الأمر الذي جعل الشباب يتأثر بهم فانخرطوا بدورهم في سياق الوشم فبات طلبة الجامعات يتحركون بأوشام.. وقد التقطت ماكينة الاتصال بالمجتمعات الغربية هذه الظاهرة فاستثمرت وسوّقت وفسرت الظاهرة وعُمّمت بين باقي الشعوب.

 

يُوشّم الفرد منّا ذاكرته ويحولها لغة سرية لا يفك شفرتها إلا هو!
يُوشّم الفرد منّا ذاكرته ويحولها لغة سرية لا يفك شفرتها إلا هو!

 

وقد رافقت تلك الظاهرة بروز طفرة تكنولوجية متطورة متعلقة بفنون الوشم كالإبر اللّيزرية ومعدات التخدير الموضعي والألوان الصّحية وفنون الرسم والتصميم والأدوية الصيدلية الخاصة به.. كما أصبح للوشم مراكز تدريب خاصة يتخرج منها وشامون محترفون يمارسون مهنة دق الوشم على الأجساد بمقتضى القانون وتصاريح تسندها السلط الصحية.

صاحب مركز وشم بحي النصر لـ"الترا تونس": في إيطاليا، انجذبتُ إلى عالم الوشم والتحقتُ هناك بمركز تدريب أين تعلمت أصول التوشيم، ودروسًا صحية تهم جسد الإنسان وبنيته النفسية

وفي تونس، برزت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة وهي آخذة في التنامي بين الشباب وفي الأوساط الفنية والرياضية، لكنها تحولت إلى تقليعة مجتمعية لا يهمها الطبقة أو العمر أو المكان أو الوظيفة، فصار الوشم يعترضنا في الفضاء العام كما نلمحه في المقاهي وفي أماكن السباحة والتريّض.

لكنّ اللافت للانتباه أكثر داخل المجتمع التونسي فيما يتعلق بالوشم، هو انشغال العديد من النساء بهذه الظاهرة، لكن هذا الانشغال يميل إلى السرية والتكتم أكثر منه أن يكون علنيًا مكشوفًا، فالنساء التونسيات اللاتي ملن للوشم، كان ميلهن لغايات جمالية شديدة الخصوصية، ولكل واحدة منهن قصة.

"الترا تونس" حاول التنافذ مع هذا الموضوع والتوغل في معانيه ونقل بعض تفاصيله الفنية والنفسية فكان التقرير التالي:

كان لنا موعد مع أيمن صاحب الكُنيتين "نينو" و"تاتو".. الأولى قديمة وقد رافقته طيلة إقامته بإيطاليا التي قضّى بها سنوات طويلة، والثانية جديدة أطلقها عليه زبائنه ومعارفه بعد استقراره بتونس، وهو صاحب مركز وشم بحي النصر، وهو من الأحياء الجديدة للعاصمة تونس.

 

الوشم
الوشم.. هذه اللغة العابرة للأزمنة وللحضارات والتاريخ، عادت بقوة في هذه السنوات الأخيرة

 

أيمن لا يبدو كثير الوشام، فقط لاحظنا مجرد خاتم مطرّز يوشّي بنصر يده اليسرى وقد فسر ذلك بأنه ذكرى خالدة لزوجته الإيطالية التي توفّيت في حادث مرور. وقد ذكر أيمن لـ"الترا تونس" بأنه متخرّج من مدرسة مهن التمريض بتونس وكانت له تجربة بعدة مصحات خاصة قبل انتدابه بأحد المستشفيات الكبرى ليتحصّل بعد مدة على عقد عمل بإيطاليا وتحديدًا بمدينة ميلانو شمال إيطاليا.. وهناك انجذب إلى عالم الوشم حيث لاحظ الإقبال الكثيف من قبل الشباب على فن الوشم أسوة بنجوم الكالشيو الإيطالي وبالفنانين والموسيقيين.

ويضيف أيمن أنه التحق هناك بمركز تدريب لمدة سنة كاملة حيث تعلم أصول التوشيم، إلى جانب الدروس الصحية التي تهم جسد الإنسان وبنيته النفسية وكل أساليب الوقاية من بعض المخاطر وأخلاقيات هذه المهنة شبه الطبية، مشيرًا إلى أنه تلقى أيضًا دروسًا في الفنون الجميلة تهم كيفية الرسم على جسد الإنسان وكيفية استعمال الآلات التكنولوجية اللازمة لممارسة هذه المهنة.

صاحب مركز وشم بحي النصر لـ"الترا تونس": أستقبل بمحلّي جميع الشرائح الشبابية من مختلف الطبقات المجتمعية وبدرجة أقل الفتيات والنساء المتزوجات

وأوضح أيمن أنه يستقبل بمحلّه جميع الشرائح الشبابية من مختلف الطبقات المجتمعية وبدرجة أقل الفتيات والنساء المتزوجات، وقد أفادنا بهذا الخصوص ومن دون إفشاء للسر المهنيّ أنّ أغلبهنّ يتجمّلن بالوشم من أجل حياة خاصة باذخة.

وبإحدى قاعات الشاي المتاخمة لمركز الوشم ذي الديكورات الفنية الفخمة الذي أنشأه أيمن منذ ما يناهز الخمس سنوات، التقينا أماني، وهي إحدى زبائنه، عزباء ولم تتجاوز عقدها الثالث بعد، أصيلة مدينة صفاقس وتشتغل بتجارة العطور.

بعد أن احتست ما تيسّرمن قهوتها "الفيلتر" السوداء، تحدثت لـ"الترا تونس" عن فتنتها بالوشم وهي تعتقد أنه من أدوات الزينة المتروكة. وتذكر هنا أن جدّتها لوالدها كانت تحمل وشمًا أمازيغيًا جميلًا بوجهها وعلى ظهر يديها. وهنا فتحت هاتفها النقال لتطلعنا على صورة جدتها مشيرة إلى أنّ ذلك كان يبهرها ولطالما حلمت بأن تكون بأوشام كالجدة، وأفادت بأن المجتمع الحالي يرفض ذلك لأنه شديد المحافظة رغم تظاهره بالحداثة والتفتّح، لذلك جنحت إلى أوشام جميلة فأخفتها داخل جسدها وذلك حسب روايتها.

أماني (صاحبة أوشام) لـ"الترا تونس": أنا مفتونة بالوشم وأعتقد أنه من أدوات الزينة المتروكة.. جدّتي كانت تحمل وشمًا أمازيغيًا جميلًا بوجهها وعلى ظهر يديها، ولطالما كان ذلك يبهرني

أماني تحب أزهار القرنفل شكلًا ولونًا ورائحة.. فهي تشعر أنها تشبهها في تواضعها ورقتها وعبيرها، ومن أجل ذلك سعت إلى وشم زهر القرنفل في مكان ما من جسدها لم تشر إليه بالتدقيق خجلًا، موضحة أن الأمر لا يخلو من ذاتية وخصوصية مطلقة.

وأشارت أماني إلى أنّ وشمها للقرنفل جمّلها أكثر فأكثر، وأنّ والدتها على علم بذلك ولم تمانع ما لم يكن بارزًا للعيان، وأوضحت أنها لن تخفي ذلك منذ البداية عن زوج المستقبل.

كما عرّفنا أيمن على هاجر (اسم مستعار) وهي طالبة ماجستير في مجال التسويق الإلكتروني بالجامعة التونسية، وتشتغل في نفس الوقت بإحدى المؤسسات التجارية الخاصة، وقد أنجزت وشوماتها الصغيرة في مركز حي النصر.

أماني (صاحبة أوشام) لـ"الترا تونس": لم تمانع والدتي في أن أشم زهرة القرنفل بمنطقة في جسدي، ما لم يكن بارزًا للعيان، وأنا لن أخفي ذلك منذ البداية عن زوج المستقبل

هاجر تروي انشدادها للوشم وحبّها له عن طريق فن الراب الأمريكي، وأوضحت بهذا الخصوص أنها قرأت العديد من الدراسات عن الوشم في الولايات المتحدة الأمريكية وكيف تحول إلى محمل لرسائل كونية تهم الإنسان أينما كان مثل قضايا الحرية والسلام والبيئة.

وتضيف هاجر أنها لم تتجرأ على رسم كلمات أو شعارات أو رسومات إيحائية كما يفعل الفنانون، بل اكتفت بوشم سلحفاة بحرية مهددة بالانقراض وصورة أخرى لشعار الحرية وزهرة توليب موضحة أنها كلها من الحجم الصغير جدًا وجميعها مخفية.. فقط هي للمتعة الشخصية وفقها.

أما سليمة التي تشتغل بقطاع الصحة والمتزوجة من مصمّم أزياء، فقد أوضحت لـ"الترا تونس" أن زوجها الذي يحب الوشم وله عدة أوشام منها ما هو ظاهر للعيان ويفاخر بذلك بين الناس، هو من حثّها على وشم صور بعينها وفي أماكن بعينها من جسدها، كما حرص أن تكون مخفية على العيان.

متزوجة لـ"الترا تونس": زوجي يحب الوشم وله عدة أوشام، وهو من حثّني على وشم صور بعينها وفي أماكن بعينها من جسدي، كما حرص أن تكون مخفية على العيان

وتفيد سليمة بأنها ترددت في البداية لكنها عاشت المغامرة كاملة وأعجبتها، كما أوضحت أن الصور التي وشمتها وعددها خمسة هي جميلة وخالية من أي عيب أخلاقي وليست داكنة الألوان.

أما عن مدى تقبّل الوسط العائلي الموسّع الذي تعيش فيه لأوشامها فأكدت أن قلة قليلة تعلم بذلك واعتبرت أنّ الأمر شخصي للغاية ويمكن تنزيله ضمن الحرية الشخصية. وبخصوص إخفاء الرسومات فقد أرجعت ذلك لسطوة "المجتمع الذكوري الشرقي الذي ما زال مهيمنًا وجاثمًا على حرية المرأة في تونس" على حد تعبيرها.

التقينا نور وهي أربعينية وتشتغل بقطاع السياحة ولها تجربة طويلة بالفنادق التونسية، تروي قصتها مع الوشم قائلة إنها تحب هذا الفن القديم قدم الإنسان، وقد قامت بالوشم ذات سفرة إلى العاصمة الفرنسية باريس فرسمت في مكان ما من جسدها مجموعة من أوراق الأشجار مفسّرة ذلك بأن وجود الإنسان يشبه أوراق أشجار في مهب الريح.

أربعينية تشتغل بقطاع السياحة لـ"الترا تونس": وشمي كان مُكلفًا خاصة وأني قصدت عيادة مختصة ولم أذهب إلى أحد المراكز الكثيرة المنتشرة في فرنسا والتي تستعمل أحيانًا مواد غير صحية

نور ذكرت بأن وشمها كان مُكلفًا خاصة وأنها قصدت عيادة مختصة ولم تذهب إلى أحد المراكز الكثيرة المنتشرة في فرنسا والتي تستعمل أحيانًا مواد غير صحية، مشيرة إلى أنها سعيدة بوشمها وعائلتها لم تستقبحه.

  • رأي علم النفس: "المرأة التي تخفي وشمها تعيش تمزقًا بين حريتها الشخصية وسطوة المجتمع المحافظ

الأستاذ نوفل بوصرة  المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية، أوضح منذ البداية أن الوشم هو جزء من البنية الرمزية للإنسان، وهو لغة مكتملة التعبير تقول كل شيء: الدين والهوية والطبيعة والمشاعر والوجود.. لكنها في الوقت نفسه لغة مشفّرة تتطلب شيئًا من التأني والتأمل حتى نفهم بلاغتها، وقد توخاها الإنسان القديم والحديث ضمن دائرة البحث عن الخلود والبقاء.

 

وشم
يبقى الوشم سلوكًا بشريًا قديمًا يراوح بين الفن والحضاري، ومسكون في الوقت نفسه بروح التجدد

 

مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": الوشم مرتبط أساسًا بـ"الحميمي" والقريب.. حيث ثمة أحداث ووقائع معيشة تنطبع في الذاكرة إلى الأبد فنودّ حملها معنا أينما حللنا لذلك نوشمها على أجسادنا

وأشار الأستاذ المختص في علم النفس، إلى أن الوشم مرتبط أساسًا بـ"الحميمي" والقريب.. حيث ثمة وقائع معيشة تنطبع في الذاكرة إلى الأبد فنودّ حملها معنا أينما حللنا لذلك نوشمها على أجسادنا

وبيّن أن الأمر لا يخلو من شجاعة ما، سواء تعلق أمر الوشم بالرجال أو النساء، موضحًا أن البنية النفسية للإنسان هي ذاتها بالنسبة للجنسين.

وبخصوص وشم المرأة قال محدثنا إنه إذا ما نظرنا إلى المسألة من زوايا تاريخية وأنثروبولوجية، فإننا نجد أنّ الوشم قديمًا كان حكرًا على المرأة وكان يُرسم فقط على المناطق المكشوفة من جسدها، وكانت له وظيفة جمالية حتى إنه اعتُبر في بعض الحقب "الحُليّ الخالدة".. لكن في عصرنا الحالي تغيرت الوظيفة القديمة المتسمة بالبساطة لتحل محلها الوظيفة الرمزية لنقل المشاعر عبر رسائل تكتب على صفحات الجسد.

مختص في علم النفس لـ"الترا تونس": الوشم قديمًا كان حكرًا على المرأة وكان يُرسم فقط على المناطق المكشوفة من جسدها، وكانت له وظيفة جمالية حتى إنه اعتُبر في بعض الحقب "الحُليّ الخالدة"

وفسّر الأستاذ نوفل بوصرة المختص في علم النفس، إخفاء المرأة التونسية للوشم المرسوم على جسدها بالتمزق النفسي بين حريتها الشخصية ومجابهة سطوة المجتمع التونسي المحافظ والمنشدّ إلى هويته العربية الإسلامية، وفق قوله.

يبقى الوشم سلوكًا بشريًا قديمًا يراوح بين الفن والحضاري، ومسكون في الوقت نفسه بروح التجدد، فهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة الشعوب والأمم والمجتمعات ويتزين بالراهن على مستوى الشكل والمضمون وذلك لضمان استمراريته داخل عاصفة الثورة الاتصالية وهو فعلًا ما لمسناه من خلال هذا التقرير.